"ديستوبيا" مأمون الخطيب.. تلطيف الفاجعة

لطّفت واقع الفاجعة من دون التخلي عن جوهرها.. ماذا قدمت لنا مسرحية "ديستوبيا" لمأمون الخطيب؟

في عرضه "ديستوبيا" (عرض أمس الأحد على مسرح الحمراء بدمشق)، يسعى المخرج مأمون الخطيب إلى تلطيف واقع الفاجعة ومواربتها جمالياً، من دون التخلي عن جوهرها. إذ ما زالت عوالم الفساد الأخلاقي، والتجرد من النزعة الإنسانية، وقتل الطموح، والخوف، وانعدام أدنى مقومات الحياة الطبيعية... بمثابة القاعدة التي بني عليها العرض، لكن مع تجريبية تبتعد عن فجاجة الواقع، وتنحو إلى مقاربة المعنى الكامن فيه.

هذه المفارقة بين المظهر والجوهر هي ما ارتكزت عليه رؤية الخطيب، إذ جعل القذارة في المجتمع المحيط بالمزبلة وليس في مكب النفايات نفسه، والأسمال البالية لم تكن في ملابس الشخصيات وإنما في الظروف التي أدَّت إلي سكناهم في هذا المكان، بينما العفن والرطوبة فيكمنان في النفاق الاجتماعي الذي جعل من المزبلة مكاناً فاضلاً، وملجأ ًيحتمي فيه أصحاب الأرواح الرهيفة.

ويتضمن عرض "ديستوبيا" المقتبس بشكل حر عن نص "المزبلة الفاضلة" للكاتب السعودي عباس الحايك، يتضمن 5 شخصيات: الكاتب المقهور (جسّده إبراهيم عيسى) الذي على الرغم من سعة إطلاعه، إلا أنه بقي أسير الأفكار الفاضلة التي تشبَّع منها في قراءاته، وكرَّسها في مؤلفاته التي لم تشهد النور بسبب المحسوبيات الثقافية، وكي يحقق توازنه مع الواقع اكتفى بمقولات نيتشه عن الأخلاق والمجتمع، وبات يُنظِّر بها على زملائه في مكان إقامته الجديد.

القهر لم يقتصر على الكاتب، وإنما تعدَّاه إلى الممثل المسرحي الشاب (رامي خلو) الرافض للانخراط في دوامة الظهورات الدرامية التلفزيونية، والراغب بتحقيق ذاته عبر المسرح وحده بعد تجربة سينمائية وحيدة، ظهر فيها في لقطة عامة ومن دون أي كلمة، بعدما تمت منتجة مشاهده نتيجة رؤية تعسفية من المخرج، ولهذا اقتصر إبراز قدراته التمثيلية على مجتمع المزبلة، مُلوِّناً في أدواره الشيكسبيرية الصعبة، ومونولوجاته التشيخوفية، ومُفجِّراً طاقته التمثيلية إلى أبعد حد، لكنه رغم جرأته في الأداء، إلا أنه لم يستطع أن يحقق ذلك على أرض الواقع، إذ بقي حبُّه لإحدى الفتيات حبيس صدره.

بالمقابل فإن السيدة المصابة بالاكتئاب (جسّدتها رنا جمول) تداري خيباتها والظلم الذي تعرضت له بالموسيقى والاستماع إلى المحطات الإذاعية، على رداءة ما تبثه من أغنيات في كثير من الأحيان، ولا تخفِ نقمتها على بنات جنسها، لأنهن كن السبب الرئيسي في قهرها والرضوض النفسية التي أصيبت بها، ما جعلها كما جاء في مونولوجها المرتجل أشبه بفراشة ظلَّت إحدى خيوط شرنقتها مربوطة بها، ولم تستطع الفكاك منها والطيران نحو آفاقٍ أرحب.

الماضي الجاثم بكل ثقله على الشخصيات، برز أيضاً في شخصية الشاب البسيط (إبراهيم عدبة)، إذ إن الحرب أخذت منه أباه وأمه، ونتيجة الظروف القاهرة لم يستطع المحافظة على وعده لوالدته بأن يهتم بأخيه الصغير، ولذا رغم مشاكساته لجميع زملائه في مكب النفايات، إلا أنه كان أشرسهم في الدفاع على ألا يجلبوا الحرب إلى هذا المكان الذي يؤويهم بفضلاته وأفضاله.  

أما الشخصية الخامسة التي جسدها غسان الدبس فكانت للقشّاش الذي يُرهِب جميع القاطنين، وكأنه يحسدهم حتى على الخراب الذي يعيشون فيه، وينتهي فيه الأمر بإنذارهم للمرة الأخيرة بأن الجرافات ستأتي في الصباح لتأخذ عالمهم الجميل الذي كوَّنوه في هذه المزبلة، فنراهم يحتفلون بعامهم الثالث على الإقامة في هذا المكان الأثير على قلوبهم، ومع إطفاء شموع قالب الحلوى ينتهي العرض.

أجاد الممثلون في أداء شخصياتهم، وأشبعوها بالحيوية، نتيجة فهمهم لماضيها وحاضرها والسياقات النفسية والاجتماعية التي تشتمل عليها، لذا جاءت دوزنة انفعالاتهم متقنة في تقلُّباتها بين الفرح والحزن، الانفجار والسكون، البوح والصمت، وما زاد من جماليات حضورهم اللعب على المفارقات في المواقف الدرامية، من مثل أن تعطس الـ"جثة على الرصيف" التي كتبها سعد الله ونوس، أو أن يقوم سانشو الذي يجسده الشاب البسيط بضرب الممثل المتقمص شخصية دون كيخوته وعضه انتقاماً من أفعاله الواقعية لعدم رغبته السابقة بإشراكه في التمثيل، ولأنهما يحبان الفتاة ذاتها، وغير ذلك، بحيث أن تقنية المسرح داخل المسرح أتت أُكُلَها، وحققت تفاعلاً باهراً مع جمهور مسرح الحمراء الدمشقي.

اللعب على المفارقات انتقلت أيضاً إلى ديكور العرض الذي حققته ريم الماغوط حيث اهتمت بإظهار مكان الأحداث الرئيسي كمكب للأنقاض أكثر منه مزبلة، ومحاط بمجموعة من الأبنية البسيطة التي تبدو من دون حياة رغم توفر سبل العيش الكريم لدى ساكنيها، وكأنها على طرف نقيض من تلك المزبلة بكل ما اكتنفت عليه من حميمية عالية بين سكانها. وهو ما قاربته إضاءة بسام حميدي في انتقالاتها اللونية بين الأجواء الدرامية المختلفة في حاضر الشخصيات وماضيها، وبين الواقع والمتخيل، وبين قوة انفعال الشخصيات وهشاشتها وتمزقها الداخلي. ولم تخرج موسيقى محمد عزاوي عن هذا الفهم، إذ استطاعت بتركيزها على الآلات النفخية بأصواتها المديدة أن تجاري الزخم في المواقف الدرامية وتدعمه، بعيداً عن ميلودرامية مفتعلة لكسب التعاطف. كما جاءت أزياء أحمد العلبي، وماكياج إنجي سلامة، أن ينقلا روح الشخصيات بأبسط طريقة وأبهى حلة.  

وفي حديث خاص مع "الميادين الثقافية" أوضح المخرج الخطيب بأنه اشتغل في هذا العرض على أثر الحرب على الشخصية السورية، محافظاً قدر الإمكان على جوهر نص عباس الحايك، مع ارتجالات حرة، جعلته يستبدل شخصية الكهربائي بشخصية المرأة المظلومة، وأيضاً جعل من عامل النظافة البسيط الأحق بامتلاك المزبلة في نص الحايك قشّاشاً يحسد قاطنيها على الخراب الذي هم فيه ويرغب بالاستحواذ عليه وتحويله إلى مبنى تجاري ضخم.

وأضاف: "اشتغلت أيضاً على المقاربة الموجودة أساساً بين نص حايك ومسرحية الحضيض التي كتبها مكسيم غوركي، التي تعالج أيضاً عوالم الشخصيات البسيطة المهمشة التي لها ماضي زاخر، بالإضافة إلى أن جميع مونولوجات الممثلين ضمن ديستوبيا كانت مضافة في الارتجال الحر الذي أردته لكسر مباشرة النص الأصلي مع المحافظة على روحه وجوهره".

وفي كلمته على بروشور العرض اقتبس الخطيب من نيتشه قوله "نحن نحب الحياة، ليس لأننا تعودنا على العيش ولكن لأننا تعودنا على الحب" ،وختم تصريحه: "نحن السوريين تعرضنا لظلم كبير بسبب الظرف القاهر خلال ما يزيد عن 11 سنة حرب، كلنا مظلومون كسوريين، وفي هذا العرض آثرت التركيز على آثار الحرب، بدل الاهتمام بها كموضوعة سبق أن اشتغلت عليها في عروضي السابقة مثل "هدنة" وغيرها".