"صيف، مدينة، وكاميرا" و"الخروج إلى الداخل".. فيلمان يرصدان غرائبية دمشق وجنونَها

سينوغرافيا العاصمة تتواتر في الشريطين ضمن محاولة لرصد روحها والتوغل في ملامحها، بغية اقتناص سرها أو التقاط أنفاسها من زاوية معينة.

  • لقطة من فيلم
    لقطة من فيلم "صيف، مدينة، وكاميرا"

يشترك الفيلمان القصيران "صيف، مدينة، وكاميرا" للمخرج أنس زواهري و"الخروج إلى الداخل" للمخرجة لوتس مسعود، باتخاذهما من دمشق بؤرة تركيز يدور حولها الزمن السينمائي، وتتشابك فيها الصور والمصائر، بحيث أن سينوغرافيا العاصمة تتواتر في الشريطين ضمن محاولة لرصد روحها والتوغل في ملامحها، بغية اقتناص سرها أو التقاط أنفاسها من زاوية معينة.

ويختلف الفيلمان، اللذين عُرِضا ضمن تظاهرة "بيت السينما" بكندي دمشق، في الأسلوبية التي اتبعها كل من المخرجين في تلمُّسهما تلك الملامح، وأيضاً في المناخات الدرامية التي استدعياها لتكون انعكاساً للمدينة، ليس بصفاتها المكانية فحسب، وإنما كمزاج عام يعطي لدمشق خصوصيتها، ويطبعها بطابع سينمائي له دلالاته وفق رؤية كل مخرج.

أنس زواهري في "صيف، مدينة، وكاميرا"، لم يرصد بدقة ملامح دمشق كما يراها مجموعة من المخرجين الشباب في أولى تجاربهم السينمائية، حسبما جاء في بطاقة تعريف الفيلم، بل استفاد من موافقات التصوير التي حظي بها أولئك المخرجين ليلتقط معنى المدينة في الأماكن التي اختاروها هم لأفلامهم، لذا كان يثبت كاميرته ويتركها لترصد الزمن بأشخاصه ومفارقاته من دون أي تدخل صريح منه.

لقطات تسجيلية ثابتة أشبه بتقليب ألبوم لصور ومشاهد متتالية، قد تبدو في بعض الأحيان غير متناسقة، أو من دون سياق واضح، لكن مشهد بعد مشهد تتضح الرغبة بتحييد الوعي الذاتي لصالح وعي الموضوع، كي يظهر بعضُ دمشق كما هو من دون ماكياج، من جرمانا إلى جسر الرئيس والمهاجرين وسوق الحرامية وكراجات البولمات... بحيث أن الصورة هي من تتكلم، بلا سيناريو مُسبَق ولا حوارات مكتوبة ولا أي تحضير، فالصدفة وحدها هي من صَنَع الفيلم.

طفلان يطلان من نافذة منزلهما ويُشكِّلان أصابعهما على هيئة مسدسات يطلقونها على الكاميرا، عُمَّال ينقلون العفش إلى مستقره الجديد، حدَّادان في منطقة المناخلية يقطعون الحديد ويلحمونه في هيئات جديدة،... وكأن مخرج "صيف، مدينة، وكاميرا" يقوم بالفعل ذاته، يُقطِّع مشاهده ويلصقها بمونتاج حاذق، جامعاً تشابكات خطوط التوتر العالي مع مصافحات في مقهى مبنى العابد ضمن ساحة المرجة، وفي مرة أخرى يضع ما تصوِّره كاميرات المخرجين الشباب وما لا تصوِّره في مشهد واحد، في محاولة لزيادة بلاغة الصورة وتضمينها مُحسِّنات أكثر.

ولزيادة في الأثر، كانت خيارات الصوت بارعة في التقاط عواطف المشاهدين، فمرة نستمع إلى دراما جميل وهناء، وفي أخرى يعيدنا ظواهري إلى شارة إحدى برامج الأطفال زمن التسعينيات، ليتابع مع أم كلثوم، ضمن توليفة أذكت المونتاج البصري وحققت أبعاداً انفعالية أصابت هدفها.

في هذا الفيلم عودة لما قام به الأخوين لوميير في أولى أفلامهما بأن وضعا الكاميرا على بوابة أحد المصانع وتركاها لتلتقط الحياة هناك. هذا ما سعى إليه زواهري في فيلمه الذي أنتجته "ستوريز فيلم" ومع عشوائية أماكن التصوير، استطاع أن يرصد عشوائية العاصمة وغرائبيتها.

أما الفيلم الروائي القصير "الخروج إلى الداخل" (إنتاج المؤسسة العامة للسينما)، فنَحَتْ فيه مخرجته لوتس مسعود باتجاه تصوير جنون المدينة وعبثيتها، من خلال قصة كتبتها عن شاب (يزن خليل) خرج من المصحّ النفسي للتوّ، ليتفاجأ بكمّ الغرابة التي أصابت دمشق وأخلاقيات سكانها، رغم أننا لم نعرف المدة التي قضاها في مشفى الأمراض العصبية وما هي طبيعة مرضه بالضبط التي جعلته يستغرب من أفعال ليست حديثة العهد على المدينة وسكانها.

فما إن يقف في الشارع قبالة المصحّ حتى يسرق أحدهم حقيبته الحمراء الكبيرة ويهرب، ولا تتوقف الملاحقة حتى تكاد سيارة أجرة تصدمه، يستقلها الشاب العائد للتو لما يُفترَض أنها حياة طبيعية، فيتفاجأ بإيقاف السير كله بسبب مرور سيارة أحد المسؤولين، مع أن هذا الشيء يحدث باستمرار منذ ما يزيد عن عمر الشخصية ذاتها.

يصل إلى منزله ليكتشف أنه تم تغيير القفل وأن عائلته في نزهة إلى بلودان، فيضطر لتناول سندويشة في الشارع، وبسبب نظرات عامل النظافة يترك له ما تبقى منها ويغادر إلى قبالة محل محبوبته، هناك يشاهد شجاراً بين مجموعة شباب يضربون شاباً، يتدخل مدافعاً عن ذاك الشاب، ليعرف فيما بعد أنه كان يُعاكس أخت أحد الشباب فلقي نصيبه. يجلس على مقعد أحد المواقف فتقترب منه فتاة هوى وتغويه فيتبعها، ليظهر شخص ستيني (تيسير إدريس) وهو يردد بصوتٍ جهوري مقطعاً لمحمد الماغوط من كتاب "سأخون وطني".

بعد أن ينهار الشاب، نراه يتناول طعامه في منزله برفقة أمه وأخته، وما هي إلا دقائق حتى يدخل شاب "أمير برازي" سبق أن شاهد صوره على لوحات إعلانية مكتوب عليها "لنبنِ الغد معاً"، نكتشف أنه صديقه القديم الذي بات غريمه بعدما سرق مشاريعه الهندسية، وأقنع الآخرين بجنونه بمن فيهم حبيبته، والأنكى أنه بات زوج أخته، ليكون هذا اللقاء بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير، فيقرر الشاب الانتحار، صاعداً الأدراج إلى سطح البناية، وعندما ينظر إلى الشارع يرى حشداً من البشر بثياب المصح العقلي وكلهم يضعون بجانبهم حقائبهم الحمراء التي تشبه تماماً حقيبته، لتكون الخاتمة في بهو المشفى وفتاة الهوى السباق بلباس رقص شرقي أحمر ترقص ألم دمشق بطريقة رمزية.

قصة بسيطة لم تؤسس بشكل صحيح لاستغرابات ذاك الشاب، ولا لمحاكمة المدينة وانقلاباتها الأخلاقية، رغم جمالية الحكاية التي تُماثل الحكاية الشهيرة لرجل طلبوا منه أن يُثبِّت لافتة مشفى المجانين، فجعلها لجهة الداخل، وبات الخارج من المَصحّ يعرف أنه يخرج إلى مصحّ أكبر.

كوادر مميزة حققتها مسعود، وإدارة جيدة للممثلين، ومونتاج متقن لوائل طه، لكن كل ذلك لم يكن كافياً لجعل الشريط يتجاوز بطاقته التعريفية التي كثَّفت المغزى، على عكس تفاصيل الحكاية والمواقف التي عاشتها الشخصية الرئيسية، إذ إنها خلت من الإقناع وبالإمكان استبدالها ببساطة بعشرات المواقف التي تُشكِّل صدمة حقيقية وربما تكون بمثابة صفعة على وجه مدينة باتت بكل ما فيها بحاجة إلى مصح عقلي.