سلمى الخضراء الجيوسي واجهت "المركزيّة الأوروبية" في عقر دارها

اخترقت سلمى الحواجز، وبنت مشروعها خطوة خطوة، بثقة وهدوء وعناد، حتى صارت "المرأة المؤسسة". قامت وحدها بما يجب أن تقوم به مؤسسات وحكومات، لاستعادة الصلة العضويّة المفقودة بين الثقافة العربية وثقافات العالم.

سلمى الخضراء الجيوسي التي انطفأت في عمّان في 20 نيسان/أبريل الماضي أكثر من شاعرة وكاتبة ومترجمة ومؤلفة موسوعيّة. إنّها أيقونة في ذاكرتنا الثقافيّة ورمز من رموز المواجهة والتصدّي ضد مشاريع الهيمنة، "غزت" الغرب حضاريّاً في سياق التصدّي لمشاريع محو الذاكرة الفلسطينيّة والعربيّة. 

إن استعادة مسيرة سلمى الخضراء الجيوسي (1926 - 2023) هي استعادة ذاكرة جيل ومرحلة ومعارك وجودية وحضاريّة مستمرّة إلى اليوم، ولو تغيّر شكل الصراع وعناوينه. ستبقى في وجداننا الجماعي هذه الشابة الفلسطينيّة التي كانت في الخامسة والعشرين عام 1948، وقررت أن تكرّس حياتها عبر الفكر والبحث الأكاديمي والترجمة والإبداع للتغلّب على النكبة وتجاوزها.

هذا، في رأي كثيرين من دارسي سيرتها، كان المحرك الأساسي لسلمى خضراء الجيوسي: كل مسيرتها الأدبية والأكاديميّة والثقافية والموسوعية كانت بهذا الهدف، وتحت هذا العنوان: التغلب على النكبة، التغلب على الاقتلاع، التغلّب على المشروع الاستعماري الذي لا يقتصر على احتلال الأرض واغتصاب الحقوق والتطهير العرقي والأبارتهايد، بل يتجاوز كل ما سبق -على فظاعته- إلى مشروع طمس الذاكرة الجماعية الفلسطينية، ومسح التراث الفكري الثقافي الأدبي الفلسطيني (والعربي)، ومصادرة الكلمة نهائيّاً، وتحوير السردية الفلسطينية.

الحرب مستمرّة إلى اليوم. ولهذا السبب تبدو سلمى الخضراء الجيوسي راهنة أكثر من أي وقت مضى، وتعاليمُها ومؤلفاتُها، وكتبُها بالعشرات، ونضالُها الحضاري، وكل ما ساهمت بنقله إلى الرأي العام الغربي، هو سلاح مقاومة فعّال وحيوي تورثُنا أياه، وعلينا أن نتمسّك به، ونعيد اكتشافه، وننقله إلى الأجيال التي لم تعاصر الجيوسي. 

سلمى شاهدة استثنائيّة على صعود مشروع الحداثة في الشعر والأدب والنقد والترجمة، وفي الفكر والاجتماع وحقوق المرأة. إنّه مشروعُ المقاومة وتجاوزِ وعيِ الهزيمة، ومشروع التصدي للسلطة البطريركيّة، وهي أصلُ تراجعنا وعجزِنا في العالم العربي، كما شرح بإسهاب عالم الاجتماع الراحل هشام شرابي. وقد احتلت مكانها بسرعة على الخريطة الثقافية، وسط رياح التغير التي هبت على القصيدة العربية في خمسينيات القرن الماضي، وسعت إلى التمايز كامرأة عربية تعيش في مجتمع تقليدي، وكفلسطينية تعيش آلام شعبها المنكوب الذي فقد وطنه ويواجه تهديد فقدان الهوية.

وفي عز احتدام الصراع بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، تحاشت سلمى الانحياز إلى طرف دون سواه. ارتادت حلقات مجلة "شعر" في بيروت، ونشرت فيها، لكنها كتبت قصيدة التفعيلة، ونشرت في منبر هو "غريم" مجلة "شعر" المعلن حينذاك، أي مجلّة "الآداب". كانت مواقفها تأليفيّة وجدليّة وتعددية وديمقراطيّة ومركّبة: من جهة تفلّت القصيدة، ومن الأخرى الشعر الموزون... من جهة الشعر الحر بموسيقيّته وغنائيّته، ومن جهة أخرى قصيدة النثر المشرعة على التجريب... تقبلتِ الأشكالَ الجديدة، ورفضت كل أنواع "التكفير"، لكنّها لم توقّع حكم الإعدام بحق أوزان الفراهيدي، ونذكر جملتها الشهيرة: "من المُفقر لأيّ فنّ أن يَحْصُرَ فضاءَ تعبيره".

توضح سلمى موقفها خلال مرحلتها البيروتية، وقد ترسّخ واغتنى مع مرور السنوات: "كنتُ في قلب الحركة الحداثية، لكنّني كنت أحترم التراث، ولا أجد أنّ الانتقال إلى الحداثة يتطلّب نبذ التراث ونسيانه. (...) لم يكن من الممكن الانفصال عن ذلك التراث الغنّي الذي اقتربتُ منه في مكتبة والدي، ثم وقعتُ في حبّه حين كبرت ودرسته".

ومن هذا المنظور، باشرت بمشروع نقدي طويل النفس، قوامه قراءة التجارب الشعرية العربية على اختلاف مدارسها، من عصر النهضة حتى سبعينيات القرن الماضي، وشكّلت أطروحتها "الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث" في جامعة لندن عام 1970 انعطافه في حياتها الأدبية والثقافية وكل إنتاجاتها اللاحقة، وصارت هذه الدراسة من المراجع النظرية الأساسية حول القصيدة العربية الحديثة.

بعد 37 عاماً، انتقل الكتاب إلى المكتبة العربية بجهد الناقد العراقي عبد الواحد لؤلؤة، وبفضل "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت، التي احتضنت بعض أهمّ كتب الجيوسي.

اخترقت سلمى الحواجز، وبنت مشروعَها خطوة خطوة بثقة وهدوء وعناد، حتى صارت "المرأة المؤسسة" التي نعرف، أو "المرأة الأوركسترا"، مجموعةَ نساء في امرأة واحدة! قامت وحدها بما يجب أن تقوم به مؤسسات وحكومات لاستعادة الصلة العضويّة المفقودة بين الثقافة العربية وثقافات العالم. من "مشروع الترجمة من العربية" Prot (1980)، إلى "رابطة الشرق والغرب" بعدها بعقد، اشتغلت على تقديم الحضارة العربية والإسلامية بقديمها وحديثها إلى قرّاء لغة شكسبير وإزالة المفاهيم الخاطئة والنظرة النمطية إلى العالم العربي - الإسلامي. 

هذه الرِحلة الطويلة الخصبة في الكتابة النقدية والبحثية والترجمة والشراكات الأكاديمية مع متخصصين وباحثين ومترجمين... كانت ثمرتها مؤلّفات مرجعيّة لا تحصى حملت الأدب والتراث العربيين إلى الغرب من خلال اللغة الإنكليزية: من الشعر الأموي إلى أنطولوجيا أدب الجزيرة العربية، ومن حقوق الإنسان في الفكر العربي، إلى المدينة في العالم الإسلامي، مروراً بالقصة والرواية والمسرح والدراما، مع التوقف عند محطتين أساسيّتين: "موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر"، و"أنطولوجيا الشعر العربي الحديث".

طبعاً، هناك تجربة استثنائيّة لا بد من التوقف عندها ضمن هذه المسيرة الخصبة، وهي مؤلّف ضخم عن الأندلس جاءتها فكرته ذات يوم في طليطلة بعد الاستماع إلى قصيدة لمحمّد إقبال عن قرطبة.

يومها، اقتنعت بضرورة إصدار كتاب شامل عن "حضارة عظيمة وصلت في الأندلس إلى قمّة التمدُّن في العصور الوسطى"، وكانت النتيجةُ عملاً موسوعيّاً يسلّط الضوء على الدور المفصلي للأندلس المسلمة طوال 8 قرون، وعلى إسهاماتها المباشرة في بناء النهضة الأوروبية.

كتاب "الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس" 1992 شاركت فيه مجموعة من المتخصصين في الحضارة الأندلسية من مختلف أنحاء العالم، وصدرت نسخته المعرّبة لاحقاً عن "مركز دراسات الوحدة العربية". وقد كتبت سلمى مقدمتها، مسلّطة الضوء على الدور المفصلي للأندلس المسلمة طوال ثمانية قرون، وإسهاماتها المباشرة في بناء النهضة الأوروبية. 

صدر الكتاب في ذكرى مرور 5 قرون على سقوط الأندلس (1992)، ونُقل بعد 6 سنوات إلى لغة الضاد، بمشاركة فريق من المترجمين، وإشراف مباشر من سلمى خضراء الجيوسي، ليصدُرَ بجزأين في بيروت عن "مركز دراسات الوحدة العربية" بعنوان: "الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس".

ووجّهت سلمى الخضراء الجيوسي إصبع الاتهام إلى "ثقافتنا العربية الراهنة التي ترضى، بصمتها على العدوان الثقافي وعلى الهيمنة الحضارية، أن تظلّ منسية مجهولة مطروحة على هامش التاريخ". 

هذا التجاهُل لم تتردّد الجيوسي في وصفه بـ"الجريمة التاريخية" التي كرست حياتها للتصدّي لها، على أساس أن جذر المشكلة هو "المركزيّة الأوروبية" التي فرضت رؤيتها الأحادية علينا، وأقنعتنا بأنّها مصدر الثقافة العالمية ومحورها.

من وجهة نظر الجيوسي، لم يتبلور مشروع الحداثة انطلاقاً من أرض الواقع. الحداثة لم تأتِ من أسفل إلى أعلى كحاجة اجتماعية ونتيجة لسيرورة اجتماعية وثقافية، بل "كانت نتيجة لتطلعات فنية جمالية فكرية وأسلوبية" لدى الطليعة الثقافية. 

هل هذا يمكن أن يفسّر اليوم، ولو جزئياً، إخفاقات مشروع الحداثة وتعثراته وانحساره؟ ما زال السؤال نفسه مطروحاً بإلحاح في زمن التكفير والانغلاق والخوف والتشنّج: هل الثقافة وهل الشعر تحديداً قادر على تغيير الواقع أو التأثير في حركته؟

المؤكد أن سلمى الخضراء الجيوسي أثرت في وعي أجيال في العالم العربي. بوعيها النسوي، قدمت نموذجاً بارزاً ومتألقاً للمرأة الفلسطينية التي تغلَّبت على آلام الاقتلاع وحروب الطمس والإلغاء، وسعت إلى التأثير في الواقع الاجتماعي والثقافي والحضاري للعالم العربي.

 أنا من جيل يدين لها بالكثير فكرياً ومعرفيّاً وجمالياً. لقد أعطتنا أمثولة مهمّة من خلال تلك الرغبة الدائمة في التجاوز، من دون الانقطاع عن الجذور، من خلال هذا الدفق الحيوي المتواصل لبناء مشروع نقدي معرفي متماسك ومتجذّر قادر على اختراق الحصار أو حروب الإلغاء والتهميش المرتبطة بالمشروع الاستعماري... وفي الآن نفسه مد جسور التواصل مع الغرب.

عن ديوانها الأوّل "العودة من النبع الحالم"، كتب الشهيد غسان كنفاني في مجلّة "الآداب" عام 1960: "يتلخص الديوان في الجملتين اللتين وقعتا في آخر القصة الإسبارطية: الإيمان بضرورة التضحية... والحزن من أجلها... والإنسان الجدير بهاتين الحاستين (...). هو الإنسان الذي فقد أرضه وقدره معاً، والذي جرته المركبة إلى خارجها وصاحت في وجهه: أنت لاجئ! هو الإنسان الذي يدرك تماماً كم هو بحاجة للتضحية الكبيرة، لكنه أيضاً الإنسان الذي تعلم كيف يحزن بعمق وبإنسانية. لذلك، فهو حينما يقدم هذه التضحية، لا يفعل خلال نشوة لحظة حماس سطحية، لحظة حماس تصل إلى الكف لتجعله يصفق، لا إلى القلب لتجعله يحس... بل إنّه يقدم فداءه الكبير، وهو يعرف تماماً أنه سوف يحزن من أجله، وأن أعماقه الإنسانية سوف تبكي بالقدر نفسه الذي ستفرح به للنصر. وهكذا، فإن معنى التضحية يصل إلى مستوى يختلف تماماً عما عرفناه، يصل إلى مستوى الاقتناع الوجداني العميق الجدير بإنسان يحمل عبء قضية الجيل...".

ليس غريباً أن تكون سلمى الخضراء الجيوسي بدأت مسيرتها بالشعر، مع "العودة من النبع الحالم" عام 1960، ثم عادت إلى الشعر في سنواتها الأخيرة بديوان "صَفَوْنا مع الدهر" عام 2021، فالشعر حبّها الأوّل وبوصلتها على امتداد الطريق الطويلة. وقد توجت مسيرتها بجائزة محمود درويش، الذي التحقت به في "بانتيون" الشعر الفلسطيني والعالمي.