عالمٌ بلا أخلاق!
في رحم هذه الكارثة تولد مقاومة يومية: تسامح عفوي بين أفراد مجتمعات ممزقة، تضامن اجتماعي في وجه الكوارث، صحوة أخلاقية لدى شباب يرفضون الفساد والظلم والاستبداد والاحتلال، وهذا ما شاهدناه في معظم العواصم والمدن تضامناً مع فلسطين.
-
غزة (أ ف ب)
لم يعد غريباً أن نرى قادة الدول "العظمى" يتبادلون الابتسامات في قمم سياسية بينما تختفي تحت أقدامهم جثث الأبرياء من فلسطين إلى السودان، من اليمن إلى سوريا، ومن أوكرانيا إلى كل ساحات المعارك والحروب. بل إن هذا المشهد المروّع صار أيقونة عصرنا: انفصالٌ كامل بين السلوك السياسي والضمير الإنساني، حيث تتحوّل الجرائم إلى مجرد إحصائيات، والإبادة إلى "أضرار جانبية"، والتجويع إلى "ضغط سياسي مشروع".
هذا العالم الذي أمسى محكوماً بمنطق القوة الغاشمة، لم يعد يتخفى وراء شعارات برّاقة، بل يمارس وحشيته في وضح النهار، فلا يهتز له جفن ولا يتحرك به ضمير. فكيف انحدرنا إلى هذا الحضيض؟ وهل ثمة أمل في صحوة تعيد للبشرية إنسانيتها المهدورة؟
لم تعد الحروب تخاض بين جيوش نظامية، بل صارت إبادات ممنهجة تمارس ببرودة أعصاب تقشعر لها الأبدان. ما تفعله القوى العظمى اليوم – بدعم حروب بالوكالة وتغذية صراعات إثنية وطائفية – ليس سوى لعبة شطرنج كبرى، يُدفع ثمنها بدماء الأبرياء.
إنها المفارقة الكبرى: ساسة يدّعون حراسة القيم الدولية وهم يدفعون العالم نحو الهاوية بسياساتهم العمياء. هذا التشيؤ للإنسان – الذي حذّر منه الفلاسفة منذ هيرقليطس – بلغ ذروته في عصرنا، حيث صار الإنسان مجرد رقم في معادلة اقتصادية، أو هدفاً في حملة إعلانية، أو رقماً في استطلاع رأي. لقد تحققت نبوءة روسُّو القاسية: "وُلد الإنسان حراً لكنه مُكبّل بالقيود في كل مكان"، إلا أن قيود عصرنا هي قيود نظام متوحش يصادر حقوق البشر الأساسية باسم التقدم.
وانسجاماً مع هذه الصورة القاتمة، تسلل العنف من ساحات الحرب إلى شرايين حياتنا اليومية. فوسائل التواصل التي يفترض أن توحد البشر، تحوّلت إلى ساحات للكراهية والعنصرية والتنمر. لقد بات العنف المادي واللفظي سمة مجتمعية، وكأنما يقلد الناس – بوعي أو بلا وعي – لغة التهديد والوعيد التي يمارسها قادتهم.
هذا الانحدار ليس مصادفة، بل هو ثمرة نظام عالمي فاسد يقوم على تحالف ثلاثي مرعب: دول كبرى تسعى للهيمنة بشعارات زائفة، وشركات عابرة للقوميات تنمّط وعي الإنسان لخدمة آلة الاستهلاك، ومؤسسات دولية تفرض منظومات قيمية مفبركة. لقد أفرغ هذا الثالوث القيم من مضمونها الإنساني، وحوّلها إلى سلعة تباع وتُشترى في سوق المصالح.
كأنّ العولمة – التي وُعدنا بأنها ستحمل قيماً إنسانية مشتركة – قد كشفت عن وجهها القبيح، فبدلاً من أن تجمع البشر، زادت شرخ التفتت بينهم. لقد تحوّل حلم التوحّد إلى كابوس تشرذم، حيث فقد العالم بوصلة أخلاقية واضحة، وصار غارقاً في صراع مرير حول المرجعيات. فهناك من يقدّس العقلانية الغربية بمنظومتها المنفصلة عن الأخلاق، وهناك من يعبد المادية الاستهلاكية التي تحوّل الإنسان إلى آلة شراء، بينما تقدم بعض المرجعيات الدينية حلولاً جامدة لا تلبّي حاجات العصر. في خضم هذه الفوضى القيمية، تطفو على السؤال المصيري: هل نستسلم لهذا السقوط، أم ستولد من رحم المعاناة بذور نهضة جديدة؟
تكمن الإجابة في صحوة الفكر النقدي الذي يرفض الانسياق وراء الخطابات المهيمنة، ويعيد تقييم المفاهيم من جذورها. فهناك عودة إلى فلسفات الاعتراف والإنصاف التي تؤكد أن المجتمع العادل هو الذي يحمي أفراده من الاحتقار ويمكنهم من تحقيق ذواتهم. وفي تاريخنا إضاءات مشرقة، مثل استقلالية العلماء في الحضارة الإسلامية الذين تحاشوا الارتباط بالسلطة، فأنتجوا نهضة علمية وأخلاقية ما زلنا نستمد منها العبر. هذه النماذج تشير إلى أن خلاصنا قد يأتي من تحالف جديد بين مثقفين أحرار يرفضون بيع ضمائرهم، وحركات شعبية تعيد تعريف السياسة، ومؤسسات دينية تنحي التطرف وتحتضن الإنسانية المشتركة.
يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي، إدغار موران: "الأمل ليس التنبؤ بالمستقبل، بل هو فعل يجعل المستقبل ممكناً". نعم، إن عالمنا اليوم يبدو غارقاً في ظلام دامس، لكن في رحم هذه الكارثة تولد مقاومة يومية: تسامح عفوي بين أفراد مجتمعات ممزقة، تضامن اجتماعي في وجه الكوارث، صحوة أخلاقية لدى شباب يرفضون الفساد والظلم والاستبداد والاحتلال، وهذا ما شاهدناه في معظم العواصم والمدن تضامناً مع فلسطين.
هذه الشظايا المضيئة تثبت أن الجذوة الإنسانية لم تنطفئ، بل تنتظر من ينفخ عليها لتصير شعلة متّقدة. المعركة محتدمة بين نزعة التدمير الذاتي للبشرية وإرادة الحياة التي ترفض الاستسلام، وليس لنا من خلاص إلا أن ندرك – كما حذر عالم الاجتماع والروائي المغربي، عبد الكبير الخطيبي (1936-2009) – ألا منجى لنا إلا بنقد مزدوج: نقد ذواتنا المتعالية، ونقد الآخر المهيمن. ففي هذا الوعي المركب ربما نجد الباب الضيق الذي يقودنا من ظلمة الأنانية إلى فضاء إنسانية جديدة، تقول لنا: لا خلاص للبشرية إلا بالحرية والعدل والمساواة.