زياد الرحباني: عبقرية الموسيقى والسخرية والتمرّد
اليوم، ونحن نودع زياداً، نكتشف أن صوته كان نبضاً جمعنا كأجيال متلاحقة. مسرحياته حوّلت وجع الحرب إلى ضحكةٍ مبلسِمة، وأغانيه رسمت لهفتنا وعنادنا وتوقنا إلى الحرية والعدالة والمساواة.
-
ظلّ زياد صادقاً مع نفسه حتى الرمق الأخير
في غرفنا المتواضعة، في خنادق القتال، في ملاجئ الخوف والرطوبة، على هدير الطائرات المعادية وأزيز الرصاص ودوي المدافع، وعلى هدير البوسطة، وعلى صوت فيروز أو جوزف صقر... في كل زوايا حياتنا المرتبكة، كان صوته وموسيقاه، أغنياته ومسرحياته، رفاق الأيام الحلوة والمرّة على السواء.
من شقته المتواضعة في منطقة الحمرا، حيث رائحة القهوة تختلط بأصوات الجيران وعابري السبيل، كان يعزف على بيانو عتيق أنغاماً معجونة بخميرة الحياة اليومية للناس المسحوقين الذين انتمى إليهم طوعاً لا قسراً. وقبل ذلك بين جدران البيت الرحباني الذي احتضن أحلام لبنان الجريح، وُلدت عبقريته الفذّة وهو لم يتجاوز السابعة عشرة، لحّن "سألوني الناس" لفيروز، بينما كان والده الأسطوري رهين المستشفى. كانت تلك اللحظة بشارة ميلاد نغم جديد في السمفونية الرحبانية، يحمل رصانة التراث بروحٍ متمرّدة. نغمٌ متفرّد خرج من رحم الألم الخاص المعمّد لاحقاً بالوجع والفقدان ليُعلن أن الإبداع وريثٌ لا يُقهر.
عبقرية زياد الموسيقية تمثلت في أعماله المختلفة، ولكن بشكل خاص في قدرته على تجديد أسطورة فيروز من دون تمزيقها. ففي التسعينات، قدّم لها "كيفك إنت" وما تلاها من أغنياتٍ نقلتها من أيقونةٍ شبه مقدسة إلى رفيقةٍ حاضرةٍ في قلوب الأجيال الشابة. سحب صورتها من السماء الشامخة إلى الأرض المتعَبة لتصير قريبةً من شباب الزمن السريع، تتكلّم بلغتهم وتغنّي همومهم العاطفية كأنها شابةٌ لا تزال تعيش الحب وحلاواته ومراراته، بل حتى سأم العاشقة ولامبالاتها أحياناً، بصوتها العابر للزمن.
لكن زياداً لم يكن مجرد ملحّنٍ عبقري. لقد حوّل خشبة المسرح إلى مرآةٍ تكسر أقنعة المجتمع. في "نزل السرور" و"بالنسبة لبكرا شو؟" و"شي فاشل"، مزج السخرية اللاذعة بالوجع الإنساني، فجعل من سائق البوسطة والبائع المتجول أبطالاً يفضحون فساد السياسيين وتناقضات الحرب.
كانت خفة دمه على المسرح سلاحاً يواجه ثقل دم الساسة، وزيف العلاقات الاجتماعية. ففي "مربى الدلال" حوّل انهيار زواجه إلى هجاءٍ اجتماعي، وفي "فيلم أميركي طويل" جسّد ببراعةٍ ذلك المواطن البسيط الذي يسخر من هوسنا بالغرب. ضحكته كانت رصاصاتٍ مباشرة في الظلم والظالمين.
كنا مراهقين نجمع "خرجياتنا" (مصروفنا اليومي) كي ننزل من ضيعنا وقرانا إلى بيروت ونشتري التذاكر كي نشاهد مسرحيات زياد ونحن نصهل ضحكاً على وجعنا ومآسينا وما ابتُلينا به من آفات الطائفية والطبقية والحزبية الضيقة التي لا ترى أبعد من أنفها الذي صار أطول من أنف "بينوكيو".
وفي غمرة الحرب الأهلية، اخترع زياد مع صديقه جان شمعون ثنائياً أسطورياً في "بعدنا طيبين قول الله". هناك، من ذلك الاستوديو المحاصر بالنار والبارود في قلب الإذاعة اللبنانية، حوّل الأثير إلى خندقٍ للمقاومة بالكلمة. لم يكتفِ بفضح فساد الزعماء والساسة، بل كان صوته صارخاً في وجه الاحتلال الإسرائيلي وداعماً للمقاومة في الجنوب، وكأن ميكروفونه بندقيةٌ تطلق كلمات الحق.
كلماته الصادقة عبر أثير الإذاعة اللبنانية (ثم بعد سنوات في إذاعة "صوت الشعب") كانت شجاعةً نادرة، كما كان انضمامه للحزب الشيوعي بعد مجزرة تل الزعتر (1976) تعبيراً عن التزامٍ لا يتزعزع: فلسطين جرحه الأول، ومقاومة الإمبريالية عقيدة لا يتنازل عنها. ظل مع المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي في جميع مراحلها وراياتها، في لحظات الانكسار والهزائم وفي زمن الانتصارات، وقف زياد مع الذين حملوا السلاح دفاعاً عن تراب لبنان، معتبراً أن كلمته وفنه سلاحٌ موازٍ في المعركة ذاتها. لذا لم تكن مفاجئة إطلالته في "مهرجان النصر" في الضاحية الجنوبية لبيروت إثر العدوان الإسرائيلي في العام 2006.
ومع رفيق دربه جوزيف صقر (ومع سامي حواط) نسج أغانيَ صارت نشيداً لكل المهمشين. مزج نبرة صوت جوزف الحنون والساخر في آن بألحانه التي زاوَجت بين العود والبيانو، فخلقت لغةً موسيقيةً عابرة للتصنيفات. أعماله وموسيقاه لم تكن مجرد أغنيات، بل هتافاتٌ لحنيةٌ تدعم صمود الناس تحت القصف، وتخلد بطولات المقاومين في القرى المحررة.
بعد صحيفة "السفير" وجد ملاذه الأخير في جريدة "الأخبار". بكلماتٍ عاميةٍ جريئة، سخَر من انقطاع الماء والكهرباء والطائفية. لكن سخرية زياد كانت دائماً خندقاً مفتوحاً للدفاع عن القضايا العادلة من دعمه الثابت للمقاومة الفلسطينية، إلى مناهضته التطبيع مع الاحتلال، وصولاً إلى سخريته اللاذعة من تفاهة الساسة وزعماء الطوائف.
ظلّ زياد صادقاً مع نفسه حتى الرمق الأخير. حين أثقل المرضُ العضال جسدَه تقوقع في صمته وعزلته، مبتعداً عن الأضواء والمجتمع والناس، كما لو كان يختار بكراهيته المعهودة للرياء والتصنّع أن يودّع الدنيا على طريقته، بعيداً عن الضجيج والابتذال. كان غيابه الطوعي المفعم بالكرامة استمراراً لتحدّيه لكل أشكال الزيف، حتى في مواجهة آلامه ووحدته.
اليوم، ونحن نودع زياداً، نكتشف أن صوته كان نبضاً جمعنا كأجيال متلاحقة. مسرحياته حوّلت وجع الحرب إلى ضحكةٍ مبلسِمة، وأغانيه رسمت لهفتنا وعنادنا وتوقنا إلى الحرية والعدالة والمساواة. برحيله، لم نخسر فناناً عبقرياً فقط، بل خسرنا مرآةً ناصعة رأينا فيها وجوهنا المشوّهة بجمالٍ لا يوصف، وضميراً ظلّ يهتف فينا: "بيقولوا لبنان بلد التعايش.. بس ما حدا عايش".
بيانو غرفته في الحمرا سيظلّ يعزف من تلقاء ذاته لأنه ساكن في حنايا قلوبنا وذاكرتنا. رحل الجسد المتعَب لكن نغمه صار لحناً في ذاكرة وطن، وضحكةً في عتمة الليل، وصوتاً يهمس في أذن كل ثائر: إنّ الضحك في زمن الموت مقاومةٌ، والموسيقى في زمن القبح ثورةٌ، والسخرية سلاح من لا سلاح له، وأن دعم المقاومة ضد المحتل واجبٌ حتى ولو بمفاتيح بيانو.