ضد القطيع.. كيف وصل فلاسفة وأدباء وفنانون إلى حد الجنون؟

أطلق اليونانيون على المصاب بالجنون اسم "مريض الروح".. لماذا وصل بعض الفلاسفة والأدباء والفنانين إلى حد الجنون؟

قد يكون الجنون كمعنى يدور حول ما انزاح عن الفكر السائد والسلوك المعتاد وما فارق الانسجام الطبيعي للأمور ويتدرج بين ما هو متواتر؛ أو متقطع؛ أو مطبق. إذ ثمة مشاهدات توصم بالجنون مثل الهذيانات، الهلوسات، اختلال الشعور بالذات وتفكك الشعور بالواقع، الأفكار المتطايرة، والكلام المضطرب في شكل ومحتوى اللغـة، الحالات الوجدانية المتقلبة وغير ذلك من المفاهيم. وهو إلى ذلك يشير إلى مروحة واسعة من الأزمات النفسية والعقلية التي يعاني منها الفرد. 

فقد أطلق اليونان على المصاب "مريض الروح"، وربما كانت تفسيرات المرض العقلي صورة للخلاف بين تياري المادية والمثالية. إذ أرجع الأخير أسبابه إلى غضب الآلهة نتيجة لعصيان الفرد وتمرده، وبناء عليه تم ازدراء المصابين وقتلهم أحياناً، على الرغم أن الجنون المطبق بشكله النهائي تم التعاطف معه واعتبار المصاب به شخصًا مبروكاً، فالمشكلة إذا كانت مع الحالة الملتبسة بين الجنون والعقل. الحالة التي سمحت لنفسها بهامش حرية خارج المسموح والمتاح. 

لقد أولت التيارات الأخرى عنايتها بالبعدين الاجتماعي والفكري في الحالات الإبداعية التي تقف وراء الجنون كمسمى خارجي لحالات المغايرة وعدم التوافق مع المحيط القطيعي، وإلى حالات التداخل بين الإلهام الأدبي والتهويم في عوالم الفانتازيا وما يتطلبه ذلك من تعميق في تبصر البنى النفسية المولدة للانجاز الغرائبي ذو السمة الإبداعية، والتي ذكرها شاكر عبد الحميد في العلاقة بين الإبداع الفني والمرض العقلي، وهناك الكثير من الأدباء من اعتبر الإبداع الأدبي قرين الجنون كمحاولة لاكتشاف أعماق النفس البشرية وما يمور فيها من صراع وقلق واضطراب في تفسير حالة الاغتراب عن المجتمع والتهويمات الذهانية في التعالي على الواقع والسلوك الغريب والشاذ لتحرير الفعالية الإبداعية الكامنة والجرأة النادرة في التكلم بالمحظورات لأن المجنون يفصح بالحقيقة دون خوف ودون مسؤولية. 

ومن الجدير بالذكر أن الكثير من الفلاسفة كانوا من زوار عيادات الأطباء النفسيين ومنهم نيتشه؛ وكيركيغارد؛ وجان جاك روسو، ومن الأدباء والفنانين دوستويفسكي؛ وجي دو موباسان؛ وكافكا؛ وفرجينيا وولف؛ وفان غوخ، في تجاور مبطن بين العبقرية والمرض النفسي. 

وفي بعض الأحيان كان ادعاء الجنون وسيلة للخوض في قضايا حساسة مثل السياسة والدين والجنس، مما يبعد عن الأديب أو الفنان مواجهة الأعراف والقوانين السائدة والسماح لأفكاره بمحاولة الخروج من سجن العقل الجامد. 

وفي المتخيل الشعبي التبس المعنى بين المجنون والولي الصالح الذي ينطق بالحكمة الصافية كموجز لقيمة أخلاقية ما تنوعت بين السخرية من شخصيات متنفذة أو هجاء لها، وبين نقد لظاهرة ما قد لا يجرؤ العقلاء على تناولها، لذا كان الجنون صفة مضمرة لحضور العقل ومرادفاً للحرية العقلية في محيط الكوابح والموانع. 

 الجنون عند نيتشه وفوكو وآخرين

قد يكون ما قاد نيتشه إلى "الجنون" حالة من عدم التكيف مع المحيط. ذلك أن تجربته الطويلة في اقتحام المناطق المحرمة بالتفكير، ومدى احتماله الحقيقة التي يصل إليها في نقده لثقافة المستضعفين في الدين والأخلاق، وذلك التناقض الذي عاشه بين فلسفته في إرادة القوة وضعف حالته البدنية الصحية (الشقيقة التي رافقته منذ شبابه) وفشله مع المرأة التي أحبها (لو سالومي)، شكلت ضغطاً نفسياً كبيراً عليه. لكن، مع ذلك، بقيت لنا فلسفته التي تناقلتها الشعوب جيلاً إثر جيل. أما رؤية ميشال فوكو للجنون فقد تجلت في كتابه: "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، حيث درسه كنمط من الفكر المستقل ونوع خاص من المعرفة لها غموضها وباطنيتها ورمزيتها. 

يقول فوكو: "لقد أصبح الجنون والمجنون شخصيتان عظيمتان بفعل غموضهما: تهديد وسخرية، سخرية لاذعة من العالم ومن تفاهة الرجال وضعفهم"، وعمق فلسفته وجهه للآليات الجامدة التي تُناقش بها الأفكار والسلوكيات بهدف بعيد يقود لضبط المجتمع وفق رؤى معينة لأصحاب القرار. 

أما عن "جنون" فان غوخ وأثر ذلك في فنه، فيقول انتونان ارتو إن: "فان غوخ لم يكن مجنوناً، لكن أعماله الفنية هي تجسيد لنيران يونانية، وقنابل ذرية قادرة من زاوية رؤيتها، إلى جانب جميع الأعمال الفنية الأخرى التي كانت سائدة في ذلك الوقت، على أن تضايق بقوة الأعراف البورجوازية الخام للإمبراطورية الفرنسية الثانية"، لأنها خرجت عن الأعراف السائدة للمؤسسات القائمة. 

أما الشاعر الألماني هولدرين، فقد عاش 73 عاماً نصفها في الصحو ونصفها الآخر في ليل الجنون وقد كتب أثناءها مئات الصفحات منها القصائد العظيمة التي عرفها العالم عنه.

الجنون والحب

كان الحب أولى المشاعر الوجدانية التي يفيض بها قلب الفنان أو الأديب لأنه أكثر الناس حساسية ورهافة شعور، وأكثرهم تطرفاً في أفكاره ورؤاه، وقد عرف التاريخ العربي نوعين من العشق: العشق الإلهي وعشق المحبوب. 

ولعل قصة قيس بن الملوح الملقب ب "مجنون ليلى" أشهر من أن تروى لقوة حضورها بالذاكرة الجمعية، وكذلك قصة جميل وبثينة؛ وعروة وعفراء؛ وعنترة وعبلة؛ قصص عشاق طفحت بهم صفحات الأدب والشعر تروي عن حالة الوله بالمحبوب لدرجة ذهاب العقل، ولكن الإبداع الأدبي الذي خلفته أحاسيسهم يشير إلى درجة من السمو الوجداني والعقلي ليس لها نظير، حيث يقول قيس:

أقول لأصحابي وقد طلبوا الصلا

تعالوا اصطلوا أن خفتم القر من صدري      

فإن لهيب النار بين جوانحي

إذا ذُكِرَتْ لَيْلَى أحَرُّ مِنَ الْجَمْرِ   

فَقالوا أَمَجنونٌ فَقُلتُ مُوَسوِسٌ

أَطوفُ بِظَهرِ البيدِ قَفراً إِلى قَفر

الهيام، ذلك الإحساس الغامض، كان وراء المزيد من حالات الإبداع. كما أنه تجلى في حالات الوجد الصوفي أو ما سمي بالعشق الإلهي لدى رابعة العدوية والسهروردي وأبو يزيد البسطامي، الذي نسب إليه الجنون في "شطحاته" الفكرية حيث يقول: "جَنّنني بي فمتُّ، ثم جَنَّني به فعشت، ثم جنَّنني عني وعنه فغبت. ثم أوقعني في درجة الصحو وسألني عن أحوالي فقلت: الجنون بي فناء، والجنون بك بقاء، والجنون عني وعنك ضياء، وأنت في كل الأحوال أولى بنا". 

كذلك تحدث النيسابوري في كتابه "عقلاء المجانين" العنوان الذي جمع بين لفظين متناقضين في وصفه المجانين الذين ينطقون بالحكمة، وهم الأكثر جرأة في قول الحقائق أمام أولي الأمر. فقد كتب عن تداخل العقل بالجنون: "وكما شاب [الخالق] صفات أهل الدنيا بأضدادها، كذلك شاب عقولهم بالجنون، فلا يخلو العاقل فيها بضرب من الجنون". 

إن حضور لغة اللاشعور المتحرر من سلطة العقل نتيجة الضغوط الاجتماعية والنفسية، والعجز عن الفعل الايجابي، يلقي بإنسان العصر إلى حالة من اللاتوازن نتيجة حالة من القلق النفسي تقوده إلى الجنون. 

أما الحالة الإبداعية فهي الملاذ من فقدان حلقة التواصل مع المعنى العميق للمشاكل الوجودية والحياتية والأخطار المحيقة به، وبهذا يصبح الجنون فضاء للحرية خارج القوالب الثابتة الميتة ورتابة العقول المحنطة وصورة الحياة في اخضرارها وحيويتها وروحها النابضة غير المستقرة وقد اختصرها أدونيس بقوله:

كذبوا –لا تزال طريقي طريقي

والجنون الذي قادني 

لا يزال أمير الجنون ....

وأنا سيد الضوء_

لكنني كي ألامس أقصى المسافات

اخلع نفسي حيناً، وأخرج من خطواتي 

وأتوج نفسي ملكًا، باسم ضوئي على الظلمات