رواية السرعة القصوى: "ثوراتنا وانقلاباتنا نتيجتها صفر"

يشير الكاتب إلى اختباره قصصاً حقيقية انتقى لرصدها 4 أصوات تناوبت على سرد الحكاية بطريقة فنية خالصة.

  • رواية
    رواية "السرعة القصوى صفر"لأشرف عشماوي

تاريخ مصر السياسي والتحولات الطارئة إثر قيام الثورات الشعبية والانقلابات العسكرية... محاور يخضعها الكاتب المصري أشرف العشماوي للمكاشفة في روايته "السرعة القصوى صفر" الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة (2023).

من عهد الملكية وحتى ثورة يوليو، وصولاً إلى ليلة النكسة، تنطلق الرواية من مقولة أن التاريخ يعيد نفسه، ولعلها في جزء منها تظهر لغاية التدليل على السياسة بوصفها فن التظاهر والتلاعب، وأن التاريخ ما هو إلا الرواية الرسمية لما حدث، فيما يأتي الفن الروائي ليكشف عما جرى خلف الكواليس، وبعيداً من استخلاص العبر، يبدأ من زاوية تنتصر لجهة كشف الأكاذيب والحقائق وإسقاط الحادثة التاريخية عبر المزج والتوثيق، متتبعاً ما يقود الأبطال إلى أزماتٍ عاصفة.

أيديولوجياتٌ متناحرة

يختار الكاتب لروايته خطاً زمنياً يمتد إلى أكثر من 70 عاماً، منذ مطلع الثلاثينيات وحتى نكسة عام 67. ومن خلال سردٍ يوثق التاريخ، يستعرض الأحوال السياسية والاجتماعية التي خلفت مناخاً أيديولوجياً متشظياً. 

ينطلق من حي "جاردن سيتي"، حيث بُنيت سرايا "آل تاج الدين". ومن طفولة التوأم فهمي وشكري تاج الدين، يرصد التفاعلات الاجتماعية والسياسية متكئاً إلى أحداث حقيقية مدعّمة ببعض التخييل. ومن العنوان العتبة، ندرك أن ثمة سباقاً محموماً سيجري في متن الحكاية، فالتوأمان ابنان لوزير المعارف في حكومة الملك (فؤاد)، أي أنهما عاصرا كل أنواع البروتوكولات الرسمية، وأحاطا بتفاصيل السياسة والقصص التي جرت خلف أسوار القصر الملكي.

يبدو الخلاف بين الأخوين ظاهرياً. وفي وقتٍ يظهر شكري موسوماً بالجموح والتلاعب، يظهر فهمي هادئاً ومطواعاً تسمه البدانة ورقة الشعور. تلك الفوارق جعلت شكري الابن المفضل لدى الأب وصاحب الحظوة، فيما ظلَ فهمي طوال النص في ظل أخيه، يتلقى العقاب على أخطاء لم يقترفها ويستر مغامرات أخيه الطائشة.

 من تلك المفارقة بين التوأمين، ينفذ الكاتب بعبقرية للغوص في حمى الأيديولوجيات المتناحرة في مصر وقتذاك؛ فشكري يتأثر بخاله المنفي من العائلة، وهو شابّ متحمس لجماعة الإخوان المسلمين، وصاحب التأثير في تشجيعه واعتقاده بفكرة الخلافة الإسلامية في مصر، في حين يميل فهمي بهدوئه ورزانته إلى كتب الجد، وتسحره أفكار العدالة والمساواة، ويرفض فكرة الحكم الديني القائم على التكفير ونبذ الآخر، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عما إذا كان ميالاً إلى الشيوعية في وقت كانت الشيوعية في مصر تهمة.

تلك الميول المتناقضة والانتماءات المتضادة تشكّل العتبة التي يرصد الكاتب من خلالها أحوال البلاد؛ من استعباد العمال والفلاحين وظلمهم إلى سباق القصر الملكي للسيطرة وخلق التوازن بين الحكومة البريطانية المحتلة والأيديولوجيات والتيارات الدينية والفكرية التي انتشرت في مصر في تلك الحقبة.

ما قبل ثورة يوليو 

ينبّه الكاتب في مطلع روايته إلى أن جميع مقاطع الراديو التي تصدرت فصول الرواية منقولةٌ من النص الأصلي الذي أذيعت به، أي أنه يشير إلى اختبارنا قصصاً حقيقية انتقى لرصدها 4 أصوات تناوبت على سرد الحكاية بطريقة فنية خالصة.

يشكل عيش التوأم في سرايا الجد فرصةً للتقرب من مصنع السياسة، إلا أن شرخاً ينمو بينهما ويتسع حين يقعان في حب الشابة أمينة، ويمسي من الطبيعي وسط جوّ عنوانه التناحر أن يفوز بها شكري، فيما ينكص فهمي لمنفاه الداخلي ويكتم حبه حتى آخر الرواية.

ينخرط الشابان في السياسة، كلّ في خطه السياسي؛ شكري ضابط شرطة وعميل سري لجماعة الإخوان، وفهمي وكيل للنيابة العامة ومعادٍ لأفكار أخيه، إلا أنه يؤثر الصمت لقاء حمايته من المخاطر التي تسببها جماعته. 

نطّلع في سرايا العائلة على المعقل الذي ضم فلولاً من الضباط الأحرار، وعلى اللقاءات السرية بين الإخوان والأحرار، وميل التيارين إلى خلع الملك وتحرير البلاد. يبيع شكري نفسه بصورة علنية للإخوان، ويبدو شاباً طامحاً إلى السلطة، ومتحمساً لوصول البنا إلى زعامة الجمعية. "استطعت كشف عيون القلم السياسي التي تتابع تحركات الأستاذ البنا، بعد ما علا نجمه وتوهج حتى صار عنواناً للأمل في تغيير المنتظر"، لتجسد الثورة بؤرة التحولات الجذرية في البلاد، ويواجه الحدث كلّ من موقعه. 

يفوز شكري بعلو مكانته، إلا أن مقتل البنا وتسلم الهضيبي حكم الجماعة يغير الأدوار ويجعله في منطقة ضبابية بين الإخوان والضباط الأحرار، فيما تنمو باقي الأصوات تحت ظله؛ أمينة وفهمي وفايز حبشي الناطق باسم الإذاعة. 

هكذا يعمل الجميع تحت تأثير قدراته، ويستمر فهمي في رتق أخطاء أخيه حتى اعتقاله، فيما تسهم الثورة بإطاحة حكم الملك، ليخرج بعدها ما لم يكن متوقعاً من انقلاباتٍ سحقت كل من واجهها، وتظاهرات نادت بالحكم لجماعة الإخوان. 

 بين الثورة والنكسة

تظهر بعد الثورة لعبة التناحر بين الخير والشر، ويلمّح الكاتب إلى أن ما حدث في الأمس يتكرر، وأن الأمة التي عاشت ردحاً من تاريخها تراوح في المكان نفسه، ومن الطبيعي أن تساوي سرعتها صفراً، وهو ما يشير إلى اللاجدوى في كل المعارك التي حدثت. 

يقول الكاتب: "رواية الحياة تبدأ قبل أن تولد. تصل حياتنا إلى النهاية وتستمر الرواية"، ذلك أن الشروخ بعد نجاح الثورة تكبر بين الإخوان والضباط الأحرار. نقع هنا على الملك فاروق هارباً من قصره في راس التين، وعلى عبد الناصر زعيماً يحيطه الغموض والتستر، فيما يظهر الهضيبي متمسكاً بقرار حكم الجماعة للبلاد.

نشهد ضباطاً قلقين بسبب مناصبهم، ومكاتيب سرية من المرشدين والمخبرين. هكذا يعيش القارئ الماضي، ويتتبع المشاهد لجهة كشف المستور منها. حين يرفض شكري الرضوخ لمطالب الضباط الأحرار، يسهم هربه خارج البلاد في جلب المصائب إلى أسرته، ويعتقل فهمي بخطايا أخيه، لتأتي حركة التأميم وتبدد ثروة العائلة، وتتحول سرايا تاج الدين إلى قفرٍ، وينقلب رفاه الأسرة إلى ضنكٍ.

تنتهي الحكاية ضمن معمار روائي يرصد زمن المراوحة في المكان، وحكاية ثورة سرعان ما انتهت لتحضر تبعاتها، وتسهم النكسة في إصابة الشعب بالإحباط بعدما عاش حلم التحرير.

يتحول إثرها شكري إلى عميل للجماعة في أوروبا، بما يعيد الجميع إلى مأساة اللاجدوى، ويقارب العنوان بالمشاهد التي انطبقت على الملك الهارب وهو يرى الأحرار قريباً من عرشه ولا يحرك ساكناً، وإلى جماعة الإخوان التي ظنت أن عبد الناصر يبتسم لهم، فالتهمهم فيما يصفقون له، حتى إقامة فهمي الجبرية، ودفعه إلى المراوحة في مكانه حاله حال الأمة بأكملها، وكأن الكاتب يترك النص لنا قائماً على تساؤل مؤلم عنوانه: إن الصفر هو العنوان الوحيد الذي أحرزناه لدى الانتهاء من معاركنا الآفلة.