زمن الشعبوية
تسهم المنصات الرقمية في تضخيم الخطاب الشعبوي، حيث تروّج الخوارزميات للمحتوى العاطفي والمثير، بغضّ النظر عن دقّته. التغريدات التحريضية أو مقاطع الفيديو المبتسرة تنتشر أسرع من التحليلات المتعمّقة، ممّا يعزّز ثقافة "اللايقين" ويجعل الحقائق نسبية.
من الظواهر الخطيرة التي تصيب المجتمعات المأزومة، ظاهرة الخطاب الشعبوي الذي يَحُول دون أيّ نقاش جدّي أو مراجعة حقيقية، ويعطّل إجراء أيّ شكل من أشكال النقد الذاتي الهادف إلى اكتشاف مكامن الأخطاء والاعتراف بها كخطوة أولى نحو تجاوزها وعدم تكرارها.
هذه الظاهرة الخطيرة لا تصيب فقط رجال السياسة بل نراها ماثلة للعيان في الخطاب الإعلامي والثقافي تعزّزها وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت منصاتها منابر سهلة للباحثين عن التصفيق وجمع "اللايكات".
ويلاحظ المتابع أنّ الجمهور العريض أو العامّة من الناس تنحاز للخطاب الشعبوي الذي يدغدغ عواطفها ويتلاعب بمشاعرها، ولا تتفاعل بل ترفض الخطاب العقلاني الهادف إلى تجاوز المطبّات وعدم الاصطدام فيها مجدّداً.
ثمّة نخب كثيرة باتت تساير العامّة وتجنح نحو مراضاتها وعدم الاصطدام بها ولو لأجل مصلحتها (العامّة)، علماً أنّ العكس تماماً هو الواجب والمطلوب. فَوِفق الإمام علي بن أبي طالب "كن مع العامّة ولا تكن منها". بمعنى الانحياز لحقوق الناس ومطالبهم المشروعة من دون الوقوع في الشعبوية التي لا تؤدّي إلّا إلى تولّي سدّة الحكم معتوهين ومجانين ومتطرّفين على شاكلة ترامب ونتنياهو.
الشعبوية ليست ظاهرة جديدة، لكنها تزداد بروزاً في عالم اليوم، حيث تتقاطع الأزمات السياسية والاقتصادية مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. تُعرف الشعبوية بأنها خطاب يستهدف استمالة "الشعب" عبر تبسيط التعقيدات واختزال الحلول في شعارات عاطفية جذّابة. لكن وراء هذا الخطاب تكمن مخاطر عميقة تهدّد البلدان المستقرّة، وتمنع البلدان المأزومة من تجاوز أزماتها.
يُبنى الخطاب الشعبوي على استثارة المشاعر الجماهيرية، مثل الخوف من "الآخر" (المهاجرون، الأقليات، وكلّ مختلف ديناً وعرقاً)، أو الغضب من الوضع السائد. يستخدم الشعبويون لغة بسيطة ومباشرة، تلامس أحلام الجماهير المهمّشة أو غضبها، لكنها تتجاهل تعقيدات الواقع، وتقفز فوق هذا الواقع بشعارات هلاميّة تدغدغ مشاعر العامّة.
يروّج الخطاب الشعبوي لنظرية "ما بعد الحقيقة"، حيث تصبح العواطف أهمّ من الوقائع. يظهر هذا الأمر مثلاً في إنكار التغيّر المناخي أو الترويج لنظريات المؤامرة، ممّا يقوّض الثقة في العلم والإعلام. مثلما يلجأ الخطاب الشعبوي إلى تصوير النخب كعدو للشعب، وتدفع الشعبوية في البلدان الديمقراطية إلى رفض المؤسسات مثل البرلمانات والقضاء، لصالح زعيم "منقذ" يتجاوز القواعد لتحقيق مصالح "الشعب".
يعمّق الخطاب الشعبوي الانقسامات عبر تصوير المجتمع كمعسكرين: "نحن" الطيبون ضدّ "هم" الأشرار. هذا الخطاب يضع الحوار جانباً ويغذّي منطق العنف، كما جرى على سبيل المثال في أحداث الكابيتول الأميركية عام 2021. فضلاً عن اتخاذه قرارات سياسية قصيرة النظر وسياسات استرضائية لكنها كارثية لأنها تساير الجموع من دون الاستناد إلى أسس علمية ومنطقية.
تسهم المنصات الرقمية في تضخيم الخطاب الشعبوي، حيث تروّج الخوارزميات للمحتوى العاطفي والمثير، بغضّ النظر عن دقّته. التغريدات التحريضية أو مقاطع الفيديو المبتسرة تنتشر أسرع من التحليلات المتعمّقة، ممّا يعزّز ثقافة "اللايقين" ويجعل الحقائق نسبية.
في بلاد مثل بلادنا حيث الحروب والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والهيمنة الاستعمارية والعدوانية الإسرائيلية يغدو الخطاب الشعبوي عائقاً حقيقياً أمام أيّ شكل من أشكال المراجعة والمساءلة، والبحث عن سبل الخلاص وتلافي تكرار الأخطاء نفسها والمراوحة في المكان والعجز عن التقدّم قيد أنملة.
طبعاً الشعبوية ليست سبب الأزمات والمشكلات والعثرات لكنها تعكس إخفاقات النخب في الاستجابة لمستلزمات المرحلة ومراجعة الأسباب الحقيقية لتلك الأزمات واجتراح حلول حاسمة. لذا، فإن مواجهتها تتطلّب معالجة جذور الأزمات، مع رفض الانجرار وراء الوهم بأنّ الحلول البسيطة يمكن أن تعالج تعقيدات العالم.
فقط عبر الجمع بين العقلانية والعدالة يمكن بناء مجتمع يقاوم إغراءات الخطاب الشعبوي المدمِّر الذي يرفض نقد الذات ومراجعة الأخطاء والاعتراف بها للحؤول دون الوقوع فيها مجدّداً وتلافي نتائجها الكارثية. وثانيةً وِفق الإمام علي بن أبي طالب "مَن رَضي عن نفسه كثُر الساخطون عليه".