عبد القادري: لغة بصرية وإدراك رؤيوي في معرضه الجديد
حاول عبد القادري التخلّص من حالةِ سَكَنِ صورةٍ تتجمد في ذهنه، وليس من طريقة للشفاء سوى استكمالها بطريقة ما، فكانت اللوحات هي المتمّم لخطوات مقاومته، لعله يتحرر منها.
-
عبد القادري
معرض الفنان عبد القادري "أغمض عينيك لعلّك تراني" (Close Your Eyes so You Can See Me) في غاليري "تانيت" في بيروت، استمرارية صمود ومقاومة درج الفنان عليها في الكثير من أعماله، والعديد من معارضه؛ كأنه يؤكّد تمسّكه بالحياة من قلب الموت، وبالبناء من قلب الدمار، وبالأمل من قلب اليأس.
مجموعة أعمال تنمّ عن صراع بين الواقع بكل مآسيه، وبين الإصرار على البقاء، والاستمرار، وهو استدامة لمنهجية سابقة اعتمدها القادري تأكيداً على رؤاه، ونظراته للواقع من دون الاستسلام لسيئاته.
منهجية القادري انعكاس وردة فعل في آن لتطورات الواقع اللبناني في السنوات العشر المنصرمة، حيث ذرّت الأزمة قرونها بأبعاد مختلفة، منها الصحي المتمثل بجائحة "كورونا"، أو الأزمة الاقتصادية التي تستمر حالياً ارتداداً لصدى المحاولات المتكررة لإخضاع البلد لمشيئة الغرب.
ذروة التأزم والمقاومة تجلّت لدى قادري في ذروة الأحداث التي وسمت المرحلة. أي انفجار المرفأ المعروف بانفجار 4 آب 2020. لحظة غير قابلة للنسيان لشدّة هولها، انطبعت في ذهن الفنان زمنياً، وهي لحظة الغروب. الانفجار يدوّي ويتغشّى الفضاء بالغمام والركام، وهول الصوت والارتجاج، بينما يواصل قرص الشمس مسيره غير آبه بما يجري، مؤشراً أن كل شيء زائل والنور مستمر.
لحظة الغروب في ذلك الظرف، انطبعت في مخيلة الفنان القادري، كمن أصيب بالسخونة والنعاس، فتسمّرت الصورة في ذهنه تذكّره أن الموت ليس طاغياً، والكون مستمر. قرص الشمس في تلك اللحظة، تركّز في النزوع إلى البقاء والصمود، ورفض الهزيمة والانهيار، وفي هذا السياق، يطلق على مجموعة أعماله "أغمض عينيك لعلّك تراني".
ومثلما سكن قرص الشمس في ذهنه صورة زهاء في قلب الظلمة، هكذا تحوّل القرص إلى رمز الأمل في لوحاته، فحضر في معظمها، إلى جانب تعابير لونية وشكلية متنوّعة.
يتحدث الفنان القادري عن ذلك الحدث ومؤثراته ويقول في نص مرفق: "عندما غادرت بيروت إلى باريس، تبعتني الدائرة الحمراء، وأصبحت نوعاً من التوقيع تحمل ثقل الفوضى والدمار".
كان الفنان اللبناني غارقاً في هول الدمار، وخاصة بعد "طوفان الأقصى" وحرب الإبادة وصولاً إلى العدوان على لبنان، فبحث عن ملجأ في لوحات قماشية صغيرة مرسومة عند الغسق، أطلق عليها اسم قصائد قصيرة، كل منها "بمثابة يوميات للضوء والخسارة، ومحاولة للتمسك بجمال زائل لا يمكن لأي قسوة بشرية أن تمحوه"، وفق القادري.
يحاول الفنان التخلّص من حالةِ سَكَنِ صورةٍ تتجمد في ذهنه، وليس من طريقة للشفاء سوى استكمالها بطريقة ما، فكانت اللوحات هي المتمّم لخطوات مقاومته، لعله يتحرر منها، فحضرت الشمس فيها تزيل غشاوة الألم من عينيه، وارتدادها بعقله، وعبرت في اللوحات كأنها توقيع لميزةٍ تلبّسها الفنان، طوعاً عندما لم يعد يستطيع إزالتها قهراً.
في عنوان المعرض "أغمض عينيك لعلّك تراني" توجّه داخلي، يوحي بتحول في الإدراك: فإغلاق العينين هو تناول العالم من زاوية مختلفة، لا بصريّة، بل إدراكية- رؤيويّة، تنتقل من البصر إلى البصيرة، ومن الرؤية إلى الرؤيا، وبذلك تشكّل اللوحات عتَبةً بين المرئي والمحسوس، ولم تعد الدائرة الحمراء تُمثل الشمس بالمعنى الحرفي. لقد أصبحت أفقاً داخلياً، ونقطة محوريّة للروح.
يستخدم القادري وسائط متنوعة، مادتها الفحم والأكريليك مع الباستيل، وأحياناً الزيت على القماش، ساعياً إلى تكريس لغة بصرية جديدة: بسيطة، تأملية، عندما هيمن الفحم على السطح، رقيقاً، متناثراً، كأنه صدى بقايا نيران مطفأة، فأصبح الفحم أكثر من مجرد مادة؛ هو بقايا روح، أو رماد هش يشهد على ما اندثر، ويُبقي إيماءة الفقدان حيّة.
يرى القادري في تقنية الفحم والباستيل حواراً بين النفس والأثر، وبين الضوء والرماد، فالفحم يحمل ذكرى النار المتحولة إلى مادة، بينما يطفو الباستيل على السطح مثل الضباب، أو الضوء نفسه، و"من خلال الدائرة الحمراء، الإشراق العابر الذي يستمر بعد الخسارة"، بحسب نصّ مرافق.
ويتابع: "يجسد الفحم والباستيل معاً التلميح الأساسي للمعرض، والتذبذب بين المحو والتجديد، ومحاولة لفهم ما يتلاشى. يتم تطبيق كل منهما يدوياً مباشرة، ويسجل كل منهما لمسة كشكل من أشكال الرؤية؛ ينبض كل أثر بحميمية؛ يصبح كل سطح جلداً للذاكرة. عند التقاء هاتين المادتين، يصبح الدمار مضيئاً، وتتحول الرؤية إلى رحلة داخلية، كما لو كان الرسم نفسه وسيلة للتنفس وسط الأنقاض".
يذكر أن الفنان عبد القادري ناشرٌ وقيّمٌ فنيّ متعدد التخصصات وُلد في بيروت، وحصل على تخصصين في الأدب العربي والفنون الجميلة. يركز عمله على فكرة ترجمة العنف، والتحقيق في التجارب المؤلمة الشخصية والجماعية الكامنة، مع التأكيد على رفض تدمير التراث الثقافي والهجرة والانتماء.
للقادري مجموعة من المعارض الإفرادية مثل "أبو غريب" 2006، و"في الزاوية" 2008، و"اضطراب الهوية" 2011، و"مقامة 2014"، و"رماد إلى البحر" 2016، و"أركاديا" 2016، و"المقامة الموصلية" 2017، وهو إدانة لتدمير المتاحف في الموصل، ورقصة الموت: من المخاطر الحضرية إلى الصخب الصاخب (2024)، و"اليوم، أود أن أكون شجرة" (2020) ارتداداً لتفجير المرفأ.
شارك القادري في العديد من المعارض الجماعية في اسطنبول، وباريس، وكمبريدج، وبودابست، والبحرين، وقطر، وأبو ظبي، ومنح جائزة لجنة التحكيم في الدورة الــ 32 لـــ "صالون الخريف" في متحف سرسق 2017. وتُعرض أعماله في مجموعات خاصة وعامة مثل المتحف البريطاني (لندن)، ومعهد العالم العربي (باريس)، والبنك الدولي (واشنطن)، والصندوق العربي (الكويت).

