"خمسة أيام لم يسمع بها أحد"..ماترويشكا روائية عن الحروب

الزمن كان من أهم الركائز التي اعتمدها الروائي اليمني في نسج خيوط روايته، إلى جانب لهاث سردي يُمسك القارئ ويقحمه في مناخات الأحداث.

  • "خمسة أيام لم يسمع بها أحد" للروائي أحمد بدر.

يتمرس الروائي اليمني أحمد بدر في إدهاش القارئ، ويجعل معمارية روايته "خمسة أيام لم يسمع بها أحد" (دار دلمون الجديدة) أشبه بالفن الباروكي وزخرفاته وعنايته بالتفاصيل، رغم أن موضوعها هو الحرب والخراب والفساد الأخلاقي، إذ تشعر وأنت تقرأ عن تلك الفترة الزمنية القصيرة نسبياً (من 3 كانون الثاني / يناير وحتى السابع منه)، وكأنك تكشف حال البلاد العربية برمتها، خاصةً أن 240 صفحة لا تخبرك عن مكان دقيق للأحداث، بقدر ما تجعلك غارقاً في متاهتها المتواصلة. ورغم أن صاحب "بين بابين" ينبّه في بداية الرواية بأنه ليست الأحداث هي المهمة وإنما غرابة تَتَابُعها، فإنه بذلك يرسم لنا دوائر مختلفة الاتساع، لكن مركزها هو الإنسان المأزوم على هذه الأرض التي أدمنت شرب الدماء منذ فجر التاريخ. فما إن تنقضي حرب حتى تولد أخرى، وكأنها "ماترويشكا" عبثية من الحروب والأزمات. 

توسيع دائرة الزمن أحياناً كان سعياً من بدر لإيضاح ملامح شخصياته بماضيها وحاضرها، والبحث عن أسباب سلوكياتها وأزماتها النفسية والوجودية، وفي الوقت ذاته لرسم خريطة سياسية للبلاد، وحروبها الماضية التي كانت سبباً في الحرب الآنية التي تعيشها. ورغم أن الجميع نسي الأسباب التي دفعت إلى سفك كل تلك الدماء، إلا أن هناك من يعزز التعصب والتحيّزات الحزبية ويتاجر بالأرواح من أجل استمرار تجارته وزيادة مرابحه.

إذ بعدما استعرت الحرب بين العمالة الوافدة "الكوك" في جمهورية الموز وعمال البلاد، وعدم خضوع كارتل الموز لمطالب الأخيرين، واستقبال المزيد من العمال الأجانب بأسعار بخسة، وإخضاع أهل البلد للأسعار الجديدة لقاء خدماتهم، نشأت تنظيمات نقابية ثورية، هدفها تحصيل الحقوق المسلوبة من دون جدوى. وما أن أُنهكت البلاد واستثمرت معظم خيراتها، انتهت صلاحية الكارتلات التجارية والمستفيدين منها، وتم تهجير العمالة الوافدة، إلا قلة قليلة، صبَّ عليهم التنظيم الجديد، بعد سيطرتهم على سلاح رجالات الكارتل، جام غضبه، لدرجة أنه قام بقطع أصابع أيديهم وأقدامهم كي لا يتمكنوا من العمل في تجارة الموز مرة أخرى فيما سمي بـ"حرب الأصابع"، لتعود البلاد إلى صراعاتها الداخلية بين التنظيمات الثورية والجيش.

تركيبة الخراب العميم

شخصيات قليلة نسبياً تتضمنها الرواية، لكنها استطاعت بأبعادها الاجتماعية والثقافية والنفسية، أن تُكمِل تركيبة الخراب العميم، وتترك على مسرحه بصماتها الإنسانية الواضحة. 

زياد النقاش الذي جاءت الرواية على لسانه، شاب معطوب جسدياً بعدما نخرت البلهارسيا جسده طفلاً وتلاعبت بكبده، ومعطوب عاطفياً إثر قصة حب موؤودة، ونتيجة التزامه فيما أسماه سجنه ضمن ورشة الجبس والزخرفة، المهنة التي ورثها عن جده وأبيه، ولا يتحرر منه إلا عبر مذياع صغير، وامتلاكه قدرة هائلة على تفسير الأحلام. وعلى الرغم من إعفائه من الخدمة العسكرية كونه الذكر الوحيد لوالديه، إلا أنه تم سوقه إلى الخدمة، وهناك سيعيش تفاصيل الحرب بواقعيتها، بعيداً عن نشرات الأخبار، والأنباء المتواترة على الألسن. ففي معسكر الاستقبال ينجو من صاروخ اخترق سقف المهجع في ليلة خدمته الأولى، وبعدما تم توزيع المجندين على شاحنات لنقلهم إلى ساحات المعركة، يتعرضون لكمين من قبل الجماعات الثورية أودى بجميع زملائه ما عداه، إذ أسعفه سقوط جثة صديقه الضخم "سليمان" عليه، ومن ثم تمكن من الهرب عبر رمي نفسه في وادي سحيق تعرض إثره لرضوض جسيمة، لكنه لم يفقد حياته. وما إن وصل إلى نقطة للجيش كاد يُقتل بنيران صديقة، لولا أن أحد المجندين أنقذه بقدرة قادر، وبعد مداواة جروحه يجد نفسه على رشاش "بي كي سيه"، لردع الثوريين الذين انقلبوا على الجيش من مهاجمتهم، لكنه يقع أسيراً عندهم، ويحكم عليه المجلس الثوري وقضاؤه بالإعدام، لكن شفقةً تحل بجلاده فيوهم الآخرين أنه قتله في حين أنه ضرب مخزنه على الأرض بجواره وترك له عبوة ماء. كما أنه تعرض للضرب المبرح من قبل بعض الفلاحين الملتاعين من هجمات الجيش على منازلهم وحرقها وتدميرها بقذائف صاروخية من الطائرات، لكنه في كل مرة كان ينجو ويكتب له القدر حياة جديدة. 

وهناك محي الدين النقاش، والد زياد، ترك عمله في ورشة تصنيع الجبس، بعد توافد المشغولات الصينية التي تضاهي الصناعة اليدوية شكلاً، لكنها من دون روح كما يراها، وبات يتلهى في حوش منزله بتصليح الأدوات الكهربائية المعطلة. وشيئاً فشيئاً، ونتيجة اختلال حالته النفسية، أصابه "طاعون الصمت" وهو مرض ذهاني غير معدٍ، لينتقل بعدها إلى صناعة المنحوتات الخشبية التي وجد روحه فيها، ثم وعلى غير موعد ضرب مرض الإسقربوط جسده، فتورم فمه ولسانه، وظهرت القروح في أنحاء متفرقة من جسده، لتبقى سمته الأساسية هي الضجر والتذمر من كل شيء، واضعاً طيلة حياته مسافة وجدانية غريبة بينه وبين زياد وأخواته الثلاثة هناء وندى وإلهام، لتأتي أم زياد، "شفاء الشركسية"، وتردم تلك المسافة بمحبتها وعمق وعيها وحُسن إصغائها، برغم معاناتها من ضعف في السمع. وخير دليل على ذلك حروفها الباكية التي انتزعتها من أعماق فؤادها وهي تودع وحيدها الذاهب إلى ساحات الحرب "إن سمعتَ صوت الرصاص فاحتمِ في أي مكان، وتجنب الليل والخلاء! كُنْ جباناً يا ولدي! كُن جباناً، فلا شيء في هذا العالم يستحق أن تُرهق دمكَ لأجله"، وكأنها نموذج آخر من السيدة مريم تشاهد سَوْقَ ابنها إلى صليبه. 

جلّاد الدّاخليّة

ومن الشخصيات الرئيسية ناجي عواد تاجر الأسلحة، وصاحب السطوة حتى على قرارات المخفر في البلدة، فرض سلطته على مندوب الاستخبارات والاستطلاع وعلى ضابط صف التعبئة وغيرهم، وأيضاً على توزيع المعونات حسب الأهواء والمصالح بعيداً عن مستحقيها، فأصبحت كلمته هي العليا، ومصالحه هي الأجدر بالرعاية، وحين يصادف عقبة ما، لم يكن يتوانى عن تطبيق قاعدته الذهبية "ما منعه اللين، تأتي به الشدة". تركيبة نفسية مريضة ومعقدة، جعلته "جلاد الداخلية" الذي يبث الذعر في النفوس أينما حل، ويخبرنا الراوي بأبعاد تلك الشخصية وأسباب تراكم الشر فيها، فهو الطفل الذي نجى وحيداً من كارثة موت عائلته بأكملها، فتبناه أحد أبناء القرية، وعندما كبر ودخل في سلك الداخلية كلَّفه حادث لسيارته كسوراً كثيرة وجراحاً لا تُعد ولا تحصى، وخاصةً بعدما اجتمع حوله كارهوه وانهالوا عليه بالهراوات والعصي، ليكتشف بعد أسابيع في المشفى أن أهم ما فقده هو ذكوريته، ليصبح عنّيناً، ويزداد شراسةً وتجبُّراً، وشكّاً في كل من حوله، بمن في ذلك زوجته فتحية، والتي برغم حبه لها، إلا أنه استأصل رحمها، ليظل هاجس الأبوة يؤرقه، لذا كان يتشهّى كل النساء، ومنهم زوجة المختار الصبية، وعندما وجد في أخت زياد مبتغاه لتحقيق أبوته، أغرى عائلتها بأنه قادر على إعادة ابنهم إلى كنفهم بعيداً عن الحرب وأهوالها، ثم ما  لبث أن كشف رغبته بالزواج. لكن طلبه قوبل برفض عائلة النقاش وخاصةً الأم شفاء، فبدأ بإرسال زعرانه لإقلاق راحتهم، خاصةً أنه تبنى منذ زمن سياسة نزع المسامير التي تدق داخل رأسه، ومن تلك المسامير التي نزعها المختار الذي قتله ناجي بيديه العاريتين بعد احتدام النقاش بينهما عن مسؤوليته فيما حصل لبيت النقاش. لكنه كعادته كان أول الماشين في جنازته، وبسبب قصف لسرداق العزاء، وانفجار هائل حصل فيه خلَّف الكثير من الضحايا، أصابت تشوُّهات جسد جلاد الداخلية ووجهه، حتى خُيِّل للناجين بأنه أحد الموتى، وعندما استفاق من غيبوبته القصيرة هرب متخفياً عن الأنظار، لاسيما أنه بات ملاحقاً من قبل هيئة التفتيش بسبب صفقة كبيرة لتجارة الأسلحة. وبعد اكتشافه علاقة غرامية بين زوجته وأحد أساتذة الموسيقى في العاصمة، حاول أن ينزع ذاك المسمار برصاصة في القلب، لكنه توانى عن ذلك، ثم تتوالى عليه الأهوال والأوجاع ليردي نفسه قتيلاً برصاصة في الرأس من مسدسه الذي لا يفارقه. 

الزمن كان من أهم الركائز التي اعتمدها الروائي اليمني في نسج خيوط روايته، إلى جانب لهاث سردي يُمسك القارئ ويقحمه في مناخات الأحداث، كما اقتحم زياد في نهاية الرواية مجلس عزائه، بعدما ظنت والدته وإخوته بأنه مات نتيجة محاكمته من حركة التحرير الثورية المناهضة للجيش، لكنه عاد حيّاً، نفض الرماد عن صورته  المعلقة على باب منزلهم شهيداً، فهو منذ البداية لم يتخيَّل نفسه يوماً جزءاً من كرنفال القتل المفتوح، حينها أصابت جميع من في العزاء دهشة واختلال في المشاعر، لا يدانيها شيء إلا لغة بدر أحمد الشفيفة. وبمثال عليها أختم مقالتي على لسان زياد النقاش: "لست المسيح يا هؤلاء حتى أدفع ثمن أخطاء البشر، لم أقترف شيئاً يستحق كل هذا العقاب، ولستُ أنا من يستحق الموت! لست سوى بيدق خرج من المعركة قبل أن يدخلها، وقبل أن يعرف أين ساحتها! يا مشوار الألم القاسي انتهِ! يا دعوات أمي أحتاجك الآن! يا دمعات أبي الخجولة اشفعي لي! يا إلهي! يا كلَّ جميلٍ صنعته في هذه الحياة أغثني من أيدي الجلادين! يا من تعرف في علياء سمائك أني مظلوم، انتشلني من طاحونة العذاب هذه".