حرب

تسمية الرجل بحرب تعود إلى ذلك النوع من الأسماء الذي يراد به ترهيب العدوّ.

الحَربُ أوّلَ ما تكونُ فَتِيَّةً
تَسعى بِزينَتِها لِكلِّ جَهولِ
حتّى إذا استَعرَت وشَبَّ ضِرامُها
عادت عَجوزاً غَيرَ ذاتِ حَليلِ
شَمْطاءَ جَزّتْ رأسَها وتَنكّرتْ
مَكروهةً لِلشَّمِ والتقبيلِ

هذه الأبيات في وصف الحرب لا بل في هجائها هي أصدق ما قيل فيها من حيث التحذير من التسرّع في إشعالها، إذ هي في أولها كالفتاة الشابة الحسناء تغري الفتى الجهول المتحمس غير ذي التجربة فيتهوّر في إشعالها،حتى إذا اشتدّ أُوارها تحوّلت إلى عجوز وخطها الشيبُ لا زوج لها، و قد قصّت شعرها وصبغت وجهها بألوان منفّرة يأنف الرجل من عناقها.

قائل هذه الأبيات خبير في شؤون الحرب وشجونها وأحد أبرز فرسان العرب. خاض مئات المعارك وخرج منها منتصراً، أولاً في الصراعات التي كانت تنشب بين القبائل العربية المتناحرة على المغانم والسلب قبل الإسلام، وتالياً أثناء مشاركته في الجيوش العربية الغازية بعد الإسلام على الرغم من تقدّمه في السنّ.

هذا الفارس هو عَمْرو بنُ مَعدِ يَكْرِب (547 - 642). عاش نحو 100 سنة وتوفّي بالفالج في خلافة عُثمان بن عفّان، وكان في طريقه للقتال مع الجيش في بلاد فارس. كان رجلاً ضخم الجثة جداً وصفه بعض من رآه وقد أسنّ بأنه كان شيخاً عظيماً أعظم ما يكون من الرجال، أجشّ الصوت، إذا التفتَ التفتَ بجميع بدنِه. ورُوِيَ أنّ الخليفة عمر بن الخطاب كان إذا نظر إلى عَمْرو قال: "الحمد لله الذي خلقنا وخلق عَمْراً"، تَعجُّباً مِن عِظَم خَلقِه.

كان عَمرو بن مَعد يَكرِب يمنياً قَحطانياً متعصّباً ضد القبائل المَعَدّية العدنانية وكان يبالغ في وصف بطولاته في الجاهلية ويكذب في بعض أخباره. ولكنه "كان يكذب باللسان ويصدق بالفِعال"، كما قال عنه العلّامة الإخباري والأديب محمّد بن سلّام (757 - 845). روى أبو الفرج الأصفهاني (897 - 967) في كتابه "الاغاني" عن ابن سلّام قوله: "كان الأشراف بالكوفة يخرجون إلى ظاهرها يتناشدون الأشعار وما كان بين القبائل من حروب في الجاهلية. وذات يوم وقف عمرو بن معد يكرب إلى جانب خالد بن الصَّقعب،أحد فرسان قبيلة نَهْد وهو لا يعرفه، فأقبل عليه يحدّثه ويقول: أغرتُ على بني نهد فخرجوا يتقدّمهم خالد بن الصقعب فطعنته طعنة فوقع وضربته بسيفي الصمصامة حتى فاضت نفسه، أي مات. فقال له خالد: يا أبا ثَور، إن مقتولك الذي تذكره هو الذي تحدّثه، فقال عمرو :اللهمّ غفراً، إنما نتحدث بمثل هذا وأشباهه لنُرهب هذه المعدّية.

الحرب التي كان هذا الفارس الشاعر أحد أبطالها هي القتال بين فئتين عكسُها السِلم. ومن المقابلات اللطيفة بين الحرب والسلم  قول الشاعر الأندلسي عبد الجبّار بن حمديس (1056 - 1133) متغزّلاً:

مَن كانَ يَعذُبُ عندَها تَعذيبي
أنّى تَرِقُّ لِعَبرَتي ونَحيبي
كيفَ السبيلُ إلى لِقاءِ غَريرَةٍ
تلقى ابتسامَ الشَيبِ بالتَقطيبِ
مِن أينٍَ أرجو أن أفوزَ بِسِلمِها
والحربُ بينَ شبابِها ومَشيبي 

وسمّت العرب الرجلَ حرباً. وحرب بن أُمَيّة بن عبد شمس من سادات قُريش وهو والد أبو سفيان (اسمه صخر)، وجدّ معاوية. وكانت الحرب شبه دائمة وقائمة بين القبائل العربية في الجاهلية، وتسمية الرجل بحرب تعود إلى ذلك النوع من الأسماء الذي يراد به ترهيب العدوّ. هذا على الرغم مما قيل في شؤم الحرب وعواقبها من قتل سبي وخراب. من ذلك ما جاء في معلَّقة زُهَير بن أبي سُلمى (520 - 609) التي مدح فيها سيّدَي بني غطفان هرم بن سِنان والحارث بن عوف اللذين أوقفا الحرب وأحلّا السِلم بين بني عَبْس وبني ذُبيان فرعَي قبيلة غطفان حيث يقول:

وما الحربُ إلّا ما علِمتُم وذُقتُمُ
وما هو عنها بالحديثِ المُرَجّمِ
متى تَبعثوها تَبعثوها ذميمةً
وتَضرَ إذا ضَرَّيتُموها فتَضرَمِ

واختُلِف في اشتقاق الحَرْب، أهي من الحَرْبِ، أي القتال، أو الهلاك أو اشتداد الغضب، أم هي من الحَرَبِ، أي السّلب وهو انتزاع الشيء والمال والمتاع بالقوة والقهر. وهو ما يذهب إليه أبو تَمّام الحبيب بن أوس الطائي (803 - 845) في القصيدة التي يتحدث فيها عن انتصار جيش الخليفة العباسي المعتصم بالله على الجيش البيزنطي بقيادة توفلس، حيث يقول:

لمّا رأى الحَرْبَ رأْيَ العينِ توفِلسٌ
والحَرْبُ مُشتقّةُ المعنى مِنَ الحَرَبِ
غَدا يُصَرِّفُ بِالأموالِ خُزيَتَها
فَعزّهُ البحرُ ذو التيّارِ والعُبَبِ
إنّ الأُسودَ أسودَ الغابِ هِمّتُها
يَومَ الكريهةِ في المَسلوبِ لا السَّلَبِ

وهذا أيضاً ما يذهب إليه ابن فارس (941 - 1004)  في "معجم مقاييس اللغة " فيقول إن اشتقاق الحَرْب من الحَرَب وهو السَّلَب. يقال: حَربتُه مالَه، وقد حُرِبَ مالَه، أي سُلِبه حَرَباً. وحَريبةُ الرجلِ: مالُه الذي يعيش به فإذا سُلِبه لم يقم بعده. ويقال أسدٌ حَرِبٌ، أي من شدّة غضبه كأنه حُرِبَ شيئاً أي سُلِبه. والحارِث الحرّاب ملك كِندة جدّ امرؤ القيس، سُمّي بذلك لأنه كان يحرُب الناسَ أي يسلبهم أموالهم.

وجاء في كتاب" الاشتقاق "لابن دُرَيد (837 - 933): "الحرب ضد السلم. قال أبو حاتِم: لا أدري اشتقاق (اسم) حرْب من الحَرْب أو من الحَرَب. وحُرِبَ الرجل، إذا أُصيب بماله، فهو محروب وحَريب. ورجل مِحرَب ومِحراب، إذا كان صاحبَ حَرْب يُسعرها. والمِحراب: صدرُ البيت وأشرف موضع فيه. وحرّبتُ السِنانَ، إذا أرهفته. وحرّبتُ الأسدَ، إذا أغضبته.

والحرب حروب، فمنها الحرب العالمية والحرب الإقليمية والحرب الأهلية وحرب الاستنزاف والحرب الوقائية والحرب الخاطفة وحرب التحرير . وللحروب أسباب عديدة، وبعضها يبدأ بالكلام كما قال نصر بن سيّار (663 - 748) آخر وُلاة الدولة الأُمَوية على خُراسان. كان قد لاحظ انتشار الدعوة العباسية على يد أبي مُسلِم الخُراساني وما تمثله من خطر على  حكم بني أمية، فكتب إلى آخر خلفائهم مروان بن محمد يخبره باستفحال أمر أبي مسلم وقال محذّراً: 

أرى تحتَ الرمادِ وميضَ جمرٍ 
ويوشِكُ أن يكونَ لها ضِرامُ
فإنّ النارَ بالعودَينِ تُذكى
وإنّ الحربَ مَبدؤها الكلامُ
فإن لم يُطفِها عُقلاءُ قَومٍ
يكونُ وَقودَها جُثثٌ وهامُ

وفي الخِتام هذا المقطع من ديواني"حُبّ لكل الفصول" بعنوان "الحُبّ والحرب":

الحُبُّ مهما ترى مِن لُطفِهِ خَطِرُ
يبدو وَديعاً وفيهِ العُنفُ مُستَتِرُ
وسَكرةُ الحُبّ لا تأمَنْ بَوادِرَها
كالحربِ تهدأُ حيناً ثُمّ تَستَعِرُ
لا يدخلُ الحربَ إلّا مَن أعَدَّ لها
وكُلُّ غِرٍّ يخوضُ الحُبَّ يَندَحِرُ
حُبٌّ وحَرْبٌ كِلا الأمرَينِ مُعتَرَكٌ
أهلُ الوَغى فيهِ مَهزومٌ ومُنتَصِرُ