حنا مينه: المنقّب عن الأماكن المجهولة في الأدب العربي

لم يتوقّف عن الإبحار، خاصّةً عندما نزل إلى اليابسة وجلس إلى طاولة الكتابة. تعددت ألقابه وكثرت كتاباته، ومن خلفها كلها ظلّ اسمه يتألّق. ماذا تعرفون عن الأديب الراحل حنا مينه؟

"الآن أتذكّر"، "لقلبكم الكريم أصرّح"... هاتان العبارتان بعضٌ من العبارات المعروفة لقرّاء وأصدقاء حنا مينه (1924- 21 آب/أغسطس 2018)، الذي يفتح عبر كتابته أبواباً لجلسات ودّ واستماع وبوح، بينه كروائي وبين الناس القرّاء، ملغياً المسافة التي تفصله عن مستمعه. بحميميّة يتقرّب مينه من كل قارئٍ على حدة، كأنّه صديق يسمع هموم ومشاغل وقضايا وأسئلة الكاتب، ويتقاسم معه حكايته، كما يتقاسم اثنان خبزاً وملحاً.

انطلاقاً مما سبق، يبدو أنَّ الكتابة عن حنا مينه لن تخلو من التورّط العاطفيّ، الذي ميّز كتابته هو، وتبدو صعبةً أكثر بكثير عند الوقوف أمام وصيته التي كتبها في العام 2008، رافضاً أيَّ حفل تأبين أو خطاب عند دفنه، وملخِّصاً تجربته كلّها بالقول: "كلُّ ما فعلتُه في حياتي معروفٌ، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرّستُ كلَّ كلماتي لأجل هدفٍ واحدٍ: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذَّبين في الأرض، وبعد أن ناضلتُ بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأتُ الكتابة في الأربعين من عمري، شرّعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولمَّا أزل".

تتوزّع مؤلفات "أديب البحر" بين الرواية والقصة القصيرة والدراسات والمقالات والسيرة، وهي تحديداً: 35 رواية، مجموعتين قصصيتين، و8 كتب متنوعة.

مع ذلك، يبدو من غير الإنصاف تناول مينه ككاتب روائي فقط، من دون ذكر آرائه في الرواية، فهو مثل ماركيز وكونديرا وكولن ويلسن، له رأيه الخاص. وفي الحديث عن "التأصيل" الذي يدور في الفنون العربية منذ عقود، ولا سيّما المسرح العربي والمحاولات فيه، استطاع مينه، بلا ضجيج، أن يؤصّل لرواية عربيّة، ومحليّة ضمن البيئة السورية ذاتها، وتحديداً بيئة البحر، بكلماته هو: "تصوير قطاعٍ عريضٍ من البيئة المحلية التي عشتها".

الكاتب الجريء: من البحر إلى الريف إلى الغابة

يذكر صلاح فضل في كتابه "أساليب السرد في الرواية العربية"، أنّ قصة حياة حنا مينه وُصِفت بأنّها "أجرأ سيرة ذاتية" كُتِبت حتى وقت كتابتها، وهي لم تكن كذلك إلا لكونها انعكاساً صادقاً وحقيقياً لحياة كاتبها، الذي أحسن توظيف تجاربه في كتبه التي تُرجمت إلى 17 لغة، كما كان له دور رئيس في تأسيس "رابطة الكتّاب السوريين"، واستمرّت جرأته في آرائه وحواراته ومقالاته.

استطاع "نجيب محفوظ الرواية السورية"، وحجر الزاوية في عمارتها، والأب الروحي لسُلالتها، كما يوصف، عبر تنوّع نتاجه ومساراته الحياتية والأدبية، خَلق حالة ثقافية خاصة لإنسان واحد، ووضع الرواية في مسارها الفني الأصيل، بعدما كانت قبله "مجرد تمارين مدرسية"، وفق تعبير الناقد فيصل درّاج. 

بدأ مينه مشواره الكتابيّ من عالم البحر والموانئ والصيادين، وما يحدث فيه من صراعات، كما يتجلّى في روايات "الشراع والعاصفة"، "حكاية بحّار"، "الدقل"، "المرفأ البعيد"، و"نهاية رجل شجاع". وله مع البحر ما لعجوز إرنست هيمنغواي في روايته الشهيرة "الشيخ والبحر". 

يحكي مينه عن ذلك: "يُقال إنّ البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إنّ معظم أعمالي مبلّلة بمياه موجه الصاخب. وأسأل: هل قصدتُ ذلك متعمِّداً؟ في الجواب أقول: في البدء لم أقصد شيئاً، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع الحياة، أما العواصف فقد نُقِشت وشماً على جلدي، إذا نادوا: يا بحر! أجبت: أنا! البحر أنا، فيه ولدت، وفيه أرغب أن أموت... تعرفون معنى أن يكون المرء بحّاراً؟ إنه يتعمّد بماء اللجّة لا بماء نهر الأردن على طريقة يوحنا!".

استطاع حنا مينه عبر تنوّع نتاجه ومساراته الحياتية والأدبية، خَلق حالة ثقافية خاصة لإنسان واحد، ووضع الرواية في مسارها الفني الأصيل، بعدما كانت قبله "مجرد تمارين مدرسية"، وفق تعبير الناقد فيصل درّاج. 

انتقل مينه بعد ذلك إلى الريف وظُلم الملَّاكين وبؤس المرابعين، وعالم الحارة الشعبية وأحياء الصفيح المهمّشة على أطراف المدن، كما في ثلاثيته الذاتية "بقايا صور، المستنقع، القطاف". وانتهى أخيراً إلى عالم الغابة والصراع من أجل الحياة، كما في رواية "الياطر"، وما تبعها من تنويعات في تقديم صورة الآخر في عدد من بلدان العالم (الصين، المجر، بلغاريا وبريطانيا)، ومن أعماله في ذلك "حدث في بيتاخو"، "الربيع والخريف"، "فوق الجبل وتحت الثلج"، و"حمامة زرقاء في السحب".

عن هذه العوالم التي ارتادها يقول: "أكره الطرق المعبّدة، دأبي اكتشاف المناطق المجهولة في أدبنا: البحر، الغابة، الجبل، الثلج، المعركة الحربية، البلدان البعيدة، النضال الوطني السرّي، الموت، الجنون، الشجاعة، البطولات الشعبية، الموروثات والمأثورات والصور الغريبة". ويكره مينه، كما يقول في كتابه "الرواية والروائي"، نصفه العاقل: "لماذا، نحن الأدباء العرب، في العقلاء جداً؟ ولماذا في القَعَدة؟ وأين الجنون والانتحار وعدم الانتماء؟ لا أحب الذين يستريحون على مؤخراتهم!".

غوركي ومينه والناس

  • مكسيم غوركي
    مكسيم غوركي 

يبدو غريباً ألا تحتوي الألقاب الكثيرة التي أطلقها معاصرو حنا مينه عليه، مثل "بلزاك الرواية السورية"، "زوربا الروائيين العرب"، و"روائي الزمن الصعب"، أيَّ تقاربٍ بينه وبين الكاتب الروسي مكسيم غوركي، رائد "الواقعية الاشتراكية". واحد فقط أطلق عليه لقب "غوركي العرب"، هو الشاعر نزيه أبو عفش. 

كتب حنا مينه في نهاية دراسته عن غوركي، المعنونة "غوركي والناس" (1968)، والتي نُشرت إلى جانب دراستيه عن ناظم حكمت ولينين: "الله! يا الله! أعطِ دنيانا المعذّبة إنساناً كهذا الإنسان".

فهم مينه، مثل ناظم حكمت وغوركي اللذين تأثّر بهما، أنّ للأدب رسالة ووظيفة: "إنّ الإيمان بالإنسان هو خلاصة فلسفة غوركي وجوهر عقيدته". وصيحة حنا مينه شبيهةٌ تماماً بصيحة غوركي: "ليس في مقدور الإنسان أن يكشف معنى الحياة وأن يفهمها إلا إذا أحبَّ الإنسانية حباً قوياً عنيفاً، وإنّ هذا الحب القوي العنيف وحده القادر على أن يمدَّه بما يتطلّبه اكتشاف الحياة وفهم مغزاها من طاقة وجهد".  

وصرّح مينه كذلك: "لقد تقضى العمر، في حلقاته المتتابعة، بشيءٍ جوهري لدي: هو تحقيق إنسانيتي، من خلال تحقيق إنسانية الناس".

صيحة حنا مينه شبيهةٌ تماماً بصيحة غوركي: "ليس في مقدور الإنسان أن يكشف معنى الحياة وأن يفهمها إلا إذا أحبَّ الإنسانية حباً قوياً عنيفاً، وإنّ هذا الحب القوي العنيف وحده القادر على أن يمدَّه بما يتطلّبه اكتشاف الحياة وفهم مغزاها من طاقة وجهد". 

إضافة إلى ذلك، فإنّ في نتاج مينه ما يشبه نتاج غوركي من "الواقعية الاشتراكية"، حيث أنّ بعض النقّاد يذهبون إلى أنّ قيمة نتاج مينه كامنة في نزعته التبشيرية، أو في مرجعياته الاجتماعية (عالم الكادحين والمقهورين)، أو في محاكاته لتطلّعات وأحلام الجماهير في تحقيق الاشتراكية في ذلك الزمن.

يذكر مينه في حواره مع كمال عبد الفتاح، عام 2002، أنّه الكاتب "الواقعي الرومانتيكي"، كما وصفته نجاح العطار، وإنّ قضيته هي قضية شعبه، حيث يقول: " كرّست كلَّ إمكاناتي الإبداعية للكلام عن هذا الشعب، وعن قيعان المدن والأرياف، والدفاع عن مصالح وهموم وتطلّعات الناس الذين يحبونني. قد نزلت إلى هذا الشعب وابتدعت لغة تعبّر عن همومه ومشاكله وقضاياه الساخنة ونضالاته في سبيل غدٍ أفضل".

الروائي مُنَظِّراً للرواية

وضع مينه كتباً عديدة في التجربة الروائية والإبداعية والتنظير لها، منها "هواجس في التجربة الروائية" (1982)، و"كيف حملتُ القلم" (1986)، و"القصة والدلالة الفكرية" (2000)، إضافة إلى كتابه "الرواية والروائي"، الذي يفرد فيه معظم آرائه وتجربته الشخصية في الكتابة، ويقول في مطلعه: "لم أكن أتصوّر حتى في الأربعين من عمري أنّني سأصبح كاتباً معروفاً، فقد ولدت، كما هو معروف عني، بالخطأ، ونشأت بالخطأ، وكتبت بالخطأ أيضاً". مينه، الذي يحسب نفسه "ناجحاً إلى حدٍّ ما"، حرص دائماً على شيئين: "الإيقاع والتشويق"، وكتب لغايتين: "توفير المتعة والمعرفة للقراء". إنّه "بابا نويل، أوزع الرؤى على الناس كي أفتح عيونهم على الواقع البائس".

كانت غاية مينه من كتابة الرواية "تصوير قطاع عريض من البيئة المحلية" التي عايشها. اعتمد هذا النوع من العمل الروائي على "الحدث"، وكانت الرواية بالنسبة له "أداة استيعابية"، ثم تنوعت رواياته بين "الحدث والموقف والرؤية"، لكنّها ظلّت في جميع أشكالها وأساليب تعبيرها تستند إلى "البيئة المحلية الشعبية والجماهيرية".

عانى مينه من قلقِ كتابةٍ رهيب، كان يعرفه أصدقاؤه، ويصفه هو على هذا النحو: "منذ أن تتجمع ذرّات الصورة الواقعية، عبر التجربة المأخوذة بوطأة معاناتها داخل المبدع، يحسّ بضغطها على نفسه المرهفة، إلا أنّه يتحمّل، يكابر، يصبر، حتى تتبدى هذه الصورة المتخيَّلة أكثر، حتى تتشكل بما هو أجلى، وتتبلور في الذات بحدثٍ ما، ناتج عن التجربة ذات المعاناة الشديدة. ويتّضح هذا الحدث وتكتمل معالمه، يتّضح ما يريد أن يقوله من خلاله، فيتمُّ الحمل ثم الوضع ثم الندم أحياناً، لأنَّ رسم الحدث والسياق والشخصيات، لم يكن على النحو الذي يرغبه صاحبه، وفي هذا قلقٌ يحرّك الطموح نحو الأفضل دائماً".

كانت غاية مينه من كتابة الرواية "تصوير قطاع عريض من البيئة المحلية" التي عايشها. اعتمد هذا النوع من العمل الروائي على "الحدث"، وكانت الرواية بالنسبة له "أداة استيعابية".

أما الحدث الواقعي، فيبيّن مينه أنَّ واقعيته لا تشفع له بالضرورة، "إذا لم ينعكس انعكاساً فنياً، ويصاغ بعد ذلك صياغة فنية، ويقدِّم دليلاً جديداً مع كل عطاء جديد على أن واقعيته قد أضافت قيمة إبداعية، أثبتت أنَّ الواقعية الخالقة تشكّل مدرسة إبداعية، هي الأساس لكلِّ المدارس الأدبية لأنّها تستوعبها كلّها، لأنَّ انعكاس الواقع لا يكون انعكاساً ميكانيكاً جاهزاً، وإلا جاء في إفراغه على الورق مسطحاً، فوتوغرافياً، مزيفاً، ودخل في باب الواقعية غير الفنية، التقريرية العجفاء والخائبة".

يَعدُّ مينه الرواية العربية "عطاء عصر النهضة"، بما كان لعصر النهضة من "انفتاح على الغرب والترجمة لأدبه"، ثم تطوّرت الرواية العربية تدريجياً، وصولاً إلى منتصف الأربعينيات من القرن الـ20، التي يؤرّخها كزمنٍ حققت فيه الرواية العربية "حضورها الدائم الفاعل، وفازت بهويتها نهائياً مع ثلاثية نجيب محفوظ، ثم دشّنت مع روايات سهيل إدريس، وعبد الرحمن الشرقاوي، وفتحي غانم، وغائب طعمة فرمان، وحنا مينه وغيرهم، عهداً واقعياً جديداً، كان خلفاً للعهد الرومانسي السابق، الذي كان أبرز ممثليه محمد عبد الحليم عبد الله وشكيب الجابري  وغيرهم". 

ويكمل مينه بالقول: "في المرحلة التالية، وعلى المهاد الواقعي نفسه، وبعد أن ترسخت الرواية كجنس أدبي معترف به، حدثت نقلة نحو الابتكار في الشكل، والجرأة في الطرح، فكانت روايات إبراهيم أصلان، الطيب صالح، عبد الرحمن منيف، إميل حبيبي، جبرا إبراهيم جبرا، وغيرهم، ثم الجيل التالي جمال الغيطاني، يوسف القعيد، صنع الله ابراهيم، إميلي نصر الله، غادة السمان، حيدر حيدر، هاني الراهب وغيرهم".

المرأة، البحر، وظمأ لم يرتوِ

  • الصلاة على جثمان حنا مينه
    الصلاة على جثمان حنا مينه

اخترق حنا مينه أجيالاً روائية سورية وعربية منذ عقود وحتى اليوم. وعند استعادته، تلاحقه الألقاب الاختزالية، فتكرّس أدبه لقراءة محدودة، ووفق مقولة محدودة جرى تكريسها بمرور الزمن، على أنّ أدبه يحمل قراءات واسعة ومختلفة، بمضامين كثيرة وعصيّة على الحصر. 

عاش مينه منذ الحبل به، وطيلة 94 عاماً بعد ولادته، كحارس للشقاء والأمل، وكانت وصيته الشهيرة "وصية رجل شجاع"، يريد أن يكتب سيناريو نهاية حياته بنفسه. يقول مينه إنّهم لو خيّروه كتابة كلام فوق شاهدة قبره، فسيكون ما يختاره: "المرأة.. البحر.. وظمأ لم يرتوِ".

حنا مينه هو بطل رواية إرنست هيمنغواي، "الشيخ والبحر"، التي يجيء في مطلعها: 

"- من الذي هزمك؟

- لا شيء، أنا الذي ذهبتُ بعيداً.

كان قد بلغ من العمر عتيّاً...".