رائعة"نجمة": أسطورة أدبية وصورة شعب

جاءت "نجمة" أشبه بالرواية الجديدة حيث يصفها الناشر الفرنسي في تقديمه لأول إصدار لها بأنها "شيءٌ آخر، شيءٌ جديد، ميَّزها عن كل الأعمال السابقة حول الجزائر التي لم تأتِ بجديد لم تسبقها إليه الأعمال العالمية.

  • رائعة
    رائعة "نجمة" لكاتب ياسين

لا يمكن أن تتحدّث عن الأدب المقاوم من دون أن تتحدّث عن الأدب الجزائري الذي يعتبر قمّة الأدب المقاوم في العالم العربي، ولا يمكن أن تتحدث عن روائع هذا الأدب من دون أن تذكر "آباء الرواية الجزائرية" الذين صوّروا لنا معاناة الشعب الجزائري البطل من الاستعمار الفرنسي بصورة فنية رائعة وهو يخوض حربه الأخيرة للتحرير:

الطاهر وطار صاحب رائعة "الشهداء يعودون هذا الأسبوع"، ومحمد ديب صاحب ثلاثية "النول، الحريق، الدار الكبيرة"، والشاعر مالك حداد صاحب رائعة "التلميذ والأستاذ"، ومولود فرعون وروايته "ابن الفقير".

وكاتب ياسين (1929-1989) صاحب رائعة "نجمة" التي تعتبر من روائع الأدب العالمي، وهي تشكّل الاستثناء من بين مئات أو آلاف الروايات العالمية. فأصبح بعدها أحد آباء الأدب الجزائري المعاصر وأحد أهم الكتّاب الفرنكوفونيّين.

فرغم مضي 67 عاماً على صدورها بالفرنسية سنة 1956، لا تزال رواية "نجمة" متجدّدة ومثيرة للكثير من الأسئلة عن الثورة والتمرّد والهوية والتركيبة الاجتماعية... عن الجزائر التي تظلّ نجمته الأثيرة.

فرغم أن كاتب ياسين لم يكن الأديب الجزائري الأول الذي كتب باللغة الفرنسية، إلا أنه عرف كيف يوصل الصوت الجزائري إلى آفاق أوسع وأرحب.

إقرأ أيضاً: في ذكرى رحيل الأديب الجزائري كاتب ياسين

صحيح أن كاتب ياسين (1929-1989) سبق ونشر كتباً عديدة منها: مؤلفاته الشعرية "مناجيات" بعد تجربته الأولى مع السجن و"قصائد إلى الجزائر المضطهدة"، وفي المسرح كتب "الجثة المحاصرة" و"دائرة القمع" و"الأسلاف يزدادون ضراوة"، لكن رواية "نجمة" التي صدرت عن منشورات "لوساي" الباريسية، باللغة الفرنسية عام 1956 بعد سنتين من اندلاع "حرب الجزائر على المستعمر الفرنسي"، كانت العمل الأول الذي أطلقه في فضاء الحياة الأدبية، ومنها انطلق في فضاء الحياة المسرحية. 

فبفضل النجاح الفوري الذي حقّقته "نجمة" بعد استقلال الجزائر عام 1962 توجّه إلى فيتنام، وأقام فيها 3 سنوات حيث كتب مسرحية "الرجل ذو الحذاء المطاطي" التي تحكي انتصار الفيتناميّين لانغراسهم بأرضهم رغم قصف الطائرات الأميركية.

كان لتجواله الأوروبي والآسيوي والعربي فضلٌ في انفتاحه على القضية الكولونيالية. فبعد انتصار فيتنام كانت وجهة كاتب ياسين قضية فلسطين فعاش في مخيمات الفلسطينيين في لبنان، وكتب مسرحية "فلسطين مخدوعة" التي تحكي خديعة الحكّام العرب للفلسطينيين حينما شجّعوهم على ترك أرضهم، وأصبحوا تحت رحمتهم، مؤكداً أنه لو تشبّث الفلسطينيون بأرضهم مثل الفيتناميين لانتصرت فلسطين".

وقد اكتشف كاتب ياسين أن المسرح هو الوعاء الأمثل لأفكاره السياسية، وصورة الكتابة الأقرب للشعب خصوصاً بعد التقائه بفنانين شيوعيين ولقائه الأهم بجان بول سارتر. 

جاءت "نجمة" أشبه بالرواية الجديدة حيث يصفها الناشر الفرنسي في تقديمه لأول إصدار لها بأنها "شيءٌ آخر، شيءٌ جديد، ميَّزها عن كل الأعمال السابقة حول الجزائر التي لم تأتِ بجديد لم تسبقها إليه الأعمال العالمية المختلفة. يكفي فقط أن نغيّر الجزائر ببلد آخر فتبقى الحكاية قائمة، إنها على النقيض من ذلك تماماً". وقد أثنت عليها في البداية الساحة الأدبية الفرنسية، قبل أن تستقبل بحفاوة بالغة على مستوى أشمل، واعتبرت علامة فارقة في الأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية، وترجمت إلى لغات عالمية.

إقرأ أيضاً: الودغيري يسائل كاتب ياسين: هل الفرنسية "غنيمة حرب" فعلاً؟

يصنّف نقّاد الأدب رواية "نجمة" على أنها من النوع الفاصل، أو ذاك العمل الأدبي الذي يحدث قطيعة شاملة بين ما هو موجود من رصيد أدبي سابق وما سيأتي لاحقاً، فهناك أعمال أدبية على المستوى العالمي تحدث الفارق".

فبعد مرور 58 سنة على صدورها بالفرنسية سنة 1956، لا تزال رواية "نجمة"... الأسطورة للجزائري كاتب ياسين (1929-1989) متجدّدة مثيرة للكثير من الأسئلة. 

إنها رواية حبّ وتمرّد لكن ياسين يؤكد في الوقت ذاته أن "نجمة" هي في الحقيقة أسطورة أدبية وصورة أمّة.

هناك رأي لبعض نقّاد الأدب أن "نجمة" حاضرة في غيابها وتخفي خلف قناعها النوراني وجهاً آخر هو وجه الجزائر، فهي اللغز الذي لا تحله الرواية أبداً". فلا تشبه شخصيتها رفيقاتها في الأدب الكلاسيكي، فلم تكن مدام بوفاري ولا آنا كارنينا، كما لم تشبه إحدى نساء دوستويفسكي، ولا بشكل أقرب نساء نجيب محفوظ. فنجمة هي الشخصية المحورية للعمل من دون أن يكون لحضورها مساحة تليق بهذه المكانة. شخصية هاربة على الدوام تمثّل هذا البلد الذي يتحرّك دائماً باحثاً عن نقطة البداية. إذ نشعر بوجودها خلف كل حدث وتفصيل وذكرى، ونقترب من وجودها الميتافيزيقي أكثر من وجودها الحقيقي. 

يقسّم ياسين روايته إلى تسعة فصول، وكلّ فصل يتوزّع على اثنتي عشرة فقرة، باستثناء الفصل التاسع الذي يختمه بالفقرة الحادية عشرة لنعود من جديد إلى البدء.

ويبدو بعضها مكتوباً بطريقة "ممسرحة" لأنها الأقرب للشعب، حيث الجمل القصيرة المعبّرة، والتتابع والتعاقب، وسرعة الانتقال والتبدّل، في حين يحضر في بعضها الآخر اشتغال على السرد وتهجينه بالشعر، وبثّ المناجيَات ذات الدلالات الواقعية والإشارات المنطلقة في أكثر من اتجاه.

إقرأ أيضاً: في الذكرى الثامنة لوفاة الطاهر وطّار

يصهر ياسين الفنون في سياق روايته، إذ يوظّف الشعر والمسرح والدراما والموسيقى والتشكيل، إضافة إلى التاريخ والجغرافيا والأنساب، ليحبك الأحداث، ويوظّف المعارف، ويخلق عوالمه الفريدة التي تكون مزيجاً من واقع وحلم وأمل، وإن كان عبر فصول صاخبة، هادرة، متمرّدة، مطعّمة بالعبرة والإيلام معاً.

الشخصيات الرئيسية في "نجمة":

تعد "نجمة" بطلة الرواية والشخصية المحورية فيها، وهي فتاة عاشت يتيمة الأب والأم، تبنّتها امرأة أخرى اسمها فاطمة ليس لديها أولاد ولا تُنجب، وبعد أن كبرت نجمة ونضجت تزوّجت من كمال من دون رغبة منها، فلم تكن سعيدة معه.

4  شبان: رشيد، ومصطفى، والأخضر، ومراد  الذين ينتمون إلى إحدى قبائل البدو الرُّحّل، تربطهم روابط الدم وحبّ امرأة واحدة وهي "نجمة" التي تزوّجت كمال وهي لا تحبّه وتحفّ ولادتها أسرار عديدة، ولكل واحد من هؤلاء الأصدقاء الأربعة قصته مع الحياة وطريقه في البحث عن العيش بكرامة، التقوا بعد صدمات مختلفة، وجمعهم العمل في حظيرة السيد أرنيست، والتي ذاقوا فيها الألم والمعاناة منذ اليوم الأول. ومن خلال هذه الملاحقة السردية للكاتب سنتعرّف إلى ظروفهم التي تعكس ظروف البلد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية.

رشيد: هو شاب من مدينة قسنطينة، كان يعمل في الحظيرة، تفرّق عن أصدقائه وترك عمله فأصبح ضائعاً بلا هدف، وعاش في حالة نفسية صعبة بعد ضياع حبّه نجمة.

الأخضر: هو شاب كثير السفر، دخل السجن وهو في عمر الـ 16، وقد كان من بين الشبان الذين وقعوا في حب "نجمة"، لكنه لم يستطع أن يظفر بها وبحبها.

مراد: هو فتى يبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً، عاش يتيم الأب وأمه تزوجت من رجل آخر، فكفلته عمته التي كفلت "نجمة".

مصطفى: كان يمرّ بظروف اقتصادية صعبة مع عائلته، كما كان هو الآخر مولعاً بحبّ "نجمة".

وبعد الفصول الأولى التي تأتي شبه هادئة نتوه في زمن هلامي يتلاحق فيه الحاضر والماضي والمستقبل. وما يزيد هذا التعقيد كثافة تفرّد كل شخصية بصوتها وبطريقة سردها الخاصة. فنتوه مع كثرة الرواة والأصوات، كما نتوه مع التنويعات الشعرية والنثرية التي أتت مربكة في أحيانٍ كثيرة.

إقرأ ايضاً: الأدب الجزائري المقاوم: وثيقة تاريخية وسلاح مواجهة

ولهذا تفتقر "نجمة" للبناء الكلاسيكي المعهود في الرواية. فهي أشبه بلوحة فنية تجريدية وتميل إلى نموذج روايات الكاتب الأميركي ويليام فوكنر.

يعتبر كاتب ياسين أن "نجمة" كانت وفية جداً لموضوعها الأثير وهو الجزائر، فجاءت تماماً في تعقيد هذا البلد وتنوّع ثقافاته وهوياته وصراعاته. إذ تتعمّد الرواية إسقاط القارئ في هذا التشويش المستمر فيعجز عن السيطرة على النص المتحرّك دائماً في سعيه لبلوغ النجمة.

ولهذا كانت "نجمة" رسالة ثورية واضحة للمتلقّي الفرنسي قبل نظيره الجزائري، خصوصاً وأنها نشرت في أوج حرب التحرير، لتؤكد أنَّ للجزائري هوية قائمة بذاتها تبتعد كل البعد عمّا فرضه المستعمر الفرنسي بكل مؤسساته السلطوية والثقافية من صور مشوّهة ومذلّة.   فهدف كاتب ياسين كان إثبات مقدرة الجزائري على الكتابة الإبداعية والتجديد، وإلّا ما معنى قوله: "أكتب بالفرنسية لأقول للفرنسيين إني لست فرنسياً"؟ فهو يعبّر عن الروح الجزائرية، وعن ظاهرة لا ترتبط بأي شكل من الأشكال باللغة الفرنسية لكنها توصف من خلالها كرائعة من روائع الأدب العالمي.

إقرأ ايضاً: الطاهر وطار: الماركسي المشاكس الذي حمل لواء اللغة العربية

وقد رد كاتب ياسين على اختياره اللغة المهيمنة الفرنسية في رواية "نجمة" عبر إحدى شخصياته في "نجمة": "ولكنه لا يلفظ أبداً كلمة فرنسية من دون أن يشوّهها، كما لو كان يفعل ذلك عن مبدأ."

ويقول: إن الأمر لا يعدو كونه برغماتياً يعود بالنفع على الجزائر، فالفرنسية بالنسبة لكاتب ياسين لم تعد لها أي سلطة على المثقّف الجزائري. بل أصبح الأخير يتعامل معها كغنيمة حرب يستغلّها كما يشاء ويتصرف بها بما تقتضيه هويته وثقافته.

إقرأ ايضاً: مو يان .. رائد أدب المقاومة في الصين

يعتبر كاتب ياسين أن "نجمة" خرجت من رحم معاناته مع الاستعمار الفرنسي في إثر اعتقاله في تظاهرات 8 أيار/مايو 1945 المطالبة بالاستقلال بعد فرحة انتصار الحلفاء على النازية، التي شكّلت ردّ فعل عنيفاً من المستعمر الفرنسيّ والتي راح ضحيتها 45 ألف متظاهر، وقد شارك ياسين في هذه المظاهرات، وشكّل أمر اعتقاله وسجنه صدمة قوية له وجعلت مسار حياته يتغيّر بالكامل.

يقول ياسين: "استحوذت هذه الصدمة على معاني حياتي كلّها، فالمأساة الجماعية تحوّلت إلى مأساة خاصة.

يشار إلى أن كاتب ياسين ولد عام 1929 في مدينة قسنطينة في الشرق الجزائري، وانخرط في النضال وعمره 16 عاماً، وسجن عقب مجازر 8 أيار/مايو عام 1945، ثم هاجر إلى فرنسا عام 1947 حيث أصبح واحداً من حركة اليسار العالمية. وتوفي في 28 تشرين الأول/أكتوبر 1989.