رواية "أرض الأرجوان".. أصوات متعددة كي لا تموت الحكاية

ساعد تعدد الأصوات في الرواية على زيادة تماسك السَّرد وتَوْشِيَةِ نسيجِهِ بألوانٍ شتى.

  • رواية
    رواية "أرض الأرجوان" للسورية غنوة فضة.

تتعدد طبقات السرد في رواية "أرض الأرجوان" للروائية السورية غنوة فضة وتتقاطع فيها الأزمنة، وتنجدل الأصوات الرّاوِية للأحداث، وتصبح الحكاية أشبه بملحمة مستمرة منذ القرن الثالث قبل الميلاد وحتى الآن، بحيث لا تنفصل عُرى الزمن، بل تبقى مشدودة في صيغتها المستمرة، وكأننا أمام انعكاس لماضي الأيام الآتية، أو ذكريات الزمن القادم، وفق معمار روائي مُحفِّز على استكشاف عناصر بنائه، ومعرفة أسرار رشاقة النص، والخلطة السرية في مقاربة التاريخ وجعله طازجاً، إضافة إلى الحيوية التي حقَّقتها قصة حُبّ قديمة كانت بمثابة لُغزٍ مُعاصر سعى لفكفكته باحث آثاري، ليجد نفسه واقعاً في بوتقة الحب ذاتها، وليتماهى مصيره مع مصير بطل حكايته الذي اكتشفه ضمن مخطوطات عُثر عليها في اليونان وتعاون مع عالم آثار يوناني في كشف تفاصيلها.  

تربط رواية "أرض الأرجوان"، الصادرة حديثاً عن دار فواصل للنشر والتوزيع، بين حكايتين يفصل بينهما 2200 عام تقريباً، الأولى تدور أحداثها بين القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد حين نشأ صراع كبير بين قادة الإسكندر الأكبر، وخاصةً بين سلوقس المُنتصر وليخمانوس وأنتيجونيوس، وكان جزء من ساحة حروبهم حاضرة لاواديسا رابعة المدن السلوقية بعد سلوقيا وأنطاكية وآباما، وبطل الحكاية هو "جايون" الذي قُتِلَ والده على أيدي غرباء ملثمين، وهو في العاشرة من عمره، مُحمِّلاً إياه تركة ثقيلة من كنوز بلاده، بعدما خبَّأه معها قبل موته بقليل فيما يشبه المدفن المهيب، قائلاً له: "أنت منذ الآن حارس المملكة القديمة"، ومن حينها اعتزل الناس وصار همُّه الوحيد الحفاظ على إرث والده من رقم، وأحفورات، وأواني فخارية، ومستعمَلات ملكية، ونقود صُكَّت بوجوه أباطرة قدامى، ومنحوتات وتصاوير لمملكة آفلة، ومخطوطات، وأوراق بردي محفوظة ضمن أساطين حجرية... وكان عمله الوحيد هو صباغة الأقمشة بصبغة الفينيق الشهيرة التي نجمت عن تجوال الإله ملكارت وحوريته على سواحل فينيقية. 

ورغم عزلته وهجره النساء ومعاشرته الطبيعة والبحر لسنوات طويلة، إلا أن الحب طرق بابه بقوة عندما التقى بـ"أماليا" التي صيَّرته عاشقاً وشاعراً، وصارت شريكته في السِّرّ، لكن انكشاف سرهما للتاجر الجشع شيموئيل كان كفيلاً بأن يُخلْخِل عالمها الرائق، لذا قاما بنقل ما استطاعاه من كنزهما إلى مكان آمن، وبعد أن اكتشف شيموئيل ذلك بدأ يكيد لهما المكيدة تلو الأخرى، حتى وصل به الأمر بعد اختطاف "أماليا" أن يوظِّف مرتزقة لقتل الملك "سلوقس" المظفَّر، واتهام "جايون" بذلك، هذا الأخير الذي بقي صامتاً رغم ظُلمِه، واكتفى بنقش أسماء القَتَلَة على عمود إعدامه الحجري، ونظره موجَّه إلى القارب الذي يُقِل "أماليا" خارج حدود المملكة.

إكمال الحكاية

في المقابل نقرأ سيرة الباحث الآثاري إبراهيم ناصيف الذي حصل عبر تنقيباته في قرية "ليفكارا" اليونانية على مكتشفات تُضيء على قصة حب حصلت في اللاذقية منذ أكثر من ألفي عام، بين "جايون" الذي فقد والده أثناء هجمات الإخمينيين لبلاده، و"أماليا" الجميلة ابنة "بارسينو" الذي عمل في معاصر الزيتون الحجرية في منطقة "جابالا" (جبلة حالياً)، ثم نزح مع ابنته إلى كريت، وعادا إلى لاواديسا بعد تغيّر خارطة الحكم ونصر السلوقيين. 

بَحْثُ "إبراهيم" قاده أيضاً إلى مجموعة قصائد غرامية وتوصيفات لحال البلاد السياسية والاجتماعية آنذاك، فوهب حياته لإكمال الحكاية بمساعدة زميله اليوناني "ألفونس"، لكنه من دون أن يدري، عاش قصة حب مشابهة مع "أميمة" الموظفة في متحف اللاذقية، ورغم انتمائهما لطائفتين مختلفتين، إلا أن حبهما استطاع تجاوز العقبات باستمرار، إلى أن جاءت الحرب على قرية الغسانية، حيث يقيم "إبراهيم"، واقتلعت البشر والشجر، وأحالت المنطقة إلى سواد حالك بلون راياتها، ليكون مصير عالم الآثار القَتْل على يدي "عثمان" أحد أبناء القرية بعدما بات أميراً لإحدى الجماعات الإرهابية التي تولت نهب القرية وقتل من لا يناصرهم فيها، رغم أن العالم كان قد أكرمه في الماضي وأجزله العطاء، لكن زعيم العصابة المتشدد كان يبتغي المكتشفات الأثرية. وأمام كل محاولاته وأسئلته كان صمت الباحث هو الجواب الوحيد الذي حصل عليه، إذ كان الموت أهون عليه من إفشاء سِرِّه لمن لا يعرف معنى الحب. وكما في الحكاية القديمة لا بد للأسرار من مخبأ، لذا أنشأ "إبراهيم" مكانه الخاص الذي احتفظ به بكل دراساته ومخطوطاته، وخبَّأ معها مساعده "سركيس" ابن الضيعة الطيب، وحافظ أسراره الأمين. 

وبعد ما يقارب الثمانية أعوام نفضت الحرب أوزارها عن "الغسانية" فزارتها "أميمة"، ورغم الدمار العميم الذي يلفها، بما في ذلك بيت "إبراهيم"، إلا أنها استطاعت أن تنبش من تحت بلاطة أخبرها عنها، مخطوطاً لرواية كتبها بخط يده وعنونها بـ"أرض الأرجوان" جمع فيها الحقائق التي توصل إليها في أبحاثه عن تلك الحكاية القديمة، دامجاً إياها مع الخيال القادر على استكمال الأحلام كما يقول، فـ"المهم ألا تموت الحكاية" بحسب تعبيره. 

تعدد الرواة

ولعل التقنية الأجمل التي اتبعتها الروائية السورية غنوة فضة هي تعدد الرواة، وعدم اقتصارها على راوٍ واحد سواء بضمير المتكلم أو ضمير الغائب، وذلك في زَمَنَيْ حكايتها المُنجَدِلَين بعناية، التاريخي منها والمعاصر، بحيث كنا أمام تنوع للأصوات وتعدد الأمزجة وراءها، ما خلق حيوية في السرد، فإلى جانب "جايون" و"أماليا" و"إبراهيم" و"أميمة"، نقرأ جزءاً من الحكاية بصوت "سركيس"، ولاسيما مشهد موت مُعلِّمه وسيد نعمته، وكيف دهمت الجماعات المتشددة كنيسة القرية ودير العامودين وقتلت من بين من قتلتهم بتهم واهية كالزندقة راهب الدير الأب فرانسوا.

وهناك العسكري المجند توفيق الذي حوصر لأشهر داخل فرقته، وعندما لم يستطع الانتظار أكثر، خرج مع الإرهابيين المهللين للنصر، وعندما كاد أحد المتشددين ينتبه إليه، تلقفته حفرة عميقة، تأذَّت فيها قدمه كثيراً إثر السقوط، لكنها أنقذته في الوقت ذاته من موت مُحتَّم. ونقرأ أيضاً عن رفيقه عدنان الذي صار بعد بتر ساقه بائع كتب مستعملة في أحد أسواق حمص، وعنده وجد توفيق مجموعة من الروايات كلها موقعة باسم صاحبها "إبراهيم ناصيف"، وفي داخل غلاف رواية "الكوميديا الإلهية" لدانتي كانت مخطوطات حكايته السرية المتعلقة بجايون وأماليا.

كما أن قصة أنطوخيوس ابن سلوقس المنتصر الذي أحب "ستراتونيكي" ابنة "ديميتريوس" ألد أعداء أبيه، وحفيدة "أنتيجونيوس" الذي كانت نهايته على يد الملك المظفر ذاته، شكَّلت مفصلاً هاماً في السرد، إذ على وقع الانتصارات المتتالية، قام الأب بالزواج من حبيبة ابنه من دون أن يعلم أنها كذلك، فأصاب أنطوخيوس الغم والكَدَر، وحار الأطباء والعطارون في علاجه، حتى اكتشف أحد الحكماء سِرَّه، فأعاد سلوقس الأمور إلى نصابها المنطقية، وكانت صورة للملك الشاب المريض إحدى المقتنيات الهامة لدى الدكتور إبراهيم.  

ممنوع ومُحرَّم

راوٍ آخر شهدته الرواية وهو الطبيب رضوان الذي غَرِقَ في عالم صاغ الممنوع والمُحرَّم كل حجرةٍ من أركانه، بعد أن كان ابن قرية بسيطاً لأب يُصلي ليل نهار، وأمٍّ صموتة، وابتدأ ذلك منذ علاقته مع "مايوشكا" حينما كان طالباً في كلية الطب، وانتهاءً بتحوُّله في زمن الحرب إلى طبيب وتاجر ومُخرِّب، قاتل ومجرم، مُنقذ ومميت في آن، من خلال قيامه بعمليات استئصال الأعضاء السليمة وزرعها في أجساد أخرى، في مقابل الكثير من المال. وفي إحدى نوبات صحوة ضميره، نرى أنه يُعمِلُ مِبضَعَه في جسد العسكري توفيق الذي تمَّ نقله بسيارة الراعي "هزاع" إلى غرفة نائية في البادية، والطامة الكبرى عندما اكتشف "رضوان" أن الجسد الثاني الذي سيستأصل منه كليةً ثانية هو لوالده.     

ساعد تعدد الأصوات في الرواية على زيادة تماسك السَّرد وتَوْشِيَةِ نسيجِهِ بألوانٍ شتى، فمرة يأتي السرد على شكل رسالة، وأخرى يكون توثيقياً لدرجة نشعر معها أننا نقرأ الأحداث على خريطة للأمكنة والأزمنة الغابرة، وفي ثالثة ينحو السرد باتجاه توصيف مشاعر الشخصيات كما في قول "هزّاع": "كانت المرة الأولى التي تمسّني بها الحرب، لسنوات أسمع عنها من الآخرين، لكني رأيتها اليوم. ذلك الرعب المخاتل، تلك الرجفة التي تسكن الجسد حتى القدمين، المصير الذي يتحوَّل بلحظة إلى مجهول يُجلِّله الضباب بأظلاف موحشة"، وفي مرَّات يتغلغل الشعر والعاطفة المتوقدة ضمن السرد فَيُحَلِّيَانه من مثل قصيدة جايون لأماليا التي جاء فيها "قريبةٌ مثل نسائم البحر.. غريبةٌ مثل عاصفةٍ شمالية.. يا لتلك الأحزان التي تتلاشى عندما تظهر.. يا لتلك المباهج التي تعمّ عندما تظهر.. أماليا.. يا هسيس الإله المقدس.. بين تفاصيل روحي المنهكة"، وكل ذلك أحال الرُّواة إلى أجزاء من لوحة اكتملت بتجاورهم، ووحَّدَت قولهم عن مأزق الإنسان الأزلي ومحنته مع الحروب المستمرة.