"سطوة التقاليد" على نساء الصين

 تتساءل الكاتبة في روايتها "ما يجمعنا يفرقنا" عن التناقض بين العرف المفروض والفارض نفسه في الصين كاشفةً عن سطوة التقاليد على مصائر النساء، وفرضها عاداتٍ أفضت بهن إلى آلام مبرحة.

  • رواية
    رواية "ما يجمعنا يفرفنا" للينزي ناميوكا

"ما يجمعنا يفرقنا" للكاتبة الصينية الأميركية لينزي ناميوكا (1929) روايةٌ عن فتاة غردت خارج سرب جماعتها. من خلال تتبع قصتها، ترصد الكاتبة الأحوال في الصين قبل عام 1920، كاشفةً عن سطوة التقاليد على مصائر النساء، وفرضها عاداتٍ أفضت بهن إلى آلام مبرحة.

الرواية الصادرة عن دار فواصل في دمشق (2023) بتعريب وائل بحري تبحث في أصول عادة ربط أقدام الفتيات في الصين، إذ تشير الكاتبة في تقديم روايتها إلى أنه لم يُعثر على أي وثائق سجلت مسألة ربط الأقدام إلا في عهد أسرة تشونغ (960-1279)، حين كانت عرفاً مقتصراً على الأرستقراطية، ثم امتد إلى باقي طبقات المجتمع، واستمر إلى ما يربو على ألف عام، محملاً النساء آلاماً عدّها المجتمع مسوغاً للجمال والجاذبية.

قدم اللوتس الذهبية

تقول الكاتبة: "إن صور تلك الأقدام العارية العاجزة هو مشهد مقزز. أين هي الجاذبية إذاً؟ لا يمكن لأي شيء أن يكون أشد سوءاً من تقييد أقدام المرء". تبدأ الرواية بصوت الطفلة آيلين تاو من مدينة نانجينغ. تبدو فتاة مدللة وجامحة وسط أسرة يرأسها الجد، ويقودها عمّ كبير دائم الانتقاد.

تعيش آيلين صدمة حين يخبرونها أنها عند بلوغ الخامسة ستتوقف عن الجري، وستُمنع من اللعب، وتبدأ بربط قدميها لتتعلم مهارات السيدات. تقول الطفلة: "لم أكن واثقة برغبتي في أن أكبر". 

وهنا تفشل محاولات الأسرة في قسرها على ربط قدميها، ويساعدها في ذلك عمل والدها وبقاؤه قريباً من الأجانب ومطلعاً على الثقافات الغربية. لذا، نجده يساند طفلته في رفضها الانصياع إلى العرف المعهود.

 تطرح الكاتبة هنا سؤالها عن التناقض بين العرف المفروض والفارض نفسه، فالنساء الصينيات، وعبر عقودٍ، كنّ الضحايا من جراء ربط الأقدام، وهن في الوقت ذاته اللواتي أجبرن فتياتهنّ على كسر أصابع الأقدام، وهو أمر يذكرنا بثنائية "الضحية – الجلاد".

ذلك الإصرار على تفعيل الألم ودفعه إلى الاستمرار عبر ألف عام زرعَ في المرأة الصينية انقياداً مضللاً، فأن تعاني الفتيات لأن شخصاً أفتى بمنع الأقدام الكبيرة في أوساط الطبقة العليا، ودفع الصغيرات لتشكيل أقدامهن بما يشبه زهرة اللوتس، جعلهن في معرض التشكيك في مسألة العفة، وهو ما خلق شغف آيلين بالحرية ودفعها إلى الهروب، لتمسي محط سخرية العائلة، وتُتهم بإصابة شرف العائلة في الصميم.

هكذا، ينظر الجميع إلى الطفلة كمن ينظر إلى غانية، إلا أن موقف الأب قبيل الثورة والانقلاب على حكم الإمبراطور يساعدها على المضي في تمردها، وفي ذلك إشارة إلى أهمية موقف المثقفين وما أنجزه المتنورون في الوقوف ضد ما وجدوه عاراً على جبين الأمة الصينية.

لقد برز دورهم في نبذ ما سلب أمتهم معايير الإنسانية، وطالبوا بكسر عزلتهم عن الشعوب الأخرى. وهنا، تتكشف العوامل التي أدت إلى اندلاع الثورة والقضاء على الإمبراطور، ودفعت البلاد إلى تحولات جذرية على مستوى السياسة والمجتمع.

مصدرٌ للبهجة والألم

عُدّ النظر إلى الأقدام المشدودة مبعثاً للبهجة في نفوس الرجال الصينيين. وعلى عكس الحال في الغرب، ساد الاعتقاد بأن المرأة التي لا تشد قدمها تفتقد الطهارة ويعوزها الإخلاص. 

أما النساء ذوات الأقدام الكبيرة، فلم ينظر إليهن من زاوية الجمال، إنما من مبعث الخجل لأسرهن، إذ سادت لـ1000 عام قناعة بأنه إذا لم يتم شد قدم المرأة، فسوف تتحول إلى كائن منفلت، وربما ينمو عقلها ويسمح لها بالتفكير، وهو ما كان مخجلاً للأسرة الصينية، وهو أيضاً ما تلتقطه الطفلة آيلين حين تجلس مع خطيبها في عمر الخامسة، وتتجادل معه حول خفايا ظاهرة الكسوف، وتُفاجأ حين يفسرها كما تعلم في المدرسة بأسبابها العلمية، فيما تخبرها المربية أن سبب الكسوف هو محاولة كلب سماوي التهام الشمس، وعليها كامرأة صالحة أن تقرع الناقوس بصوت عالٍ لإخافته وإبعاده.

تقارن الطفلة بين تفكيرها وتفكير الصبي الآسر، فتدرك أنها تعيش في عالم قوامه الخرافة والكذب، وهو ما يدفعها إلى تقييم عيشها ضمن أسطورة عنوانها الكذب والتلفيق.  

زمن التحولات الكبرى

تكرس الرواية جزءاً من فصولها لمصلحة التحولات بعد الانقلاب السياسي في البلاد، إذ تبدأ بانتقاد الإذلال الذي تعرض له الصينيون بعد حرب الأفيون عام 1839، التي عدت ثمرة العزلة والانغلاق، وهو ما يكرره والد آيلين في حديثه إلى أسرته، الأمر الذي يجعل من وضع النساء المزري مرآة تعكس أحوال البلاد عامة.

وحين تقرر الطفلة أن تحيا حرة وتتعلم في مدرسة عامة بعيداً من عالم أسرتها، تقع في مأزق وفاة أبيها المبكرة، فالعائلة تجد التعليم أمراً غير صحي للفتاة، ويمسي لزاماً عليها أن تختار بين الطرد أو الزواج بصورة تقليدية.

تظهر هنا محنة المرء في الاختلاف، فآيلين تكبر كامرأة لا تجيد ما تقوم به باقي النساء، بل تتعلم عن المجرات وتتحدث اللغات، فيما ينظر إليها داخل أسوار البيت كفتاة شقية تجلب العار للأسرة.

مع قيام الثورة ضد الإمبراطور، تتكشف المؤشرات التي دفعت فئاتٍ من الشعب الصيني إلى رفض حياتهم السابقة، ويسهم في ذلك دخول البعثات التبشيرية والاحتكاك بالأجانب. هنا، ترفض آيلين سطوة العمّ، وتترك الدراسة وتهرب لتعمل مربية لدى أسرةٍ أميركية. 

تمضي وقتاً طويلاً لفهم الأسباب وراء عزلة شعبها، إلا أنها تدرك حقيقة كونها عزلةً قادت الجميع نحو التغيير. ومع انهيار أسرة تشينج، تغادر آيلين إلى أميركا وتتزوج فيها، فيما يزداد الانتقاد للعادات التي أغرقت البلاد، ويبدأ الصينيون بتشكيل مجتمع جديد ينبذ انغلاقهم السابق، إذ تفرض غرامات باهظة على من يمارس تلك العادات.

إقرأ أيضاً: مو يان .. رائد أدب المقاومة في الصين

وحين يأتي الشيوعيون إلى الحكم عام 1949، يختفي تقليدٌ صيني قديم بدأه الأجداد كتجسيد للجمال، وقضى عليه الأحفاد كتعريف غير محمودٍ لحقبةٍ طويلة من تاريخ البلاد. 

"كان الانتحار أقوى سلاح استعملته المرأة الصينية عبر التاريخ. لطالما كانت النساء الصينيات اللواتي يتعرضن للظلم يُقدمن على الانتحار. حتى عندما يُخفى هذا الجرم عن الغرباء، كان الشبح الغاضب للمنتحرة لا يكف عن مطاردة الجاني. أبعدتُ فكرة الانتحار؛ إذ لم أكن على ثقة تامة بأن شبحي الغاضب سيعود ليطارد عمي الكبير"، تقول آيلين في الرواية.