تساؤلات حول الدراما الرمضانية

الخطير هو تسلل الأجندة السياسية لأكثر من شركة إنتاج نافذة، سواء من حيث التمويل أو التسويق، غالبيتها كما هو معروف شديدة الصلة إما بعوالم النفط والغاز المسال، وإما باستراتيجيات ذكية لبعض الدول العميقة.

لم يعد شهر رمضان، شهراً لترميم الأبدان والأرواح وجهاد النفس واستجلاء الوظيفة الاندماجية وسيكولوجيا الأعماق الجمعية في الطقوس المغيّبة، بل تم اختطافه بعيداً عن كل ذلك، وصارت الدراما التلفزيونية جزءاً من هذا الاختطاف، ولا سيما أن هذا الحقل من الفنون لا يمتلك القيمة العميقة الثقافية للمسرح والموسيقى والسينما.

والأسوأ، بل والأخطر من ذلك، تسلل الأجندة السياسية لأكثر من شركة إنتاج نافذة، سواء من حيث التمويل أو التسويق، غالبيتها كما هو معروف شديدة الصلة إما بعوالم النفط والغاز المسال، وإما باستراتيجيات ذكية لبعض الدول العميقة.

ولو أخذنا المسلسلات الأكثر انتشاراً بحسب (مراصد) مكرّسة على الصعيد العربي، فأبرزها:

-  المسلسل المصري – الحشّاشون.

-  المسلسلات ذات الصلة بالبيئة السورية، مثل تاج، العربجي، أولاد بديعة، وكسر عظم.

وكما سنلاحظ، فإما أنها تدور حول توظيفات (للبطل الهامشي) سلباً أو إيجاباً، أو حول سوريا دون غيرها من عوالم يلفّها صمت المنتحبين وبراميل النفط والغلمانية الثقافية الجديدة.

الحشّاشون

ابتداءً، مشكلة هذا العمل في نصوصه لا في الإخراج ولا في التمثيل ولا في الإمكانات المسخّرة له، فنحن إزاء مستويات متقدّمة للغاية، لكن شخصياته الأساسية: الحسن الصباح، نظام الملك، عمر الخيام، والغزالي، لم تقدَّم من حيث النصوص والحوار بالمستوى الذي ينسجم مع حضورها التاريخي، وخاصة الحضور الفكري والمعرفي، بل إن الرسائل السياسية التي تقف وراء إنتاج هذا العمل لن تصل، ربما لأن الجانب الفكري الذي ميّز هذه الشخصيات كان أكبر من المعالجة التي توارت أو كانت دون هذا الجانب:

- لم يكن نظام الملك والغزالي معاً شخصيتين عابرتين بل كانتا جزءاً من اشتباك المشاريع السياسية – الأيديولوجية آنذاك، ورغم أن كليهما فارسيان من طوس وجوارها (مدينة مشهد حالياً)، إلا أنهما أسسا علمياً لدور تركي توسّعي بدأ مع آل سلجوق وانتهى مع آل عثمان، وجرى من تحت قناطره كلّ مياه السلطة العثمانية التي صادرت التاريخ العربي 5 قرون، وانبعثت مجدداً في سياق الخوف الأميركي من الانبعاث الأوراسي.

- بالنسبة للخيّام، فقد شكّل، ولا يزال، في رباعياته وعلومه في الرياضيات والفلسفة والفلك، حالة عابرة للأمم والثقافات، وما من حقل إنساني معاصر لا ترى الخيّام فيه، من الشعر والآداب عموماً إلى الصوفية والوجودية، وأسئلة الكون والحياة... وهو البعد الذي لم يظهر في المسلسل إلا بصور متناثرة هامشية.

- أما بالنسبة للصباح والحشّاشين فقد ركّز المسلسل على نشأة الصباح في القاهرة (مواليد إيران وربما قم) وانتصاره السياسي للنزاريين خلال الصراع على وراثة الخليفة الفاطمي، المستنصر، وذهب في إزاحة غير تاريخية من اللقب المعروف للصباح ومريديه (شيخ الجبل) إلى (سيد مفاتيح الجنة) متجاهلاً المعنى الترميزي للجنة في خطاب الصباح وثقافته. 

كما ركّز المسلسل على فرقة مقاتلي الخناجر التي أسسها الصباح وتراوحت تسميتها بين الفدائيين والأساسيين (من أساس) والاستشهاديين وبين الانتحاريين والحشّاشين (مفردة من اختراع العقل الاستشراقي). 

ومنذ سيطرتهم على القلاع الحصينة مثل "آلموت" على بحر قزوين ومصياف، وضع محاربو الصباح أنفسهم في مواجهة الجميع، الصليبيين والسلاجقة والأيوبيين والمغول، وأطاحوا برؤوس العشرات من قادتهم، وبينهم العديد من ملوك وأمراء الحملات الصليبية أمثال، كونراد وريموند، إضافة إلى الوزير السلجوقي، نظام الملك، وإلى تهديد صلاح الدين بوضع خنجر تحت مخدته وكان بوسعهم أن يقتلوه. 

وقد انتهوا كما هو معروف بعد وفاة الصباح عن عمر مديد، والهرم الذي دبّ في دولته مما جعلها لقمة سهلة أمام المغول. 

ما غيّبه المسلسل هو البعد المعرفي الذي استند إليه الصباح وفرقته المحاربة، وهو البعد الذي شكّله ابتداء من دراسته في الأزهر بعد قدومه من إيران، مروراً باهتماماته الكيميائية والخيميائية والفلكية والتراث الذي نهلت منه الإسماعيلية ورسائل إخوان الصفا، وشمل العلوم الطبيعية والرياضيات والفلك وكتابات فيثاغورس وأفلاطون إضافة إلى التراث الإسلامي. 

وقد لا يعرف البعض أن دراسات أوروبية وجدت تأثيرات سياسية وفكرية قوية للصباح ولرسائل إخوان الصفا عموماً في فرقة الكاثار التي لاحقها البابوات في فرنسا. كما في تجربة روبن هون بعد تحوّلاته وانشقاقه عن الملك ريتشارد قلب الأسد وكان من فرسانه خلال حملته على الشرق. 

مسلسل تاج

مسلسل تاج أيضاً وكما المسلسل المصري الحشّاشون، لا تعليق على التمثيل والإخراج والإمكانيات المسخّرة له، فالعمل من حيث الأداء والإخراج والديكور، تحفة فنية، لكن ما شاب هذا العمل الملاحظات الآتية:

- أن الإبداع المميّز للممثل تيم حسن في "الهيبة" و"ذئب العاصي" ربما أغراه وفريقه، الكاتب والمخرج على إعادة إنتاج هذه الشخصية وقراءة محطات من تاريخ سوريا وفق هذه الشخصية.

- قد تكون هناك شخصيات أو ظلال شخصيات من نمط تاج في تاريخ الحركة الوطنية السورية وغير السورية، ولكنها لم تكن، ومن غير المستحسن تسويقها كواحدة من السمات العامة، طالما خرجنا عن نطاق العمل الفني الخاص إلى الإطار العام، فإذا كان الأول مشروعاً ولا يحتاج لشهادة من أحد، فإن الإطار العام يقع في نطاق المسؤولية العامة.

- بالقدر الذي نحترم فيه حق الكاتب والمخرج بالتعبير عن نفسه ومقارباته، بالقدر الذي لا يجوز اللعب فيه وإرغام الوقائع التاريخية خارج سياقها وتوظيفها خارج لحظتها السياسية الزمنية وإقحامها بإسقاطات إشكالية، ومن ذلك على سبيل المثال، العلم أو الراية السورية التي رافقت الاحتلال الفرنسي لسوريا حتى إعلان الوحدة المصرية السورية 1958. ولو كان رفع هذا العلم في المسلسل جزءاً طبيعياً من هذا المشهد أو ذاك في مكتب أو تظاهرة، لكان ذلك مفهوماً ومشروعاً، لكن ربطه بيوم الجلاء والتركيز عليه لم يكن موفّقاً بالنظر إلى استعادة هذا العلم من قبل جماعة الثورة المضادة والملوّنة في العشرية السوداء الأخيرة.

ومن باب التذكير أيضاً فإن العلم المذكور هو العلم الذي صمّمته وفرضته قوات الاحتلال الفرنسي بعد احتلالها لسوريا، وذلك بديلاً لعلم الاستقلال الذي لفّت به جثامين أبطال سوريا الذين استشهدوا في معركة ميسلون 1920، وكان رمزاً لوحدتها، فيما عبّرت النجمات الحمراء الثلاث في العلم الذي فرضته فرنسا عن 3 حكومات طائفية شكّلتها بديلاً عن حكومة الاستقلال الوطنية، ومن المؤسف أن الأحزاب والكتل البرجوازية السورية، بما فيها الكتلة الوطنية برئاسة القوتلي، لم تستبدل هذا العلم حتى جاءت الوحدة المصرية السورية عام 1958 برئاسة جمال عبد الناصر واستبدلته بعلم الوحدة الذي لا يزال علم سوريا حتى اليوم.

- لا خلاف على الدور الوطني الذي أدّاه القوتلي في سوريا وتأييده الوحدة مع مصر الناصرية، لكن القوتلي أيضاً لم ينجُ من مصائد سماسرة الحوار مع الوكالة اليهودية قبل وخلال الحرب العالمية الثانية، ولم يجنّب سوريا المحاور الدولية وتجاوزاتها بين الاستعمار القديم البريطاني وأداته نوري السعيد في العراق، وبين الاستعمار الجديد الأميركي ونفوذه في المحميات النفطية والقوة التي تشكّلت على ظهر مدمّرة أميركية بعد لقاء روزفلت والملك عبد العزيز آل سعود.

العربجي في الجزء الثاني 

أيضاً، لا تعليق على المستوى والأداء التمثيلي والإخراجي على هذا المسلسل، الذي جمع ياخور وحداد وقندلفت مع السبيعي، لكن الملاحظات تأتي من زاويتين:

الأولى، البعد التقليدي الدارج في أعمال من هذا النمط، والثانية في إقحامات، متواضعة وأشكالية في الوقت نفسه، متواضعة من حيث الخلفية الفكرية والسياسية، وإشكالية من حيث المبالغة، كما "تاج" و"ذئب العاصي" و"الهيبة"، في توظيف شخصيات لا تشبه كثيراً النموذج المعروف للفتوات والشطّار والحرافيش، وتخدم فكرة متداولة عالمياً، تهمّش القوى الطبقية الأساسية وممثّليها لصالح هوامش اجتماعية، ينبغي الإشارة إليها دائماً مع الحذر الدائم من دفعها كبديل لقوى الصراع التاريخية.

وهو ما ينتهي كما انتهى المسلسل إلى تسويات ما بين القوى الهامشية وبين القوى الخارجية (المتصرف العثماني) في حال العربجي، التي لا تمانع من أجل تجديد هيمنتها بتسويات من هذا النوع تتخطى حليفها التقليدي.

ومن المعروف كذلك، أن القوى الهامشية قد تكون شعبية ووطنية وقد تكون قوى ظلامية وتكفيرية، والأخطر أن تتحوّل إلى (منصة) لتفريغ الاحتقانات العامة.

كسر عظم في الجزء الثاني

أيضاً، لا تعليق على المستوى والأداء التمثيلي والإخراجي على هذا المسلسل الذي جمع عساف والأحمد وعلا الباشا وآخرين، أما الملاحظات فأبرزها: هل يجرؤ منتج أو فريق عمل من الممثلين والمصورين والعاملين في المونتاج وغيره، أن يقدّم مسلسلاً أو فيلماً مماثلاً في أي بلد عربي آخر؟ ولماذا تركّز هذه الأعمال على سوريا دون غيرها، وطالما أنه لا يجرؤ أحد على ذلك، ما هو تبرير ذلك؟