خطورة سياسة القوى العظمى

يرى الكاتب أن النمط السائد في سلوك الدول العظمى هو رغبتها الحاسمة في إضعاف الدول الأخرى لكي تضمن الأمان فتواصل العمل على تطوير قواها وإضعاف جيرانها بحيث تحول دون تحوّلهم إلى أنداد يُملون شروطهم.

  • "مأساة سياسة القوى العظمى" لجون ميرشايمر

البروفسور جون ميرشايمر الملقب بـ" العرّاف الاستراتيجي"، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، يقدّم في كتابه نظرية بنيوية مبتكرة للسياسة الدولية أطلق عليها اسم "الواقعية الهجومية - Offensive realism "، يرى فيها أن الأساس الأول الذي تعتمد عليه القوى العُظمى هو القوة، وأن لها مناطق نفوذ تتحكّم من خلالها بالعالم و تدافع عن مصالحها في مناطق نفوذ خارج حدودها وعلى حساب الدول الأخرى. 

يعرض في كتابه "The Tragedy of Great Power Politics " مدرسة فلسفية في السياسة الدولية بموجب نظرية متكاملة وضعها بشأن طبيعة الصراع الدولي وأسبابه ودوافعه، متطرّقاً بجرأة قلّ نظيرها إلى المسكوت عنه مما لم يسبقه إليه أحد.

نظرية القوّة

تتبنّى الدول العظمى برأي الكاتب سياسة القوّة وهيمنتها، معتبرة أن القوة هي الأساس لبقائها. لذا، تعدّ هذه القوة وزيادتها باستمرار، هدفها الدائم، فتعمل من خلالها للحفاظ على سلطانها في عالم لا توجد فيه هيئة أعلى من الدول لحماية إحداها من الأخرى. من هنا، تتصرف باستمرار بطريقة عدوانية وتنافسية. وهذا ما يخلق المعضلات الأمنيه في العالم والحروب العدائية التي لا تنتهي. ومن هنا أيضاً لا تتوقف هذه القوى العالمية الجبارة عن مطاردة دول العالم الأخرى للحصول على مناطق نفوذ لها على حساب هذه الدول. 

وعلى الرغم من أن هذه الحقيقة غير مستساغة ولا مرغوبة حسب الكاتب، فإنها قائمة وحتمية، وهي التي تحكم سياسة الدول العُظمى التي تتحكّم من خلالها بالعالم.

فرضيات خمس

نظرية "ميرشايمر" في تفسير سلوك القوى العظمى وتنافسها الدائم لتحقيق القوة والهيمنة، تقوم على خمس فرضيات، جميعها ترتكز على مفهوم القوة وضرورتها.

الفرضية الأولى هي العدوانية والتنافسية. فالنظام الدولي حسب الكاتب، فوضوي ولا قيود له. والسبب هو عدم وجود سلطة مركزية أعلى من الدول تجبرها على احترام هذا القانون والسهر على حماية حقوق الدول. لذلك، تصبح القوة هي القانون.

الفرضية الثانية ترى أن القوى العظمى تمتلك بطبيعة الحال قدراً هائلاً من القدرة العسكرية الهجومية تمكِّنها من إلحاق الأذى أو حتى الدمار ببعضها البعض. لذلك، ينبغي لها أن تعمل باستمرار على زيادة قدراتها وتطويرها؛ لأن هذه القوة تبقى حصانها الرابح. 

وبما أن الدولة العظمى لا يمكنها أن تتيقّن من نيّات الدول الأخرى، ولا أن تتأكد من أنها لن تستخدم قدرتها العسكرية لمهاجمتها، فلا سبيل لها غير تدبّر القوة والمزيد منها للحفاظ على وجودها وهيبتها. وهذه هي الفرضية الثالثة.

وباعتبار أن البقاء وسلامة أراضيها ومصالحها واستقلال نظامها السياسي هو الهدف النهائي للقوى العظمى، فليس من سبيل يتيح لها ضمان كل ذلك غير القوة. وهذه هي الفرضية الرابعة.

وتبقى الفرضية الخامسة التي يطرحها الكاتب ومؤداها أن الدول العظمى باعتبارها فاعلاً عقلانياً يدرك بيئته الخارجية ويخطط استراتيجياً للبقاء فيها، فلا يمكن لهذه الدول سوى الركون إلى القوة في سبيل المحافظة على موقعها ومصالحها. 

ضد "فوكوياما" و"هنتنغتون"

الواقع أن ميرشايمر اختلف في آن واحد مع النظريتين اللتين حكمتا الفكر السياسي الغربي في العقدين الأخيرين، وهما نهاية التاريخ لـ"فرانسيس فوكوياما"، و"صدام الحضارات" لـ "صامويل هنتنغتون". فهو رأى على عكسهما أن "الدول الغربية لم تتجاوز احتمالية نشوب حرب في ما بينها"، وكان أول من "تنبّأ" بـ "حرب قادمة مع روسيا في قلب أوروبا"، (وهي الحرب الأوكرانية التي لم تلبث أن اندلعت بالفعل بتدبير واضح من الغرب. وبالمناسبة، كان يرى أنه ما من أحد سيدافع عن أوكرانيا مباشرة في حال قرر الروس مهاجمتها، بما في ذلك الولايات المتحدة، وخلص وقتها إلى أن "الأسلحة النووية الأوكرانية فقط، هي الرادع الوحيد الموثوق به لردّ العدوان الروسي وصدّه "... وهو السلاح الذي لم يعد متوفراً لدى أوكرانيا.

ثم، ومع استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014، لمع نجم ميرشايمر رائداً للمدرسة الواقعية التي يعرضها في كتابه موضوع المراجعة.

يعتقد الكاتب أن الأنظمة الدولية متعددة الأقطاب يمكن أن تكون أكثر استقراراً من نظام أحادي القطب، إذا أُدير تنافر المصالح بين أقطابها بما يحفظ مصالحها. 

والواضح اليوم أن التحولات الدولية تنتصر لرؤية ميرشايمر. فإذا كان بوسعنا اعتبار الحرب الباردة في منزلة سلام ممتد، كما يقول الكاتب، فإنه من الواضح أنها لم تكن سلاماً في الواقع إلا في الكتلتين الغربية والشرقية، وليس في دول جنوب العالم. فقد نظر إلى ما وراء الليبرالية والعولمة وأدرك أن الدوافع غير الاقتصادية للحروب ستبقى قوية ومحتملة، وأن السياسة لا يُمكن اختزالها في التفاعلات الاقتصادية وحدها. وهذا ما أثبتته أزمة العلاقات الأميركية-الصينية الآن، على الرغم من تشابك اقتصاد البلدين كما لم يتشابك اقتصادان عالميان من قبل. كذلك فهو لم يركز على أهمية الكرامة الأخلاقية والهوية، كما فعل كلٌ من "فوكوياما" و"هنتنغتون"، لكنه جادل بإصرار أن التجارة والقانون فقط لا يضمنان السلام. وبالتالي، فإن حيثيات النظام العالمي التي ما انفكت تتكرر منذ عقود طويلة، لا بدّ لها أن تكرر عملها المأساوي المعتاد. كذلك جادل في أن الصراع المستدام بين القوى العظمى يمكن أن يتحوّل إلى عملية استنزاف كبرى بين الدول والقوى العظمى المتنافسة والمتصارعة من أجل السيطرة والهيمنة. وهذا ما هو حاصل اليوم في أوكرانيا. وفي هذا الصدد، فهو يعدّ الصراع المحتدم هناك "كارثة هائلة" تجبر على البحث عن أسبابها".

والحقيقة أن لا سبيل للاختباء خلف الغربال. فأولئك الذين يتفقون مع المنطق والحقائق يدركون أن اللوم في هذه الكارثه يقع على عاتق الولايات المتحدة وحلفائها، ولا سيّما أن القرار الصادر في نيسان/ أبريل 2008 بشأن خطة ضمّ أوكرانيا وجورجيا إلى معسكر الناتو (وهو القرار الذي هندسه بوش الابن، ثم انصاع الحلفاء الأوروبيون للأمر)، كان محكوماً عليه أن يثير الصراع مع روسيا. ومن هنا، رأى ميرشايمر أن التنازل عن الهيمنة الأميركية في هذا الجزء من أوروبا كما في آسيا، ربما يكون أهون من حرب عالمية ثالثة من منظور واقعي.

بين الأمس واليوم

في أحد فصول كتابه يبحث ميرشايمر في "سلوك السياسة الخارجية لقيادات خمس قوى عالمية تضمّ نابليون فرنسا وألمانيا ثم ألمانيا الهتلرية وأخيراً الاتحاد السوفياتي واليابان". 

يشرح كيف تصرّفت هذه القوى على أمل تحقيق الهيمنة الإقليمية، ويرى أنها لم تنجح في ذلك إلا لوقت قصير فقط، في حين أن المملكة المتحدة والولايات المتحدة اللتين تتمتعان بقدرة هائلة على إظهار القوة عبر المحيطات، لا تزالان تتصرفان وفقاً لمبادئ الواقعية الهجومية، على الرغم من أنهما لا ترغبان في إظهار نزعتهما إلى السيطرة على أوروبا والعالم.

وحين ينتقل إلى الصين المعاصرة، يلقي الضوء على صعودها في القرن 21، بناءً على مبادئ الواقعية الهجومية. يقول إن الصين، وبفضل الازدهار الاقتصادي والنمو العسكري التدريجي، إنما تسعى إلى تفوّق قوتها على قوى الجيران في محاولة للهيمنة على آسيا. من هنا، يأتي قرارها القوي بدفع الولايات المتحدة خارج حديقتها الخلفية وخارج آسيا والمحيط الهادئ، ما يهدد سعي أميركا المستمر للهيمنة على العالم، ويمهد بالنتيجة إلى مواجهة تبدو حتمية. فالولايات المتحدة لن تتسامح مع ظهور هذا المنافس الجديد، وتُهيّئ لمواجهة طموحة، ولا شك أنها ستبذل جهدها لتقييد الصين بتحالفات فوقية طويلة الأمد، من دون أن يُلغي هذا احتمال اندلاع حرب صينية-أميركية تلوح نذائرها في الأفق".

وهذا ما يبدو منطقياً إلى حدّ بعيد، إذ يرى الكاتب أن "النمط السائد في سلوك الدول العظمى هو رغبتها الحاسمة في إضعاف الدول الأخرى لكي تضمن الأمان، وتواصل العمل على تطوير قواها بمختلف الوسائل، وإضعاف جيرانها بحيث تحول دون تحوّلهم إلى أنداد يُملون شروطهم". وبناء على ذلك، يقطع المفكر الأميركي السابح ضد التيار بأنه عندما تحاول واشنطن ترتيب العالم من حولها بهذه الطريقة، فإنه غالباً ما ينتهي الأمر إلى حدود السياسات الكارثية... وهذا هو السلوك الذي اتّبعته الولايات المتحدة الأميركية خلال مرحلة هيمنة القطب الواحد.

كشف السياسة الأميركية

من هذا المنطلق، يفضح ميرشايمر عدداً من الطروحات الأميركية التي عانى منها الشرق الأوسط، لا سيما في زمن ما عُرف بـ "الربيع العربي". 

ومن هنا أيضاً، يتهم الغرب بالإخلال بالوعد الذي قطعه الأميركيون للاتحاد السوفياتي عام 1989 بعدم التمدد شرقاً، ثم دعوة الرئيس بوش الابن إلى كل من جورجيا وأوكرانيا للانضمام إلى حلف "الناتو"، وأخيراً إطلاق الثورة "الملونة" عام 2014 لإطاحة صديق روسيا الرئيس الأوكراني السابق يانوكوفيتش.

وبقساوة غير مسبوقة من باحث أميركي، يتوجّه الكاتب باللوم إلى مخططات "الناتو" التي سعت لإنشاء حائط صدّ وردّ على حدود روسيا، حتى اضطرها إلى التحفز والانتباه. وبالتالي، فالخطأ برأيه يقع على عاتق أميركا بتأجيحها صراع القوميات وإشعال مخاوف الهويات بين الروس والأوكرانيين. وبالتالي، فالخطأ برأيه يقع على الأميركيين وليس على الروس، باعتبارهم الطرف الذي أطلق الصراع. وهذا يتناقض مع مبدأ مونرو الشهير الذي لا يقبل الأميركيون انطلاقاً منه، أن تأتي قوة مسلحة لتقيم لها وجوداً على حدودهم... وعليه يتساءل: أليس من الأجدى للأميركيين أن يُخرجوا الخشبة التي في أعينهم، قبل أن يطالبوا بإخراج القذى التي في أعين غيرهم؟

ويتوجه ميرشايمر السابح ضد التيار إلى قادة أميركا بالقول إنه "في عالم توجد فيه ثلاث قوى عظمى، الصين، روسيا، الولايات المتحدة (وإحداها أي الصين منافس قوي ومؤثر قادم)، فما كان ينبغي للأميركيين فعله هو أخذ روسيا إلى جانبهم، وأن يعملوا ساعات إضافية لخلق علاقات ودّية مع موسكو، كجزء من التحالف المتوازن ضد الصين، عوضاً عن السياسات الحمقاء في أوروبا الشرقية التي دفعت الروس إلى أحضان الصينيين، ما يُعدّ انتهاكاً لتوازن القوى ويُضر حتماً بالرصيد الأميركي في العالم". كذلك فالصين بوصفها قوة صاعدة، ستخلق لا محالة حقبة جديدة من التاريخ تشوبها الحروب والمواجهات الدامية. ذلك أنه نادراً ما تكون "تحولات الهيمنة سلمية" على حد قوله، أي عندما تبدأ قوة صاعدة في مقارعة القوة المهيمنة، فإن الحرب هي نقطة التحوّل الحتمية لإعادة تعريف موازين القوى.

وفي هذا السياق، يرى الكاتب أن أميركا هي من اخترع قصة عزم روسيا العدوان على دول أوروبا الشرقية، والزعم بأن بوتين مهتم بإقامة روسيا أكبر، أو ربما حتى إعادة إنشاء الاتحاد السوفياتي. فهو يرفض المزاعم الشائعة في الغرب بأن شهية بوتين مفتوحة لما بعد أوكرانيا، بل إنه يرى أن القيصر غير مهتم بقهر أو دمج أوكرانيا في روسيا، كما أنه لا يخطط لاحتلال دول البلطيق، لا سيما أنه يعرف أنها أعضاء في حلف "الناتو".

الخاتمة

يبدو ميرشايمر أشبه بعرافة دلفي عند اليونانيين القدماء. فقد نجح في قراءة المستقبل والتنبؤ بأحداث أوكرانيا قبل وقوعها بنحو ثلاثة عقود من حدوثها. غير أن هناك في واقع الأمر فارقاً شديداً بين الاثنين. فالمفكر الأميركي يقيم حساباته على أسس من العقل والمنطق، جنباً إلى جنب مع رؤى سياسية استشرافية ترتكز على تجارب سابقة، وليس من مجال عنده للعودة إلى البلّورة السحرية لعرافات القرون الوسطى. ومدرسته الفكرية تُجيب عن أسئلة دوافع الحروب والصراعات بين الدول والتنافس على النفوذ، من منطلق دراسة بنية النظام الدولي الذي يدفع هذه الدول إلى اكتساب السلطة من أجل ضمان البقاء. ولعل إشارته المتقدمة إلى رفض حرب العراق، تقودنا إلى انتقاد واسع لما عُرف بعقيدة بوش الابن، التي قامت على فكرة إنشاء ديمقراطية ليبرالية في العراق، واعتبار أن سيكون لها تأثير الدومينو، وستتحوّل دول مثل سوريا وإيران، وفي النهاية السعودية ومصر، إلى ديمقراطيات مزدهرة.