ج.ج. بالارد: الصين ستعاقب بقية العالم وتنتقم انتقاماً مريعاً

يلجأ بالارد إلى ضمير الغائب في تدوين سيرته، كما لو أن الصبي الذي عاش الحرب هو شخص آخر بذاكرة تحتشد بمشاهد العنف والفوضى والخراب. 

  • رواية إمبراطورية الشمس
    رواية إمبراطورية الشمس

لا تنتمي رواية "إمبراطورية الشمس" للروائي البريطاني جيمس غراهام بالارد الصادرة عن دار ورد في دمشق وترجمة عبد الله فاضل ودريد يوسف، إلى الخيال العلمي، جرياً على عادته في أعماله الأخرى، بل إلى فظاعة وقائع الحرب العالمية الثانية التي شهدها في صباه من كثب، وتتكشف عن سريالية بلا ضفاف، نظراً إلى غرابة مشهديتها التي رصدها بعمق، إذ وجد نفسه في معسكر اعتقال في غياب والديه أثناء الغزو الياباني لمدينة شنغهاي الصينية. 

نحن إزاء سيرة ذاتية للمؤلف إذاً، ولمدينة شنغهاي أثناء الحرب، من جهةٍ ثانية، المدينة التي أخضعها اليابانيون بوحشية، فقد شهدت أسوأ الفظاعات، عدا المستوطنة الدولية التي لم تخضع للقوانين الصينية. 

هكذا بدا المشهد بعينيّ الفتى كما لو أنه مقتبس من موقع تصوير سينمائي، سينتهي إلى تفكيكه وإعادة تركيبه على نحوٍ آخر:" كانت شنغهاي بالكامل تتحوّل إلى شريط إخباري ينساب من داخل رأسه". 

تكمن أهمية هذه الوقائع في أنها مكتوبة بذاكرة "طفل الحرب". إذ يتآلف مع الموت بوصفه مشهداً اعتيادياً لفرط تكراره. يلجأ جيمس بالارد إلى ضمير الغائب في تدوين سيرته، كما لو أن الصبي الذي عاش الحرب هو شخص آخر بذاكرة تحتشد بمشاهد العنف والفوضى والخراب. 

إقرأ أيضاً: مو يان .. رائد أدب المقاومة في الصين

ستتسع وليمة العنف طرداً مع توتّر الأحداث، وذلك إثر الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر ‏ بغارة جويّة على القاعدة البحرية للأسطول الأميركي، ما أرغم واشنطن على الدخول في الحرب (1941)، وصولاً إلى كارثة مدينة ناغازاكي التي أبيدت تماماً بقنبلة ذرية أميركية خلّفت آلاف الضحايا والمشوهين، بعد رفض اليابانيين الاستسلام. 

ستطارد هذه الكارثة ذاكرة الراوي مثل لعنة أبدية، وستقلب حياته رأساً على عقب، تبعاً للأهوال التي شهدها في طفولته الممزّقة. سننتبه إلى هوس الصبي بمشاهدة الأفلام، وإذا به يجد نفسه هذه المرّة أمام شريط واقعي أكثر فتكاً: نزاع بين بريطانيا واليابان على وشك الانفجار، وسفن إمداد ألمانية، وحالات إجلاء جماعية، وسيوف تلمع في الشمس، وتوابيت طافية على سطح نهر يانغستي، محاطة بالأزهار الاصطناعية. وطائرته الخشبية لا تشبه الطائرات الحربية المفزعة التي كانت تحلّق يومياً في سماء شنغهاي. 

صور متلاحقة تضغط على ذاكرة الصبي الإنكليزي وتنقلاته من مكان إلى آخر بحراسة الجنود اليابانيين، وعلى رغم مكابداته في معسكرات الاعتقال، فإن جيم بالكاد يذكر أجواء المعارك بقدر عنايته بهوامش الحياة اليومية، كاهتمامه بسلحفاة مهجورة أو تأمل بهجة العشب أو كيفية إيقاد النار تحت وعاء البطاطا المسلوقة، أو وصف معركة بين معتقلين حول حذاء مهترئ، موثّقاً يوميات 3 سنوات من الاعتقال، "أثاره احتمال أن يُقتل، بعد حالات الضياع في الأسبوع المنصرم، بات متقبّلاً لأي نهاية، ذلك أن روح جيم قد غادرت جسده مسبقاً". 

سنلتقط هنا وهناك إشارات تمنح حياة البؤس أملاً غامضاً بالنجاة حتى في أكثر اللحظات رعباً بسرديات تستدعي معنى آخر للعيش، "لم يكن لديه سوى بضع ثوان يخصصها لكل ميت عديم الصبر"، مؤجلاً حلمه بالتحليق بعيداً رفقة طيّار ياباني، ونسيان آثام الحرب إلى الأبد. 

من فصلٍ إلى آخر، يتخذ السرد مسالك متعددة تبعاً لوعي الراوي وتوترات الحرب، وتعدد الغزاة، وبضربة مباغتة يغلق القوس على شاشة سينما تعرض أفلاماً إخبارية عما جرى في الحرب، لكنها بالنسبة إلى جيم كانت مجرد ماكيت هشّ عمّا عاشه فعلاً من أهوال وكوابيس ورضوض روحية. بانتهاء الحرب، عادت الحياة إلى شنغهاي تدريجاً، وكان على الفتى أن يتجوّل من صالة سينما إلى صالةٍ أخرى، كمن يستعيد طفولته المنهوبة، كما سيزور معسكر الاعتقال، وقد اختفت مقبرة المعسكر وسوّيت القبور بعناية "وكأن سلسلة من ملاعب التنس على وشك أن تُقام". 

سيلتئم شمل العائلة أخيراً، ولكن بندوب لا يمكن نسيانها، وكان لا بد من العودة إلى بريطانيا رفقة والديه، في إشارة صريحة إلى أفول "إمبراطورية الشمس المشرقة". لن تتوقّف ذاكرة جيم عن استعادة صور الموتى المبعثرين في ملعب الكرة، وبرك الماء الموحلة ومقابر السيارات. 

يقول مؤبّناً أحد أصدقائه" عاش على حبة بطاطا واحدة وجدها في جيب سروال أحد الموتى، وعلى الأرز المتعفّن الذي رماه اليابانيون نحوه". 

سيتكرر السؤال مراراً "هل انتهت الحرب؟"، أجل "لقد أعلن الإمبراطور الاستسلام تواً"، ولكن، ماذا بخصوص فوضى ما بعد الحرب، وذلك الوميض الذي أطلقته قنبلتا هيروشيما وناغازاكي، وقتل مليون شخص؟ أسئلة لن يجيب عنها أحد بيقين تام. إذ لم تتوقف أصوات القنابل وأزيز الطائرات هنا وهناك" من الأفضل أن تكون الحرب قد انتهت، فالحرب التالية ستندلع في أي وقت".

صور أخرى ستتدفق طوال الطريق من معسكر الاعتقال إلى شنغهاي "جثة ساعي بريد ياباني ملقاة بجانب دراجة نارية. كانت الجثة مفجورة الرأس وقد انتشرت من حولها ديدان الدم ونسيج الدماغ الذي لطّخ الأشجار على جانب الطريق". 

صورة من هذا الطراز تبدو كما لو أنها مقتطعة من شريط سينمائي. على الأرجح هذا ما أغرى المخرج الأميركي ستيفن سبيلبرغ بتحويل هذه الرواية إلى السينما (1987)، إذ تحتشد بالصور المشابهة التي تنطوي على مهارة في توثيق لحظات إنسانية هاربة من الجحيم، فهنا مخزن للصور أكثر منه مشتلاً للتخييل، فوسط الضياع وانشغال الوالدين في حفلة تنكريّة، يقع الفتى في قبضة رجلين أميركيين، وحين ييأسان من بيعه يعرض عليهما صفقة تتعلق بإرشادهما إلى البيوت المهجورة لنهب أثاثها بما فيها بيت أهله، ليكتشف أنه محتل من القوات اليابانية، إلى أن يُعتقل الثلاثة معاً كأسرى حرب.

تتمحور الرواية في جانبٍ منها حول معنى الهجران والذعر: أحواض سباحة خالية، طائرات محطّمة، أبنية مهجورة ومدمّرة، جثث في العراء، وإذا بالمشهد أشبه بمسرح مهجور للأفلام الإخبارية، فتتداخل الصور الحقيقية والصور المتخيّلة، ويختلط ملصق إعلاني لفيلم "ذهب مع الريح"، مع شنغهاي المحترقة "لقد أيقن جيم الآن أن الحرب العالمية الثانية قد انتهت، لكن هل بدأت الحرب العالمية الثالثة؟". 

يغادر ميناء شنغهاي وهو يراقب صَلف البحّارة الأميركيين والبريطانيين مع المدنيين الصينيين المهزومين، فيدرك جيّداً ما يجول في خواطرهم "يوماً ما ستعاقب الصين بقية العالم وتنتقم انتقاماً مريعاً".