تعطيل الحسّ النقدي

بين مطرقة الأنا المتضخمة التي تبحث عن التكريس، وسندان الجيوش الإلكترونية والمنصات التي تكرس الطاعة، يذوي الحس النقدي. يصبح العقل كالنبات الذي حرم من الشمس والماء، فيذبل ثم يموت.

  • (أليكس سانتافيه)
    (أليكس سانتافيه)

"المشكلة الأولى عندنا هي موت السؤال؛ موت القدرة على التساؤل. في تسليمنا بكل شيء لا مكان للأسئلة، ولا مكان للتفكير النقدي"، أدونيس.

**
نحيا في عصر لم يعد الصمت فيه فضيلة، ولا السكوت من ذهب، بل أصبحت علامة الإعجاب (اللايك) هي شهادة التكريس، والتعليق (الكومنت) هو التتويج. نجد أنفسنا إزاء مفارقة عجيبة: منصات تقدم على أنها ساحات للحوار الحر، فإذا بها تتحول إلى ماكينات ضخمة لـ "تعطيل الحس النقدي"، وفرض "الصمت الطوعي" على كل صاحب رأي مستقل أو مختلف، وإفساد مجالنا الفكري المشترك، عوض أن يكون هذا المجال ساحة نقد عميق وسجال راق يعززان ثقافة الحوار والاختلاف وقبول الرأي الآخر.

لم يعد الخطر كامناً في الرقابة التقليدية التي تمنعك من قول ما تريد، بل في رقابة جديدة، أكثر دهاءً وشراسة، تقنعك بأنك حر بينما تعيد برمجتك من الداخل. إنها معادلة تقوم على ركيزتين: تضخم الأنا الفردية، والقمع الجماعي الممنهج لكل رأي حر ومختلف، لا بالقتل والسجن والنفي والإبعاد كما تفعل الأنظمة المستبدة، بل بأشكال جديدة ومبتكرة تتماشى مع العصر الرقمي الذي يفرض نفسه على مختلف ميادين الحياة.

تورّم الأنا: السعي وراء المرآة لا النافذة

الأنا، ذلك الكائن الخفي، تنتفخ كالبالون في ساحات العرض الرقمي. لم تعد القيمة تقاس بعمق الفكرة أو جودة المحتوى، بل بعدد الإعجابات والتعليقات من نوع "رائع"، "مذهل"، "عبقري". كلمات إطراء جوفاء تتحول إلى حقنات "دوبامين" يومية تدمن عليها النفس، فتصبح غاية المنْتج والمتلقي على حد سواء.

لم نعد ننقد؛ لأن النقد، في أفضل أحواله، لا يجلب إلا القليل من تلك "اللايكات"، وفي أسوأها، يجلب سيلاً من الهجوم. فلماذا نخسر "جرعتنا" اليومية من التكريس لمجرد مساءلة فكرة أو تفكيك منطق؟ لقد تحولنا إلى نساخين لأفكار "ترندية"، نعيد تدويرها بحذافيرها، لا لأننا نؤمن بها، بل لأنها تكسبنا المزيد من المعجبين والمصفقين. 

عندما يتحول فيلم أو كتاب إلى ظاهرة (وهذا نادر قياساً بظواهر التفاهة)، نجد أن معظم النقاش يدور حول تفاصيل هامشية – ملابس البطل، مشهد رومانسي، حفل التوقيع، نوعية الحضور – متجاهلين الرسالة الجوهرية أو تقييم البناء الفني.

الأنا المتضخمة لم تعد تبحث عن الحقيقة، بل عن المرآة التي تريها محاسنها فقط. والحس النقدي، في هذه الحالة، هو ذلك الصوت المزعج الذي يكسر جمال الانعكاس. الرأي الحر والصريح هو نقيض هذا الورم الخبيث، لذا نرى الذين يجيدون المجاملة والتملق يتصدرون المشهد، فيما يجلس أصحاب الموقف النقدي في الظل.

الذباب الإلكتروني: إرهاب الكلمة الرقمي

أما الركيزة الثانية، فهي أكثر قتامةً وعنفاً. لقد أدركت سلطات متعددة – حكومات، أحزاب، وحتى "فانزات" المشاهير – أن السيطرة على العقول لم تعد بالسجن والنفي، بل بالضجيج والتشويه. هكذا انبثقت "جيوش الظل الإلكترونية". تلك الكيانات التي تنتقل كالسرب لتنقض على كل صاحب رأي نقدي.

لا حاجة لهم إلى حجج منطقية أو حوار عقلي. سلاحهم هو السباب، والشتائم، وتشويه السمعة، وخلق ضجيج يغرق الصوت النقدي في بحر من العواطف المسمومة. عندما يتجرأ مثقف على تشريح خطاب يعتبر من "المسلمات"، أو عندما تنتقد كاتبة ظاهرة اجتماعية راسخة، لا يناقشون حججهما، بل يهاجمون شخصيتهما. تترك الفكرة الجديرة بالنقاش ويرجم صاحب الفكرة.

والهدف ليس دحض الفكرة، بل تحويل صاحبها إلى خصم وعدو. في هذه المعمعة، يستنزف صاحب الرأي نفسياً واجتماعياً، ويشاهد الآخرون مصيره فيصابون بالرعب والخوف، فيختارون الصمت طوعاً. إنه "إرهاب الكلمة" بامتياز، حيث يقتل الناقد معنوياً خوفاً من أن تحيا كلمته، وتوقظ العقول الخاملة.

الطاعة الصامتة: رقابة الخوارزمية

ولا ننسى دور "الحارس" نفسه، تلك المنصات العملاقة التي ترفع شعار "ربط العالم" بينما تفرض عليه طاعة صامتة. إنها تمارس قمعاً ذكياً، تحت ذرائع "معايير المجتمع" الفضفاضة، التي تطبق بشكل انتقائي.

كل رأي يخرج عن "البرمجة المعدة سلفاً" – تلك الخلفية من المصالح السياسية والتجارية للشركات العملاقة مالكة هذه المنصات – يوضع في قائمة الشبهات، فيخفض توزيعه، أو يحذف، أو تعلق حسابات أصحابه.

لم نعد أمام رقابة الدولة فقط، بل أمام رقابة "الشركة"، رقابة الخوارزمية التي لا تعرف سوى لغة المصلحة والربح. إنها طاعة مفبركة، تقصي أي صوت يهدد النظام الجديد، نظام الاستهلاك والاستسلام.

استعادة العقل: من التشخيص إلى العلاج

هكذا، بين مطرقة الأنا المتضخمة التي تبحث عن التكريس، وسندان الجيوش الإلكترونية والمنصات التي تكرس الطاعة، يذوي الحس النقدي. يصبح العقل كالنبات الذي حرم من الشمس والماء، فيذبل ثم يموت.

إن التحدي الأكبر في عصرنا هذا لم يعد هو الوصول إلى المعلومة، بل استعادة القدرة على مساءلتها. يجب أن يبدأ الحل من رفض أن نكون مجرد ممثلين في مسرحية كتبت أدوارنا فيها مسبقاً. علينا تدريب أنفسنا على قراءة الآراء المخالفة بعقل منفتح، لا بهدف الرفض المسبق، بل بهدف الفهم، ومقاطعة ثقافة القطيع الإلكتروني وعدم الانجراف وراء ضجيج "الترند"، وتشجيع الحوارات الهادئة والعقلانية في مساحاتنا الخاصة، ومكافأة النقد البناء لا معاقبته، والضغط جماعياً على المنصات لتبني شفافية أكبر في خوارزمياتها ومعاييرها المجتمعية.

إن التمرد الحقيقي اليوم هو أن نتمرد على "تكريس" الأنا الزائفة ونواجه ضجيج القمع بثبات العقل وصمود الضمير. فالحقيقة لا تزهر في تربة الطاعة، بل في حقول الشك، والنقد، والحرية التي نرويها بشجاعة الفكر والنقد.

ختاماً، كل أمة، أو جماعة يتعطل حسها النقدي، لا سيما النقد الذاتي، ومراجعة الذات، والاعتراف بالأخطاء، واستخلاص الدروس والعبر، هي أمة تحكم على نفسها بالموت السريري حتى لو ظلت قادرة على التنفس والثرثرة!

اخترنا لك