"سقطت" و"السر المدفون".. السينما في مواجهة الاحتلال

"دار الأوبرا" في دمشق تستضيف مهرجاناً سينمائياً بالتعاون مع "رسالات"، حيث تم تقديم فيلمين أحدهما ينقلنا إلى حلم زوال "إسرائيل".

بين سينما الحلم مُجسَّدَةً في فيلم "سقطت"، والدراما الواقعية المبنية على قصة حقيقية في "السر المدفون"، تم افتتاح "مهرجان سينما المقاومة" في "دار الأوبرا" في دمشق، الذي أقيم بالتعاون بين "المؤسسة العامة للسينما" و"الجمعية اللبنانية للفنون" (رسالات).  

فيلم "سقطت" (14 د.) من إخراج كامل حرب، استطاع لدقة اشتغالاته السينمائية، تصويراً وتمثيلاً وإخراجاً، أن يُحيل منطقة القدم السورية إلى فلسطين. مرة تدور الأحداث في الضفة الغربية، وأخرى في جنين ومخيمها، وثالثة في طريق الأردن وبحيرة طبريا.

وعلى بساطة حكاية هذا الفيلم، إلا أن الصدق الفني الذي يحمله استطاع أن ينقلنا إلى حُلْم زوال كيان "إسرائيل" وسقوط "تل أبيب"، وتسربت البهجة إلى قلوبنا، بعد أن تم تدمير مقر الكنيست، وتلقت الطائرات الإسرائيلية المعادية، في نهاية الشريط السينمائي، ضربات موجعة من قوات عربية مقاومة، اجتمعت مع بعضها لتدمير جبروت الآلة العسكرية الصهيونية، ما جعل شخصيات الفيلم الصامت بمعظمه، تُلملم أشلاء أحزانها وضحاياها وخرابات الحجر، وتواجه الحلم بفرح عظيم، لا سيما بعد لقاء المقاومة الداخلية الفلسطينية مع شقيقاتها في الدول العربية في عملية تمت تسميتها "وعد الآخرة"، ما أعاد إلى الأذهان، ما حصل في أيار/مايو عام 1948 بعد نشأة الكيان الإسرائيلي بفترة وجيزة كيف هاجمت القوات العربية المستوطنات الصهيونية، واستعادت عدداً من المدن الفلسطينية، قبل أن ترضخ لقرار مجلس الأمن الدولي بوقف العمليات العسكرية، وأيضاً ما تم في تشرين الأول/أكتوبر من عام 1973، أي ذكرى آخر مرة اجتمعت فيها الجيوش العربية بمواجهة "إسرائيل"، بعد أن شن الجيشان السوري والمصري، بدعم عربي، هجوماً لتحرير الأراضي التي احتلها الكيان الغاصب عام 1967.

من القدس المحررة.. هنا دمشق

كما تشتعل مخيلة الأطفال في أثناء تطيير طائرة ورقية، هكذا عَمِلَ الفيلم في متابعيه، خاصةً أن مخرجه حرب جعل تلك الطائرة بلون الدم، تطوف في سماء فلسطين ببيوتها المتعبة وحقولها المترعة بالجَمال ووجوه أهلها الطيبين وابتسامات أطفالها النابعة من القلب بعد التحرير.

جاءت تلك الطائرة الورقية استكمالاً لبهجة الحُلُم، الذي تعزز مع موسيقى تصويرية لأغنية تُمجِّد الصبر، وتُسبِّح باسم الحجر بيد الفلسطيني المقاوم، وتدعو "دولة" الكيان للاندثار، لينتهي الفيلم على أثير إذاعة فلسطين وصوت المذيع يقول: "من القدس المحررة هنا بيروت، من القدس المحررة هنا دمشق، هنا القاهرة، هنا عمّان،...".

أما الفيلم الثاني في افتتاح المهرجان فكان "السر المدفون" (88 د.)  لمؤلفيه رضا اسكندر ومحمود غلامي ومخرجه علي غفاري. دراما واقعية مبنية على قصة حقيقية للشهيد عامر كلاكش "أبو زينب" (جسّده علي كمال الدين) من قرية دبّين الجنوبية، وكيف استطاع أن يؤرق الاحتلال الصهيوني يوم العاشر من آذار/مارس عام 1985 بعملية استشهادية في بوابة القدس الشرقية أطاحت عشرات العسكريين الإسرائيليين، وذلك لإيمانه أن في شهادته معنى حقيقياً لحياته، ليبقى اسمه لُغزاً عصياً على الحل من قبل قوات الاحتلال وأجهزته الأمنية وأعوانهم اللحديين، وسرَّاً كتمته أمه إنصاف عاشور (كارمن لبُّس) حتى عن والده توفيق كلاكش (عمار شلق)، لما يزيد على 14 عاماً، بعد أن أوهمت الجميع أنه سافر إلى الكويت للعمل.

جمال باذخ

حول هذا السر بُني الشريط السينمائي وآليات تشويقه، مع توشيحات إنسانية تُبرز جهاد الأم وصبرها في تحمُّل غياب ابنها الأصغر، لأنها على يقين أن "البلد أكبر منّا جميعاً" كما قالت، وفوق ذلك تواري أحزانها على أسر ابنها رياض في معتقل الخيام، والعذابات التي يذوقها على أيدي عساكر الاحتلال وهمجيتهم.

كما تواجه التحقيقات التعسفية التي يقوم بها اللحديون مع ابنتها الصغيرة "نوال"، والتي تنتهي بموتها أمام عتبة منزلهم، وكل ذلك بغية اعترافها بهوية أبو زينب لكنها ترفض، ويتجدد إيمان الأم مع عودة ابنها عادل (باسم مغنية) من ليبيريا لينخرط في صفوف المقاومة، ويشارك في عملية تربك الاحتلال وجيشه مرة أخرى، سائراً على خطى أخيه الصغير، ليتعرض للاعتقال في تأبين أخته.

في المعتقل يسعى عادل لملاقاة أخيه، وهو ما يتم تجسيده بصورة سينمائية باذخة الجمال، بعدما يضرب عنصراً من عناصر أمن السجن كي يضعوه في الزنزانة المنفردة، وفيها تمتد يده إلى يد أخيه في الزنزانة المقابلة ويتصافحان.

في المعتقل، يتعرف عادل على آخر رجال المقاومة الذين التقوا بأخيه عامر قبل استشهاده، وكيف أن العملية كادت أن تفشل بسبب مرور باص للمدرسة قبل القافلة الإسرائيلية بلحظات، ما دعاه إلى التوقف قليلاً، قبل أن يتابع اقتحامه الحاجز الإسرائيلي ويفجر سيارته المحملة بطن من المتفجرات، والتي تلقفت معه عشرات الرصاصات، قبل أن تصل إلى هدفها.

ومن المشاهد الجميلة في الفيلم ذاك التزامن بين سحق الأم للّحمة بمطرقة خشبية، والانفجار الهائل الذي حققته عملية استشهاد ابنها، لنكون أمام متواليات بصرية تتلاعب بالزمان والمكان، لتزيد من أثر الجرعة البصرية ومفاعيلها في المتلقي، مشاهد تمزج ألفة الجنوب اللبناني بساكنيه، وعمق الإيمان بالمحبة الصافية، ليبقى ذاك "السر المدفون" هو العلامة الفارقة، والذي بقي حبيس صدر الأم وابنيها وبنتها وبعض رجال المقاومة، حتى أعلنه السيد حسن نصر الله، واقعاً وفي الفيلم، ضمن حفل النصر بعد تحرير الجنوب عام 2000 وتالياً تحرير الأخوين كلاكش من معتقل الخيام.

أطلق نيرانك لا ترحم

الجدير بالذكر أن الافتتاح بدأ بحفل موسيقي قدمته "الفرقة الوطنية السورية" بقيادة عدنان فتح الله الذي قدم 6 أغنيات وطنية هي: "صفوا العساكر للمجد صفوا السواعد للوعد"، "أنا سوري وأرضي عربية"، "صف العسكر رايح يسهر"، "خبطة قدمكن"، "أطلق نيرانك لا ترحم"، "عاب مجدك"، وكل على خلفية تماهت فيها عروض عسكرية للجيش السوري، مع تخريج دفعات من الكليات الحربية، واستقبال البلدات المحررة لأفراد الجيش، إلى جانب مشاهد للمقاومة اللبنانية.

كما تم تكريم بعض الشخصيات السينمائية من قبل وزارة الثقافة السورية هم: الفنانان السوريان أيمن زيدان ودريد لحام، ونعمة البدوي نقيب الفنانين في لبنان، إضافة إلى محمد خفاجة مدير "جمعية رسالات".

وقالت وزيرة الثقافة السورية، لبانة مشوّح، في كلمتها إن: "المقاومة هي فكر نمارسه، ونضال يومي ضد دعوات اليأس والخنوع والاستلام"، لافتةً إلى أن للمقاومة "أشكالاً عدة هدفها درء الظلم وإحقاق الحق، ومنها المقاومة الفكرية التي هي رديف المقاومة الميدانية وداعم لها، ومهيئة لسبلها كي تنضج وتثمر وعياً وإدراكاً وعزيمة، وتنتج إخلاصاً وإيماناً وتضحية ووفاء وتفانياً".

وأضافت: "الثقافة سلاح المقاومة الأمضى، فبها يُنقّى الوعي وتُحَصَّن العقول ويرتقي الفكر، بالثقافة نعزز هويتنا وانتماءنا، ونقاوم كل أشكال الغزو والانصياع لإملاءات الصهاينة ورعاتهم ومن يدورون في فلكهم".

وختمت وزيرة الثقافة السورية كلمتها بالقول: "السينما أحد أوجه الإبداع، هذا الفن المبهر الذي تتوالف فيه كل وسائل التعبير الراقي، ويتآلف الكلم والصور والموسيقى، ويتداخل الواقع والخيال، وصولاً إلى الإبهار والإقناع، لكن لأفلام المقاومة هدفاً أسمى، إنها تُصْنَع لتكريس القيم وإجلاء الحقيقة".