شلبي في أمسية موسيقية.. الأندلس في "قصر العظم"

"الأندلس" في "قصر العظم" في دمشق. سليمان شلبي يمزج الشرقي بالإسباني في قالب موسيقي يجمع المناخات والأرواح والأفكار والرؤى.

  • شلبي في أمسية موسيقية.. الأندلس في

أن تكون في "قصر العظم" الواقع في قلب "سوق البزورية" الدمشقي بنكهاته الفريدة، وتحضر أمسية لموسيقى الفلامنكو بعنوان "الأندلس"، هذا بحد ذاته فكرة فريدة، فيها مزيج خاص من المناخات والأرواح والأفكار والرؤى. زاد من زخم ذلك ما فعله عازف الغيتار سليمان شلبي باستخلاصه روح الفلامنكو الإسباني بقوالبه العديدة، وإدغامه مع الألحان العربية ضمن توليفة يُطلق عليها تسمية أورينتال فلامنكو، أو فلامنكو شرقي، مستعيداً بذلك الأثر الكبير الذي تركته موسيقى المشرق العربي على نظيرتها في إسبانيا، منذ هجرة زرياب إليها وإسهاماته الكبيرة في تطوير التدوين الموسيقي والتجديد على الآلات ثم إنشاؤه أول أكاديمية للموسيقى في العالم.

وعلى مسرح "قصر العظم" بخلفيته البديعة في معماريتها وزخرفاتها ونوافذها وجدارها الأبلق بدأت أولى المعزوفات بنكهة "ملح". المقطوعة التي استوحاها شلبي من قالب غرانايينا، ليقدم فيها مع درامز محمد عمران وبيركشن محمود كنفاني تقاسيماً شرقية على إيقاع الشفتاتلي، افتتحت بهدوء وعذوبة، ثم ما لبثت أن تصاعدت إلى ذروتها الدرامية، مُحيلةً إيانا إلى أجواء من الموسيقى التي كانت تعزف في قصور غرناطة، لتستمر الحوارية بين الآلات الإيقاعية والغيتار مع تسريع في التيمبو وتبديل في المزاج، ضمن مقطوعة على قالب بوليرياس المعروف بنبضاته الاثنتي عشر، وحيويته المتجددة ومتوالياته المتوالدة من بعضها والمغزولة بأصابع شلبي وتقنيته المميزة بالعزف.

عازف الناي عمار علي أعلن بدخوله الزاخر بداية من روح مختلفة لمقطوعة إسبانية شهيرة، انجدلت فيها أفراح القصب –على خلاف المتعارف عليه- مع ضربات الغيتار، في توليفية جمالية بين نمطين من الأصوات، زاد من اندغامهما أغنية إسبانية بصوت المطربة مانو شلبي افتتحتها على طريقة المواويل لكن بلغة أجنبية. إذ فيها من البوح الكثير، وكأنها تحكي عن لواعج الحب، وبتنويعات في الطبقات بين القرار والجواب، وامتدادات صوتية يُكمِلها الناي ويعزز من أثرها زخرفات الغيتار ونبض الإيقاع، وعلى نفس المقام بدأت شلبي أغنية "خطّار عنا الفرح أعلق صواني شموعلإلهام المدفعي، كترداد للشجن بين شبه الجزيرة الإيبيرية وأصوله العراقية.

وفي افتتاحية معزوفة "ها الأسمر اللون" أعادتنا عازفة الكمان ديمة خير بك عبر تقسيمة مميزة إلى مقام الحجاز الشرقي، بغزارة شعوره وامتلائه بالأسى والشفقة، وعززت حوارية ناي عمر علي مع الكمنجة من تعبيرية المقام، بحيث أن أداء العازفين جعل من النغمات تغني "تعبان يا قلب خيو.. هواك رماني"، وكل ذلك كان على قالب التانغوس الإسباني.

وباللوعة ذاتها تابعت المطربة مانو موال السيدة فيروز "لو كان قلبي معي ما اخترت غيركم"، ثم أغنية "يا ليل الصب متى غده" من كلمات الحصري القيرواني تلتها وصلة من التراث الحلبي بدأتها بــ "قدك المياس يا عمري... جلَّ من سوّاك يا قمري"، وفي ذاك الوقت كان قمر دمشق يعلو مسرح "قصر العظم" مُشكِّلاً مع أشجار النارنج لوحة فنية من نوع آخر، لتختتم الوصلة الحلبية بأغنية "فوق إلنا خل"، و"كنا ستة على النبعة"، و"حالي حالي حال".

كما تضمن الحفل ما يشبه الترنيمة الإسبانية أدتها المطربة شبلي بتقنية الفوكاليز من دون كلمات، لتدمجها مع مقطع "وصفولي الصبر" من أغنية "دارت الأيام" لأم كلثوم وألحان محمد عبد الوهاب على مقام الكرد، الذي لا يحتوي ربع العلامة الموسيقية مما يجعله متاحاً في الموسيقى الغربية، ومنها الإسبانية، ولتتواصل الكلثوميات مع أغنية ألف ليلة وليلة التي كتبها الشاعر مرسي جميل عزيز ولحنها بليغ حمدي على مقام النهاوند، مؤكداً على تطريبيته العالية وقدراته الهائلة في بث للشجن، وهنا بات عزف الشبلي على الغيتار وكأنه يُفرِّد على العود، كما أجادت ديمة على الكمان وعمر على الناي في تعزيز هوية المقام على إيقاعات عمران وكنفاني، ليُغلَّف كل ذلك بصوت شبلي ذو المساحات الكبيرة وقدرته التعبيرية المميزة.

ولا تكتمل أمسية موسيقية بعنوان الأندلس من دون الفواصل، وفعلاً ما إن اختتمت "هو العمر إيه غير ليلة زي الليلة" حتى بدأ فاصل "اسقِ العطاش" ومن كلماته لمحمد المنجبي الحلبي "مولاي أجفاني جفاهنّ الكرى.. والشوق لاعِجُهُ بقلبي خيَّمَا"، الذي غناه لطفي بوشناق ومن قبله صباح فخري وهو على مقام حجاز، لتبدأ الآلات رحلتها الصوفية وفق حواريات وجدليات جميلة وصولويات تبرز روح كل عازف وتمكُّنه من الأداء.

ورافقت العديد من المقطوعات راقصة التانغو لجين ملاك، مُكمِلَةً الأجواء الأندلسية الزاخرة بكل الجمال.

في حديث خاص بـــ "الميادين الثقافية" أوضح سليمان شلبي أنه استطاع من خلال هذه الأمسية أن يقدم تراثنا الغنائي العربي والسوري على قوالب الفلامنكو الإسبانية، قائلاً: "الإسبان أخذوا من الموسيقى الشرقية وقولبوها بطريقتهم الخاصة، ونحن قادرون على تقديم الأغاني العربية بطريقة معاصرة، وفي الوقت ذاته ممنهجة، يستطيع أي أحد غربي أو إسباني بالتحديد تقبلها، ومعرفة ما صيغ بداخلها، وأيضاً يقدر راقص فلامنكو أن يرقص عليها، وأي عازف فلامنكو أو إيقاع أن تكون تلك الموسيقى قريبة منه".

أما بالنسبة للتوزيع فبيَّن شلبي أنه وزع المقطوعات والأغنيات جميعها، مراعياً التناغم بين الآلات الإيقاعية والغيتار والغيتار بيس، وأيضاً مع الناي والكمان "اللذين اعتمدت عليهما كآلتي سحب، إذ إن صوتهما ممتد أكثر من الغيتار، لذلك فإنهما يدعما المشروع بهذه الروح، فمع أن الكمان يرافق دائماً الغيتار في الموسيقى الغربية، أما الناي فاخترته لأنه يكسر كثيراً الجو الغربي، خاصةً أنه كثيراً ما نجد الفلوت ضمن فرق الفلامنكو، أما هنا فاستعضت عنه بآلة الناي الأقرب إلينا، خاصةً أن ما نريد قوله هو فلامنكو ذو طابع شرقي".