رواية "سفر الاختفاء" عن المقاومة والإبادة بطريقة أخرى
تكشف لنا "سفر الاختفاء" بأنّ أسباب وجود الصهاينة الحقيقي هو لإبادة هويّة الآخر فقط، فإذا اختفى الآخر من الوجود، ما عاد لهم أسباب لبقائهم فوق الأرض التي هي ليست لهم.
-
رواية سفر الاختفاء لابتسام عازم: عن المقاومة والإبادة بطريقة أخرى
نقرأ رواية "سفر الاختفاء" للروائية الفلسطينية ابتسام عازم المقيمة في ألمانيا، ونحن نتأمّل معها هذا الاختفاء الكبير للفلسطينيين عن وجه الأرض، لكنّ هذا الاختفاء الذي تتحدّث عنه عازم يمرّ بين مسارين: مسار الاختفاء المفاجئ كحالة غريبة، ومسار الاختفاء لكشف قناع العدو الصهيوني، فالتخيّل يبدأ من أسئلة عديدة، وأهمّ هذه الأسئلة هي: إذا اختفى الفلسطينيون حقّاً، فالعدو سيحارب مَن؟ والعدو ضدّ مَن؟ هنا تضيء الرواية على المفهوم الإنساني لأصحاب الأرض الحقيقيّين الذين يستحقّون البقاء على أرضهم رغم وجودهم المهدّد بالاختفاء.
وفي فصول الرواية التي يحمل أبطالها أسماء، "أريئيل"، و"علاء" يدور هذا الحوار بين أريئيل الإسرائيلي "إنكليزي" الأصل، وبين علاء الفلسطيني ابن يافا. فيبدأ أريئيل وهو كاتب مقالات صحافي بالنقاش مع علاء حول قضية الاختفاء وقراءة سيرة علاء التي تدور حكاياته مع جدّته بنت يافا قبل نكبة 1948، وهدف أريئيل من الاهتمام بأوراق علاء وتفاصيل حياته هي للإمساك بأسباب اختفاء الفلسطينيين "العرب" في فلسطين، وما هو الخطر الكامن وراء هذا الاختفاء؟ هل هو تهديد للكيان الصهيوني؟ وكان ذلك قلق الصهاينة منه، أم هو نعمة للانتهاء من المصيبة كما قال أحد الصهاينة في المستوطنات القريبة من الضفة الغربية.
ويدور هذا البحث عمّا وراء هذا السر، وتبيّن لنا الروائية ابتسام عازم أنّ هذا الاختفاء هو نوع من أنواع الإبادة تشبه الإبادة التي تحدث اليوم في غزة، هي ليست مفاجئة، ولكنّها في الوقت نفسه تطرح أسئلة حول القلق عند الصهاينة، مثل القنبلة الموقوتة، فتحدث هزّة في الوعي الصهيوني تجاه ما يسمّونه "بالعدو"، وهنا يدور التساؤل عند أجهزة الأمن والاستخبارات حين يقولون في صفحة رقم 208:
"بالله عليك، هل تصدّق كلّ هذا؟ نحن نتحدّث هنا عن اختفاء حوالي أربعة ملايين شخص بين ليلة وضحاها. ماذا يحدث؟ هل تصدّق أن لا علاقة لنا بالموضوع أو أنّنا على الأقل لا نعرف شيئاً عن الموضوع؟، لماذا تعتقد أنّنا مسؤولون عن كلّ شيءٍ يحدث في هذا العالم للفلسطينيين؟".
يقع الصهاينة في أسئلة القلق الكبيرة تجاه ما يحدث بالتأكيد، كيف اختفى العدو من دون حرب؟ هذا هو جوهر الفكرة في الرواية، لكنّ مقاومة أصحاب الأرض الحقيقيّين تأتي بالحوار الدائم لـ علاء مع جدّته بنت يافا، حول يافا قبل احتلالها من قبل الصهاينة، فتعامل علاء مع يافا من خلال حواره مع جدّته، يختلف عن حوار أريئيل مع أمّه حول العيش في "تل أبيب" وأبيه الذي قُتل في الهيليكوبتر فوق سماء الجنوب اللبناني، وتتكرّر كثيراً جملة جدّة علاء، ربّما حين تقول دائماً لـ يافا: "يا ليتك معي، فالشوق إليكِ كوردةٍ من شوك".
ويصطدم علاء مع أريئيل الذي يبدو أنّهُ جاره في أراضي 48، يزوره في بيته دائماً، ويكتشف تفاصيله العربية، ولم يكن أريئيل يحبّ اللغة العربية، أحبّها لكنهُ لم يعشقها. لم يكن والده الذي توفي في حادث الهليكوبتر فوق سماء لبنان، يريد له أن يعجب بهذه اللغة، هذا هو الصراع بين أريئيل وعلاء الممتد وراء أسرار الاختفاء الذي لم يدرك الصهاينة إلى الآن أسبابه الحقيقية، ويكشف أقنعة اغتصابهم لأرض فلسطين، وبأنّ وجودهم المدجّج بالسلاح هو لإبادة الآخر وسرقة هويّته وتاريخه، وإلا، ما هي أسباب وجودهم؟
تكشف لنا رواية سفر الاختفاء، بأنّ أسباب وجودهم الحقيقي هو لإبادة هويّة الآخر فقط، فإذا اختفى الآخر من الوجود، ما عاد لهم أسباب لبقائهم فوق الأرض التي هي ليست لهم، ولن تكون لهم يوماً من الأيّام، لا يستطيع أريئيل أن يجد الأجوبة عن أسئلة حول وجوده في "تل أبيب"، يقول أبوه له في صفحة 193:
"هل الخوف الذي يشعر به الآن هو ذلك الذي تلته النشوة وبعدها الشعور بالدمار الشامل بالسقوط الذي كان يمكن أن يصبح سقوطاً إلى الهاوية. قال له أبوه "صعقنا العرب يومها، قبل أن تولد أنت بستة أيام". كنّا نعتقد أنّهم سيرموننا في البحر من دون شكّ، سيهجمون علينا من كلّ صوب. لكنّ المفاجأة الكبرى كانت عندما اكتشفنا أنّ هذا البلد الصغير الذي لا يزيد عمره عن تسعة عشر عاماً لم يدافع فقط عن نفسه بشراسة، بل أصبح إمبراطورية صغيرة بطريقةٍ ما، كانت نشوة الانتصار لا تقهر وجئت أنت...".
فعن أيّ انتصارٍ يتحدّث أبوهُ هنا؟ حين صعق العرب وأباد وجودهم بالمجازر، حين قتل ودمّر واحتلّ، وهجّر، حتى جاء ابنهُ أريئيل إلى "تل أبيب"، هذا هو انتصار الصهاينة؟؟ وكأنّهُ يؤكّد بأنّ وجودهم قائم على إبادة الآخر واختفائه، وعندما يختفي الفلسطينيون سيكشف حقيقة وجودهم المزيّف، ولا سيما حين تغضب أم أريئيل حين كانت تحكي لابنها عن جمال بلادها الأصلية "هولندا" جميلة جدّاً يا أريئيل، فيجيبها: لماذا أتيت إلى "تل أبيب" إذاً؟، فتغضب من جوابه، وتغيّر الموضوع، ويظلّ الجواب عالقاً في المخيّلة، ولم تجد جواباً واضحاً، مثل قضية الاختفاء تماماً.
كلّما قرأ أريئيل في الصحف الإسرائيلية والأميركية عن قضية اختفاء الفلسطينيين، يسأل الشرطة، هل من خطر على وجودنا؟ هل علينا أن نأخذ الحيطة والحذر من هذا الاختفاء؟ وكأنّ هذا الاختفاء هو خطر على وجودهم هم، وليس على وجود الشعب الفلسطيني المختفي. في هذا السياق يتضح الصراع الحقيقي في معركة الوعي الوجودي، وهنا نتذكّر مقطعاً من قصيدة محمود درويش "في القدس": لا مكانَ ولا زمان. فمن أنا؟ / أنا لا أنا في حضرة المعراج. لكنِّي / أُفكِّرُ: وَحْدَهُ، كان النبيّ محمِّدٌ/ يتكلِّمُ العربيَّةَ الفُصْحَى. ((وماذا بعد؟)) / ماذا بعد؟ صاحت فجأة جنديّةٌ / هُوَ أَنتَ ثانيةً؟ أَلم أَقتلْكَ؟ / قلت: قَتَلْتني... ونسيتُ، مثلك، أن أَموت.