"إشراقات": أدونيس يراهن على الأصوات الشعرية الجديدة

تهدف"إشراقات" إلى تقديم أصوات شعرية عربية، نسائية تحديداً، يقترحها ويختار نصوصها الشاعر أدونيس.

  • سلسلة
    سلسلة "إشراقات" الشعرية: رهان أدونيس على الأصوات الجديدة

يدهشنا أدونيس في رهانه على الشعر العربي الجديد، في وقت يتراجع حضور الشعر إلى أقصى درجات العزلة، فهذا الشاعر التسعيني الذي أسهم في إطلاق موجة الحداثة الشعرية العربية في ستينيات القرن المنصرم بما يشبه العاصفة ما زالت شهيته مفتوحة على المغامرة والاكتشاف، وذلك بإشرافه على سلسلة شعرية بعنوان "إشراقات"، افتتحها بنشر 4 مجموعات شعرية بتوقيع شاعرات هنّ: لمياء مقدّم "كتاب الجسد"، وناريمان حسن "غزالة تعرج نحو منفاها"، وافين حمو "غناء في الطريق إلى المقبرة"، ومريم الأحمد "غوايات كاهنة الضوء". 

يأتي هذا المشروع في "لحظة لا شعرية"، لكن صاحب "أغاني مهيار الدمشقي" يؤمن بأن شجرة الشعر لا تزال مورقة، ولكنها تحتاج إلى حراثة بمعولٍ مختلف لاكتشاف ما هو مخبوء في الظلال والهوامش والأدراج. تتمثّل فرادة هذه المغامرة بالالتفات إلى أصوات نسوية في المقام الأول، تحفر بصمت في مناطق مهملة، وذلك بتحديق مختلف فيما هو متروك جانباً، و"ما ليس شعراً".

يقول أدونيس في تقديمه لهذه السلسلة التي ستنفتح على أصوات أخرى مستقبلاً: "سفرٌ يخلّص الشعر من الثنائية الثقافية التقليدية: الجسد / الرّوح، ويفتح فضاء الكينونة التي لا تتجزأ. تفكّر وتكتب فيما تحسّ وتحلم وتتخيل. وتُحسّ وتحلم وتتخيّل فيما تفكر وتكتب: ذلك هو أفق المشروع الذي تجسّده هذه السلسلة من المجموعات الشعرية التي تظهر اليوم الدفعة الأولى منها بعد مشقّةٍ طويلة". 

ويضيف في وصف شعر هذه السلسلة المختارة بأنه "وهّاج، وحيوي، ومتوقّد، ومتفجّر، وراسخ، يوقظ المشاعرَ كلّها، ويتيح لأشياء كثيرة نائمة فينا أن تستيقظ وتتحرّك". في استعراض محتوى هذه النصوص، سنلحظ تفاوتاً في القيمة الشعرية بين تجربة وأخرى، وإن بدا الحفر نافراً في فضاءات بعض هذه التجارب، ولكنه لا يشكّل "منعطفاً تاريخياً في الشعرية العربية"، وفقاً لحماسة أدونيس، إنما يعد استمراراً لشفوية طغت على الشعر العربي منذ 3 عقود على الأقل؛ شفوية تمجيد اليومي والهامش. 

ربما ما أغرى صاحب "هذا هو اسمي" هو اشتغال الشاعرات بتحطيم "فحولة الشعر" وما يوصف بالمتانة والجزالة، لكن ما يعنينا هنا هو النظرة المفارقة لما هو سائد، إذ تكاد تتسلل إلى بعض هذه النصوص، وليس كلها، "روح الميديا"، وهي النصوص التي تقتحم الفضاء الأزرق بحقيبة ضخمة من الخيبات.

هكذا، تقتحم لمياء المقدم في "كتاب الجسد" مناطق محظورة في محاولة لإعادة الاعتبار إلى الجسد بأحواله المتعددة؛ الجسد المضطهد، والمنفي، والخانع، والمتمرّد، والجسد الصامت، وذلك الذي يتكلّم بلسانه لتظهير صورته على حقيقتها كعاطفة وعقل في نسيجٍ واحد: "الجسد ليس أعضاء فقط، إنما أيضاً الأشجار التي نام تحتها، والمياه التي أغرقته، والشوارع التي ضاع بينها. هو مجمل ما مرّ به من محن وإشكالات وتحدّيات" تقول. 

لا تتوقف جسارة لمياء المقدم عند تقليب المعنى في مكابدات الجسد، إنما تخلخل البنية الشعرية من جذورها لمصلحة السرد والحكي في تجوال طليق يمنح العبارة ألقاً إضافياً نابعاً من مهارة خاصة في تطويع الكتلة الشعرية إلى أشكال متجاورة تشكّل أطلساً عمومياً للجسد: "شخصيّاً، أرى في الجسد عقلاً موازياً، يشعر ويتكلّم ويتفاوض مع أعضائه، ويقاوم فكرة الغرق، ويتذكّر ويبكي ويشمّ على غرار العقل الحسّيّ. تُنْسَبُ هذه الأفعال إلى الأخير، لكنّي في الكتابة أجعل الجسد مالكاً لهذه الوظائف". 

الاستبصار بالجسد، من مقلبٍ آخر، نجده لدى افين حمو في "غناء في الطريق إلى المقبرة"، كأنما تكتب هذه الشاعرة نصوصها على حافة الهلاك، فالحلم ينتهي مهزوماً إلى مقبرة الوقت: "لا تلقِ بي إلى التهلكة/ لا تقل لي أنا طبق طائر". شاعرة تشتغل على الحافة بنصوصٍ طويلة تليق بالأرض المتصدّعة التي تنهض عليها جماليات التلاشي، حيث "تقطفك الأيدي كعنقود في دالية".

أما ناريمان حسن في "غزالة تعرج نحو منفاها"، فتعمل على محو ما هو فائض. تقتنص عبارتها مما تبقى من المشهد، كمن تظهّر صورة في نسختها الأخيرة، مزيحة الغبش عن الوجوه والأشكال والحنين إلى لحظة لن تتكرّر: "حين أحزن أجد الحياة مجرّد قبر/ أعاني فيه من التخمة. لهذا، لا ينفكّ ينهار فوقي، يسلب أنفاسي وطمأنينتي/ أجد أن قوتي، وخفة أجنحتي تتلاشى/ أنهارُ ولا أكاد أحتمل شيئاً حتى الضحكات". 

من ضفةٍ أخرى، تشتغل مريم الأحمد في "غوايات كاهنة الضوء" على المنظر المحلّي والمسافة التي تفصلها عن مدينة غارقة في الوحشة، وتتكئ على بعد معرفي في ترميم الفراغ، كما لو أنها تؤرشف يوميات المدينة بعدسة جوّالة، قبل أن تلجأ إلى ذاتها لحماية نفسها من الغرق: "أنا حرف ميم مشبع/ انطق اسمي بأصابعك/ اسمي جرح نازف وأنت غجري يدّعي الطب"، و "أمضيتُ نصف عمري أنتظر الباص/ والنصف الثاني وأنا أصرخ للسائق/ أنزلني! أنزلني!".

تقف وراء هذا المشروع ورشة شعرية وتقنيّة بمنحة خاصة من "مؤسسة غسان جديد للتنمية" و"دار التكوين"، في طموح لتأصيل شعرية عربية جديدة تلفظ الركام جانباً بقصد تخليص الشعر من شوائب السطح وغبار العادي والمكرور والنافل، فيما يراهن المصمم الغرافيكي للسلسلة أحمد معلا على أبعاد بصرية تواكب المحتوى مقترحاً "العودة إلى التربيعة الأولى، إلى الحد الأدنى الأكثر تقشفاً لصياغة شخصية غرافيكية لأغلفة مجموعات شعرية. شطرنجية محكمة تتهندس في المخيلة لترسم أسماء الدواوين والشعراء، وتتحرك الحروف واتصالاتها أو انتقالاتها بما يتناسب والفضاء المتاح أو بما يمليه التفنن في تشكيل جسد الكلمة. 

المربع هو الوحدة الهندسية الأولية التي ستكوّن بتكرارها وقيادتها عبر الشاقولي والأفقي مفردات الأغلفة تشكيلياً، وهذا ما سيعطي للمجموعات هوية بصرية واحدة، فالإطلالات تكاد تتساوى وتتماثل في محاولة لتقديم تجاربنا الشعرية بعدالة ودونما انحياز إلا للشعر. ومن المنتظر أن تصدر الدفعة الثانية من هذه السلسلة بأسماء وعناوين جديدة.