صوت الذين لا صوت لهم

رحل طلال سلمان وبقي حتى الرمق الأخير قابضاً على أحلامٍ ما نزال نلهث وراءها وتركض أمامنا في بلاد تضيق كثيراً بأحلام بنيها، وقد يكون حلماً ديناصورياً أن نتمنى بقاء الصحافة الورقية على قيد الحياة والنشر في زمن التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي.

رحيل طلال سلمان يستدعي إلى الذاكرة عمراً كاملاً برفقة "سفيره". الصحيفة التي كانت بمنزلة خبزنا اليومي مذ كنا فتياناً يافعين نبحث عن كوى الضوء في زمنٍ كثُرَ فيه الظلم والظلام. علق حبرها بأطراف أناملنا الطرية، تغلغلت رائحة ورقها في ثنايا ذاكرتنا، حفظنا غيباً أسماء كتّابها ومحرريها. ويوم حلّ ناجي العلي ضيفاً استثنائياً على صفحاتها صار حنظلة أيقونة نحتمي بها من صقيع التخاذل والنسيان، وظلت فلسطين بوصلة الجريدة التي رفعت شعار صوت الذين لا صوت لهم، وغدت رفيقتنا في السراء والضراء، نقرأها في الملاجئ والمتاريس، في المقاهي والأرصفة، وأحياناً على ضوء الشموع في وطن لم تكتمل "إضاءته" حتى الآن!

هل نجحت "السفير" في التماهي مع شعارها، وهل كانت حقاً ودائماً صوتاً للمظلومين والمستضعفين والفقراء، لعلها فعلت في أغلب الأوقات، والأهم أنها في المحطات المصيرية واللحظات المفصلية، لم تفقد بوصلتها حتى حين اضطرت إلى كتابة كلمتها بالدم لا بالحبر. فما تعرضت له الصحيفة اللبنانية الناشئة في زمن الحروب اللبنانية، لم يكن هيناً ولا قليلاً ولعل بعض المخاطر تنوء بحمله الجبال فما بالك بالأقلام، ومع ذلك ظلَّ طلال سلمان "على الطريق"، لم يتعب ولم يسأم ولم تنل منه رصاصات الغدر، ولا علامات الشيب التي تسللت إلى الرأس والصدغين. شاب الرجل ولم تشب أحلامه وظلّ قلمه أكثر فصاحةً من لسانه، شجاعته متشحة بغلالة من خفر وصوت خفيض، وها هو يمضي في رحلته الأخيرة بعد أن تجاوز الثمانين حولاً ونصفاً، ولم يسأم يوماً ولا ضجِر، لكن الجسد خوّان، والمرض خصم لا يرحم. كأن إقفال جريدة "السفير" كان بداية النهاية لرجل أمضى سحابة العمر بين الحبر والورق، مرةً كان قلمه سيفاً بتّاراً ومرات نسمة عليلة، وهو الذي كتب بقلم نسمة الذي لا يعرف غير الحب. فعلاً نسج صاحب نسمة أجمل الصداقات الممهورة بنبض القلب مع زملاء المهنة سواء أولئك الذين وافقوه الرأي والالتزام أو الذين اختلفوا معه.

قبل أن تطوي "السفير" صفحتها الأخيرة، وقبل أن يسدل طلال سلمان أهدابه إلى الأبد، دارت الأيام، تغيرت الأحوال، انفخت الدف وتفرق عشّاق كثيرون وظلت "السفير" على عهد قرائها بها، ارتبكت أحياناً، شردت قليلاً، تعثرت، كبَت، لكنها كانت دائماً تعرف كيف تنهض من كبوتها لتواصل أحلامها المشروعة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ولتظل نصيرة الفقراء والمظلومين، رغم تعالي أصوات من هنا وهناك معتبرةً الانحياز إلى الفئات المسحوقة "دقةً" قديمة مبشرةً بنيوليبرالية متوحشة تأكل الأخضر واليابس.

لم يكن طلال سلمان مجرد صحافي أو ناشر، ولم تكن "السفير" مجرد صحيفة، كان معلّماً وكانت مدرسة خرّجت أجيالاً من كتّاب وصحافيين توزعوا شرقاً وغرباً، يميناً ويساراً بحثاً عن أحلام أخرى أو مستجدة، إذ نادراً ما نجد صحيفة عربية لم تستقبل واحداً أو أكثر من "السفير" حتى صار صحافيوها سفراء فعليين للصحافة اللبنانية في الصحافة العربية، ومع تقاعد أجيال أو ذهابها كلٌّ إلى حلمه أو موقعه الجديد والمختلف، كانت "السفير" تعرف كيف تستقطب أجيالاً جديدة من الشباب سرعان ما يصيرون نجوماً على صفحاتها قبل أن ينبت ريشهم ويطيروا إلى فضاءات جديدة.

أدار طلال سلمان الآتي من تجارب صحفية مختلفة، والمتنقّل مع والده الدركي في مختلف المناطق اللبنانية، والمدرك بعمق لطبيعة التركيبة اللبنانية، والمنتمي إلى جيل تكسّرت أحلامه الوحدوية على صخور التفرقة والفتن، أدار صحيفته بذكاء ربّان ماهر. فالجريدة التي شاء حظها أن تنطلق عشية الرصاصات الأولى للحروب اللبنانية المتناسلة، عرفت كيف تبتكر معادلة الحفاظ على مهنيتها، وفي الوقت نفسه الانحياز إلى ما تؤمن به من قضايا وفي مقدمتها قضية فلسطين المحتلة وحق شعبها المشروع في التحرير والعودة، وحق اللبنانيين في مقاومة المحتل الإسرائيلي وعدوانيته الدائمة، مثلما عرفت كيف تلتزم خطها ونهجها من دون أن تقصي الآخرين أو تلغيهم أو تعزلهم، وظلت حتى عددها الأخير تفسح صفحاتها لكتابات وكتّاب يقفون على طرفي نقيض، ويختلفون مع ناشرها ورئيس تحريرها.

صعبة الكتابة عن طلال سلمان بصيغة فعل الماضي الناقص. الرجل رافق عمرنا بكامله. كانت كتاباته في الأزمنة الصعبة مصابيح تضيء الطريق، وكانت "طريقه" وطريقته في افتتاحية "السفير" بوصلة، وهو الذي يمكن وصفه بالأديب بين الصحافيين، والصحافي بين الأدباء. لهذا، لم تكن سفير طلال سلمان مجرد جريدة بل منبراً لعب دوراً ريادياً في الحياة الثقافية لبنانياً وعربياً، ويكفيه ويكفيها احتضانها لعشرات المثقفين اللبنانيين والعرب الذين عبروا مكاتبها أو صفحاتها، ومعظمهم كان هارباً من عسف احتلال باطل أو ظلم حاكم جائر فوجدوا فيها ضالتهم وصوتهم الذي ظل أقوى من أصوات الجلادين وأسواطهم.

رحل طلال سلمان وبقي حتى الرمق الأخير قابضاً على أحلامٍ ما نزال نلهث وراءها وتركض أمامنا في بلاد تضيق كثيراً بأحلام بنيها، وقد يكون حلماً ديناصورياً أن نتمنى بقاء الصحافة الورقية على قيد الحياة والنشر في زمن التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي. ففي رحيل طلال سلمان نفتقد آخر الكبار الذين طبعوا الصحافة الورقية ببصمتهم الخاصة. وإذ نودّعه نودِّع زمناً كان الموقف فيه سلاحاً والكلمة أقوى من الرصاصة، وكان من حظي أنني عرفتُ هؤلاء الكبار وفي طليعتهم صاحب "السفير" الذي حاورته مراراً أمام الكاميرا وخلفها، ودائماً كان لديه ما يثري الشاشة ويغري بالإصغاء إليه. وكم كان طلال سلمان يتذكّر ويستعيد بكثير من الحب والحنين إطلالته في أولى حلقات برنامج "خليك بالبيت" إلى جانب صديقيه الكبيرين اللذين سبقاه إلى الحياة الآخرة: عبد الرحمن منيف وسعد الله ونوس. ومعاً استقبلنا محمود درويش عشية أمسيته الشهيرة في ملعب المدينة الرياضية، وتجاذبنا أطراف الحديث مع عزة بلبع قبالة صخرة الروشة، وسهرنا حتى مطلع الفجر والحبر في ليل بيروت المضاء بأحلامنا التي لا تنطفئ.

شيباً نودِّع طلال سلمان الذي عرفناه فتياناً، نذرف دمعاً وحبرَ رثاء، ونردد لا بأس أن تشيب رؤوسنا، فالمهم ألّا تشيب أحلامنا، ولن تفعل أبداً.