سميح القاسم.. ناثراً!

رواية "الصورة الأخيرة في الألبوم" تصوّر الروح الإسرائيلية الشريرة التي جعلت من القوة سبيلاً لإخضاع الفلسطينيين واحتلال أرضهم، واعتقالهم والتحالف مع الغرب من أجل إدامة مفاعيل القوة والتفلّت من القانون الدولي.

  • سميح القاسم.. ناثراً!
    سميح القاسم.. ناثراً!

قلّة هم الذين يعرفون أن شعراء الأرض الفلسطينية المحتلة كتبوا النثر حتى استغرق منهم سنوات من التجربة الأدبية التي خاضوها، ذلك لأنهم لم يكتفوا بالشعر صوتاً أدبياً يعبّر عن مواهبهم من جهة، ويعبّر عن معاناة شعبهم الفلسطيني من جهة أخرى، لقد مضوا إلى حقول الكتابة كلّها من رواية وقصة قصيرة  ومسرحية وأدب أطفال ومقالة كي يكونوا الأقرب إلى الجرح الفلسطيني النازف منذ الإعلان عن وعد بلفور إلى آخر القرارات الهمجية التي طالت الحال الفلسطينية بأذيّاتها الجارحة، أيّ منذ أن اتسعت التراجيديا الفلسطينية، وغدت بلا ضفاف.

 ولعل الأسماء الأبرز من شعراء الأرض الفلسطينية المحتلة المتمثلة براشد حسين، وحنا أبو حنا، ومحمود درويش، وسميح القاسم، وسالم جبران، وتوفيق زيّاد، ومعين بسيسو.. جميعهم كتبوا في أجناس أدبية أخرى غير الشعر، وإن ظلّت شهرتهم مقرونة بالشعر وحده.

من هذه الأسماء الشعرية الفلسطينية الكبيرة سميح القاسم الذي كتب الرواية، والمسرحية، والمقالة، ونشرها في كتب باتت معروفة من خلال صدورها عبر طبعات متتالية داخل الوطن الفلسطيني المحتل وخارجه أيضاً. ولعل روايته (الصورة الأخيرة.. في الألبوم) التي صدرت عن دار ابن رشد في بيروت.. هي الأكثر شهرة في المجال الأدبي الخاص بالنثر الذي كتبه. وهي رواية صغيرة، لكنها محتشدة بالرؤى والمعاني وتفاصيل المكان.. وبالثنائيات التي تؤكّد أنّ الاحتلال الإسرائيلي يشكّل النقيض لكلّ المعاني والقيم التي آمن بها الفلسطينيون وعاشوا من أجلها وهم يدافعون عن أرضهم وتاريخهم ومستقبلهم كشعب أراد له الإسرائيلي والغرب المتوحش أن يفنى مثلما فنوا، وبحرص شديد، شعوب الهنود الحمر في أميركا الشمالية، والكثير من دول أميركا اللاتينية.

هذه الرواية تقوم على شخصيتين رئيسيتين هما شخصية الضابط الإسرائيلي، والنادل الفلسطيني (أمير) الذي يعمل في أحد المطاعم الإسرائيلية من أجل أن يؤمّن المصاريف التي تتطلّبها دراسته الجامعية. وتبدأ شرارات هذه الثنائيات ما بين الضابط الإسرائيلي المغرور المتعجرف، بذيء اللسان، حاد النظرات..، والنادل الفلسطيني (أمير) طالب الجامعة عندما يندلق شيء من المرق على ثياب الضابط الإسرائيلي، فيهبّ مثل عاصفة غبار هوجاء بوجه النادل، ويلعنه، ويحاول ضربه، ويقول له جملة مسيئة جداً هي: إنكم لا تحسنون فعل شيء! والمقصود بهذه الجملة أبناء الشعب الفلسطيني، وهنا ينسحب (أمير) الطالب الفلسطيني الجامعي (النادل) من أمام الضابط وهو يعتذر لأن الأمر لم يكن بإرادته، فقد هوى إناء المرق من يده فجأة وبلل ثياب الضابط، كما اعتذر من أفراد أسرته (زوجته وابنته الشابة). منذ هذه الشرارة، تتوسّع دائرة الثنائية ما بين الضابط الإسرائيلي والنادل حين تعود ابنته الشابة (روتي) وحيدة إلى المطعم لتعتذر منه، وقد مال قلبها إليه بعد أن عرفت أنه طالب جامعي. 

لهذا فإن المعرفة الحقيقية بشخصية الضابط الإسرائيلي تتجلى من خلال ما تكشفه ابنته عن معطياته وصفاته،  فتحدّثه عن كلّ ما اقترفته يدا والدها من جرائم بحقّ الفلسطينيين، وتؤكد هذا الأمر حين توثّق جرائم والدها بالصور، والتواريخ، وتري الشاب الفلسطيني ألبومها الذي يشمل الصور وقصصها وتواريخها وأمكنتها. ويلفت انتباه (أمير) أن مكاناً فارغاً لصورة لم توضع فيه بعد، فيسأل (روتي) ابنة الضابط عنه، فتقول له هذا المكان الفارغ أبقيته لصورتي لأنني على يقين بأن والدي سيقتلني أيضاً بسبب مواقفي المؤيدة لحقوق الفلسطينيين لأن نزعته المتوحشة لن تتورّع عن قتلي. وقد أوصيت أمّي أن تضع صورتي بعد مقتلي على يد والدي، في هذا المكان الفارغ.

الرواية تتحدّث بلسان (روتي) ابنة الضابط الإسرائيلي، عن الجرائم التي اقترفها أبوها بحقّ الفلسطينيين، وفي جهات مكانية متعددة من الأرض الفلسطينية، وفي جبهات متاخمة للحدود مع الأراضي العربية: السورية والأردنية واللبنانية والمصرية، وهي تؤرّخ بتلك الجرائم والأحداث للحروب الإسرائيلية بكلّ ما فيها من بطش ودموية وعنصرية، وهدفها الاستحواذ على المزيد من الأراضي العربية تحت ذرائع وحجج واهية مستندة إلى وهم (الأمن الإسرائيلي)، مثلما هي مستندة إلى الذراع الغربية القوية الداعمة لها.

رواية (الصورة الأخيرة في الألبوم) رواية في منتهى الغنى، فهي تصوّر الروح الإسرائيلية الشريرة التي جعلت من القوة سبيلاً، وصيغة عيش، لإخضاع الفلسطينيين واحتلال أرضهم، واعتقالهم، وتشريدهم، ونشر ثقافة الإخافة بينهم، والتحالف مع الغرب من أجل إدامة مفاعيل القوة، والتفلّت من القانون الدولي. وأهمية الرواية ليست في حدثها الصغير، أيّ المواجهة ما بين (أمير) الطالب الجامعي الفلسطيني الذي يعمل نادلاً في المطعم، والضابط الإسرائيلي الذي يأتي إلى المطعم بلباسه العسكري كصورة من صور المباهاة والغطرسة، وإنما أهميتها في مقولتها بأنّ ثقافة الإخافة، ومفاعيل القوة ستطال الجميع، ومن هؤلاء ابنة الضابط التي تتوقّع أنّ والدها سيقتلها أيضاً لأنها تخالفه في الرؤية تجاه الصراع العربي الصهيوني.

سميح القاسم، ومن خلال معرفته الدقيقة بتفاصيل الحياة داخل المجتمع الإسرائيلي يقدّم لنا في هذه الرواية أنموذج الضابط الإسرائيلي العنصري والقاتل الذي لا يتورّع عن اقتراف كلّ عمل مشين وهمجي من أجل أن يبقى الاحتلال الإسرائيلي ويدوم فوق الأرض الفلسطينية، وليقول لنا إن بقاء الاحتلال الإسرائيلي مرهون بامتلاك القوة، وتمتين العلاقة مع الغرب ليظلّ سنداً له، وإنّ الوجه التعبيري الأول للقوة الإسرائيلية يتمثّل بقتل الفلسطينيين وتشريدهم وتضييق الحياة عليهم واعتقالهم وجعلهم تحت نير الإخافة والقلق وعدم الإيمان بالمستقبل، وإن حياة الفلسطينيين هي خارج الوطن الفلسطيني، وأن لا حياة لهم بوجود الإسرائيليين. 

فالضابط الإسرائيلي في رواية (الصورة الأخيرة في الألبوم) يمثّل القناعات الإسرائيلية المطلقة بعدائيتها وعنصريتها تجاه الفلسطينيين، كم يمثّل القوة تجاه الفلسطينيين من أجل الخلاص منهم قتلاً أو تشريداً أو اعتقالاً، وطيّ قضيتهم ودفنها مثلما طويت قضية الهنود الحمر في القارة الأميركية.

 الشاعر سميح القاسم، كتب لنا رواية صغيرة بصفحاتها، لكنها رواية كبيرة برؤيتها القائلة بأن ما من حوار، أيّاً كان شكله، مع العدو الصهيوني لأنه لا يفهم لغة الحوار، ولا يؤمن بالتاريخ، ولا بالجغرافيا، ولا بما جاء في كتب العمران الفلسطيني، ولا بمعطيات العقيدة، هذا العدو يؤمن فقط بالقوة، ولهذا لا سبيل للخلاص من شروره ودمويّته وويلاته إلّا بالمقاومة.

سميح القاسم العاشق للتاريخ والمكان الفلسطينيين يكتب لنا رواية توازي بجمالها جمال قصيده النايف، رواية جديرة بأن تدرّس للطلبة ليقفوا على رؤيتها وأسرار الشخصية الإسرائيلية المشبعة بالعنصرية. سميح القاسم يكتب لنا رواية بأسلوب ماتع، وسلس، وعبر رؤية للواقع المعيش داخل الوطن الفلسطيني المحتل، وهو يستخدم المجاز وما فيه من تحليق إبداعي ليجعل  من النثر قصائد وأناشيد، لتكشف لنا الرواية، وعبر أنساقها الدالة، عن المستبطن الإسرائيلي المترسّب في أعماق الشخصية الإسرائيلية الذي تنضح كراهية وتوحشاً ودموية تجاه أبناء الشعب العربي الفلسطيني، كما تكشف لنا عن التصوّر النهائي لأبعاد هذه الشخصية الإسرائيلية التي لا تؤمن إلا بالقوة للخلاص من الفلسطينيين، وبهما ومن خلالهما، يصير البقاء الإسرائيلي ممكناً، ومن دونهما، سيستعيد الفلسطينيون حقوقهم كاملة، بعد أن سرقها الإسرائيليون وحرسوها بالقوة الباطشة، ولأن القوة لا تدوم، تقول الرواية إنّ فجر الفلسطينيين قادم مهما طالت ظلامية الاحتلال!

حسن حميد