"روح وريحان" .. نزهات دمشقية بين الأمسِ واليوم

يلمّحُ الكاتب إلى أسبقية دمشق في تأسيسها حركة المقاهي الشعبية، ويجول في مقاهٍ شهدت توقيع بيانات وتأليف حكومات.

  • ساحة المرجة في دمشق.
    ساحة المرجة في دمشق.

يصمم الكاتب السوري بديع صنيج في كتابهِ (روح وريحان: نزهات دمشقية) الصادر عن دار سويد عام 2022، على التجوال في مدينة دمشق بمزاج الرحالة، مسنداً رحلته إلى دراساتٍ وموسوعاتٍ تبحث في حقيقة العلاقة القائمة بين المكان والذاكرة الشعبية، ويسبر مدى مصداقية ومتانة تلك العلاقة عبر الغوص في تاريخ المدينة.

يتنقل صنيج في سيره من حيّ إلى آخر، ومن شارعٍ إلى شارع، كما لو أنه يبني عبر الكتابة سيرة المدينة الذاتية، إنما بعيداً عن منهجية المؤرخ، ومن غير الاستناد إلى صرامة الدارسين، بل بعفوية الرحالة وفضولهم، يفتش في أصول الأمكنة بادئاً من بابها الشرقي، ومن قلب أحيائه، وسيرِ رُواتهِ. لا نكتشف معه ما هو جديد، بل سبق أن قرأناه في مذكرات المؤرخين وموسوعات الآثار السورية، إنما نقوم وإياه بما يقوم به فتىً فقدَ أمهُ؛ يعود للحبو، وينكصُ إلى سنيّهِ الأولى لعلة الشوق ربما.. ولعلة الفقد أكثر. فهنا برزخٌ لتجويد الحياة، وهناك مرتع للزعران. أمكنةٌ حقيقية ينقلها بلا زخرفة، ومنها إلى أخرى خصّها أهل المدينة للموت، حيث المقابر والتُرِب الأثرية عند باب الصغير. هكذا ممعناً في التنقيب يصل حي المهاجرين، ويخرج صوت الراوي ليحكي قصة تأسيسهِ وانتقال ملكيته وتحوله من جبل أجردَ إلى منطقة كثيفة بالعمران. ويعمدُ نحو البحث عن أثر الفن والدراما فيه. ومن إحدى زواياه يعيد إلينا مشهد نهاد قلعي، ابن الحي، وهو يصوّر فيلمه الشهير "خياط النساء" متسائلاً عن مدى تأثير البيئة والمكان على خياراته الفنية، وعلى كثافة إبداعه ووعيهِ الجماليّ. كما يشبه الأمر حين ينقل من زاوية أخرى حكايا ياسر العظمة، ومنها يتساءل، عبر التصوير والوصف، عن تلك المرايا التي التقطت أحوال الناس، كما لو أنها انعكاس لوعي عالٍ اكتسبه الفنان فمنحهُ تلك النظرة "الصقرية" على مجريات الواقع وعذابات مجتمع القاع. 

ولا يغفل صنيج عن تذكيرنا من ارتفاع لا بأس به بسامر؛ بطل فيلم "نسيم الروح" وهو يسجّل نهايته التراجيدية للإنسان العاشق، ما يدفع  للتعمق في البحث عما إذا كان للسّكنى من أثر يضيف على الإنسان. لذا نجده يعقد العزم، بروح الباحث عن المتعة، على خلق دراما تصل بنا بعيداً في التاريخ؛ إلى حكاية حي بقي قفراً حتى حادثة قدوم المهاجرين من جزيرة كريت.

لا يبقي صنيج بحثه قائماً على الغوص في تاريخ المدينة، بل يقارن ويوثّق حالها وسكانها اليوم، من دون أن يغفل عن توثيق المأساة. وهنا نتذكر ما نقله الدمشقي الحلاق البديري عن أحوال البلاد والعباد في القرن الثامن عشر، ولعل نقله تلك الأخبار من غير تنميق أو إضفاء نوع من السحر على الحوادث يدفعنا للعودة إلى مقولة: "ما أشبه اليوم بالأمس". فهنا رحالة يأسى على ما فات ويقول: "ينطبق علينا المثل القائل اجتمع المتعوس على خايب الرجاء.. إذ بات يحدثني عن غلاء قطع الغيار، والانتظار على طوابير تعبئة المازوت وخزعبلات البطاقة الالكترونية الخاصة بتوزيع المواد المدعومة، وارتفاع تعرفة ضمان السيرفيس وطمع صاحبهِ، مثله مثل تجار هذه البلاد". 

إلا أن عزيمته لا تخبو، بل يكمل رحلته باتجاه ساحة المرجة، ليعود سوق الكهرباء فيها لتذكيره بالمأساة، إذ ينعي تحوّلهُ إلى سوق مظلم بفعل التقنين الجائر بعد أن كان بهيجاً مثل شجرة ميلاد، وفي اللحظة التي يصل منطقة إعدام شهداء المرجة، وموضع نصب مشانق شهداء السادس من أيار، يبتسم بمرارة للمفارقة، كما لو أن التاريخ المشرق لا يشفع للمكان، ولا لمكانته التاريخية. فهنا أول رحلة ترامواي، وهناك سجالات سياسية شهدت على تحولات كبرى في البلاد. ليغادر قلبه المكان، كما لو أن الارتحال هربٌ من الحقيقة، أو محاولة للتشافي من مأساة عبارة "أين كنا وأين أصبحنا!". 

  • كتاب
    كتاب "روح وريحان: نزهات دمشقية" للكاتب السوري بديع صنيج.

هكذا كما لو أنه يتبنى الطواف حول المدينة، يصل بنا حيَّ الميدان، مستعيداً أول ذكر له في العهد الفاطمي، وما ذكرهُ الرواةُ عن مكانته كشارع سلطاني عبرهُ الملوك، إلى جانب تحوّلهِ إلى رمزٍ يفتح الشهية حتى نفاذهِ نحو الجنوب، من غير أن يغفل عن إنجابهِ أول رئيس سوري منتخب.

وليس ببعيدٍ عن الباب الشرقي، يعود الكاتب إلى نسقٍ آخر للوجود، ثمة حانةٌ شهيرة، تلبي ما يطلبه المشتاقون في ماضيهم وحاضرهم. ثمة مكان بقي على حاله كما لو أنه بصيص ضوء خافت نحو ماضي أيام آفلة: "نعاينُ أملاً معكوساً باتجاه ماضٍ يجتمع فيه السياح الأجانب وأهل البلد ضمن كادر واحد، وتصدح إيديت بياف إلى جانب ربا الجمال، وفرانك سيناترا بجوار جوزيف صقر، أما على صعيد الأدب فيتعارف غريبُ ألبير كامو مع مفيد الوحش، ويتصادق بطل الإنسان الصرصار لدوستويفسكي مع حسني البورظان وإشكاليته الوجودية بين إيطاليا والبرازيل". 

ومن منطلقهِ في الحروب إلى سوق لإنعاش القلوب، يصل  سوق سريجة، ويتوغل إلى زاوية الهنود ومضافة العرب وسطه. يلتقي عائلة ورثت أقدم المضافات فيه، ليوثّق ما قامت به أسر السوق للحفاظ على مكانته وتراثه. وعبر دكاكين هاربة من الزمن، يصل أقدم كنيسة في دمشق، ويعيد سيرة حنانيا في مكان احتضن قصة عمرها ألفا سنة. هنا تمسي اللوحات خير شاهد، وتروي الحجارة قصة الهاربين من الاضطهاد في عهد ملاحقة المسيحيين والتضييق عليهم، ومن بعدها تطيب الحكاية وتخرج الجنّيات من صحون الخزف الإيراني، ويعيدنا عبر زمنٍ عالق بالألفة والجمال إلى مشهد شراء فيكتوريا أقمشة ثوب عرسها. 

ثم يتجه لما هو أكثر دمشقيةً؛ إلى رمزية مقهى النوفرة، وما شهدته المصايف والأديرة والكنائس من أحداث وتحولات سياسية واجتماعية، ومواقع عبرها الأباطرة والملوك.

يلمّحُ الكاتب، في جزء رحلته الأخير، إلى أسبقية المدينة في تأسيسها حركة المقاهي الشعبية، ويجول في مقاهٍ شهدت توقيع بيانات وتأليف حكومات، لكن القلب يضنى لأفول نجم ما كان ساطعاً، لِيختمَ رحلته بنظرة صوفية وزيارة لمقام إبن عربي. تعود الذاكرة إلى ملاذ الفقراء والدراويش، ولما كان أكبر تجمع أكاديمي في القرون الوسطى، هكذا بقوة روحانية ومن مركز تنويري جعل المدينة وجهة لراغبي العلم، ينهي الكاتب رحلته من غير أن نشعر بثقل الحديث عنها، بل نلتمس محاولاتٍ مرةً للاعتراف بجمالٍ آفل، وامتلاك جزء من ذاكرةٍ غائبة، حالهُ حال المغتربين في بلادهم والمهاجرين المقتلعين من جذورهم.