"على الربابة بغني".. كيف أذاع بليغ حمدي البيان الغنائي الأول لحرب أكتوبر؟

خاض فنانو مصر حرباً فنية موازية للحرب العسكرية في أكتوبر 1973، وكان لبليغ حمدي دور كبير فيها. كيف؟

ظهيرة يوم السادس من تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، كان الجنود المصريون والسوريون يشنون هجومهم الخاطف على قوات العدو الإسرائيلي في سيناء والجولان، لتبدأ الإذاعة المصرية عند الساعة الثانية والربع ظهراً ببث المارش العسكري الشهير، وإذاعة البيان العسكري الأول والثاني والثالث، حتى إذاعة البيان الرابع، وذلك في إطار خطة الخداع الاستراتيجي للعدو، وهو ما جعل الناس يلتفون حول أثير الإذاعة منتبهين بقلوب وجلة لكل حرف يقال.

لكن البيان العسكري الخامس، بيان العبور، الذي أذيع بصوت الإعلامي الشهير حلمي البُلك، هو الوحيد الذي لم ينسَه العالم العربي، كما العدو، إذ جاء فيه‎: "نجحت قواتنا في اقتحام قناة السويس في قطاعات عديدة، واستولت على نقاط العدو القوية بها، ورفع علم مصر على الضفة الشرقية للقناة.. هنا القاهرة".

بدأت بعدها حرب أخرى في الشارع المصري، كلّ يجري فيها إلى موقعه الذي اختاره، ما بين متبرع بالدم أو متطوع في المستشفيات، وصولاً إلى الحرب الفنية، إذ وجّه فيها فنانو مصر وملحنوها وشعراؤها إبداعهم إلى قلوب الجنود على الجبهة ومسامعهم، ليشدوا من أزرهم، ويلهبوا حماسهم، ويغنوا للناس في الشوارع، ليؤكدوا محو هزيمتهم بنصر مبين.

بليغ حمدي يغني "الله أكبر" على ربابة حمدي منصور

  • بليغ حمدي ووردة الجزائرية
    بليغ حمدي ووردة الجزائرية

كان بليغ حمدي، الملحن المصري الكبير، أول من أشعل فتيل حرب أغاني العبور، إذ حمل النبأ إلى صديقه الشاعر عبد الرحيم منصور، ليكتب للمصريين البيان الغنائي الأول، ثم ينقله إلى الناس في تلك المرة صوت أقل خشونة من صوت الإذاعي حلمي البُلك. إنه صوت المطربة وردة الجزائرية، زوجة بليغ حمدي آنذاك.

قبلها، كان حمدي قد أمضى أياماً في مبنى الإذاعة بصحبة رفيق رحلته عبد الرحيم منصور، لتسجيل عدة أغانٍ جديدة. وما إن انتهيا من عملهما حتى عاد كل منهما إلى بيته لينال قسطاً من الراحة، لكن الشاعر الجنوبي ما كاد يغمض عينيه حتى سمع طرقاً قوياً على الباب، فقفز من سريره فزعاً، لكن سرعان ما تبدد فزعه حين فتح الباب وأبلغه صاحبه متهللاً: "اصحى يا رحمي.. إحنا عبرنا وانتصرنا".

صرخ منصور فرحاً، متمنياً لو كان وقتها في قريته البعيدة في جنوب مصر، فقاطعه بليغ متسائلاً عما كان سيفعله لو تحققت أمنيته، ووجد نفسه في شوارع قريته، فأجابه قائلاً: "كنت همسك الربابة وأغني بيها في كل البلد"، فأعطاه بليغ ورقة وقلماً، وقال: "اكتب دا بسرعة يا عبد الرحيم".

هكذا ولدت أول أغنية عن حرب أكتوبر بين حمدي ومنصور. ولدت منتصبة على قامة شاعر صعيدي، رأى أن يحكي سيرة الحرب على ربابته، كما تُحكى في بلاده سيرة الأبطال الشعبيين، أمثال أبي زيد الهلالي وعلي الزيبق.

كتب منصور: "وأنا على الربابة بغني، ما املكش غير أني أغنى وأقول، تعيشي يا مصر". كتبها دفقة واحدة بانفعال من يسير على الجبهة، وسرعان ما لحنها بليغ لحنًا راقصاً كفرحة النصر، وقوياً كعزيمة الجنود، وهادراً كوقع خطاهم على رمل سيناء.

بعدها، توجّها ومعهما الفنانة وردة الجزائرية إلى مبنى الإذاعة لتسجيل الأغنية، فمنعوا من الدخول بذريعة عدم وجود تصاريح، إلا أن إصرار بليغ حمدي على تسجيل الأغنية، دفع رئيس الإذاعة إلى أن يسمح لهم بالدخول، فسجلوها، وأذيعت فجر اليوم التالي (7 تشرين الأول/أكتوبر 1973).

خلال طريقهم إلى الإذاعة لتسجيل "حلوة بلادي السمرا"، سمع منصور هتافات الناس في الشوارع. كان الجميع يهتفون: "الله أكبر"، ومنهم استمد كلمات أغنيته الثانية: "بسم الله.. الله أكبر"، التي كانت بمنزلة نشيد العبور ووقود حماسة الجنود المصريين على الجبهة.

بسرعة إيقاع الحرب نفسها، جلس بليغ حمدي على درج الإذاعة ووضع لحناً لها، ثم لم يجد الكورال ليسجلها، لأنهم ممن لم يسمح لهم بالدخول، فجمع كل موظفي الإذاعة الموجودين في المبنى وجعلهم يحفظون اللحن ويسجلونه، وكأن أغنية العبور تأبى أن تخرج بغير صوت أناس عاديين، من ثم أذيعت الأغنية الأولى "بسم الله.. الله أكبر" صباح 7 تشرين الأول/أكتوبر.

رحلة الأبنودي من "عدّى النهار" إلى "صباح الخير يا سينا"

  • بليغ حمدي وعبد الحليم حافظ
    بليغ حمدي وعبد الحليم حافظ

لم تكن أغنيات النصر مقطوعة الصلة بأغنيات النكسة، فقد سبقتها إلى الجبهة أغنيات كتبت بعد العام 1967 لتشد من أزر الأمة وتدفعها إلى القيام من كبوتها، أولها أغنية "عدى النهار" التي كتبها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي من وحي الهزيمة، ولحنها أيضاً بليغ حمدي، وهي أولى الأغاني التي كتبت بعد النكسة، وجاءت كلماتها لتؤكد أننا إلى النصر قادمون لا محالة، لأن "بلدنا ليل نهار.. بتحب موال النهار.. لما يعدي في الدروب.. ويغني قدام كل دار".

بعد النكسة، قدّم الشاعر عبد الرحمن الأبنودي وعبد الحليم حافظ عدداً من الأغنيات الوطنية التي عادت تُغنى مرة أخرى بعد العبور، فقد كان جميعها يدعو إلى القتال والوقوف في وجه العدو، مثل "ابنك يقول لك يا بطل"، و"أحلف بسماها وبترابها"، اللتين لحّنهما الموسيقار كمال الطويل. وقد وضع بصمته اللحنية أيضاً على تعاونهما بعد نصر أكتوبر 1973 في أغنية "صباح الخير يا سينا" التي سجلها حليم في بداية عام 1974م.

لم تكن "صباح الخير يا سينا" الوحيدة التي غناها حافظ احتفالاً بنصر أكتوبر، إذ سجل قبلها أغنية "عاش اللي قال"، بعدما استلهم كلماتها الشاعر الشاب -آنذاك- محمد حمزة، من مقال للكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل، واختار حليم صاحبه بليغ حمدي ليضع لها لحناً حماسياً.

ومما يحكيه الكاتب الصحافي وجدي الحكيم في حوار أن عبد الحليم حافظ كان من المقرر أن يغني: "عاش اللي قال الكلمة بحكمة في الوقت المناسب عاش عاش"، ثم يأتي بعده صوت الكورال: "عاش السادات"، لكن الرئيس الراحل طلب بتعديل الكلمات عندما علم بهذا الأمر، فإما حذف اسمه أو ذكر أسماء زعماء العرب الذين شاركوه الحرب، ما اضطر "حليم" إلى إعادة تسجيل الأغنية من دون ذكر أسماء.

نبيلة قنديل وعلي إسماعيل يرفعان "رايات النصر" ويغنيان لـ"أم البطل"

  • نبيلة قنديل
    نبيلة قنديل

من بين من قدموا أغنيات لنصر أكتوبر، كانت الشاعرة نبيلة قنديل، صاحبة أشهر الأغاني التي كتبت احتفالاً بقدوم شهر رمضان، فأغنيتها "رايات النصر" تعد من أولى الأغاني التي أذيعت احتفالاً بالعبور، وهي من ألحان زوجها الموسيقار علي إسماعيل. وقد سجلها "كورال" في استوديوهات الإذاعة المصرية.

لم تكن "رايات النصر" من الأغنيات التي كتبت بعد تشرين الأول/أكتوبر 1973، لكن يمكن اعتبارها من الأغاني التي تنبأت بقرار الحرب، فقد كتبت قبل عام من العبور، وبالتحديد عام 1972، لتكون أغنية فيلم "العصفور" للمخرج الراحل يوسف شاهين، إلا أنها ظلت محفوظة في الأدراج حتى اندلاع الحرب، فأهداها شاهين للإذاعة بعد العبور.

بعد 3 أشهر من تشرين الأول/أكتوبر 1973، كان لقنديل وعلي إسماعيل أغنية أخرى أكّدت هذه المرة أن أغنيات النصر لم تكن كلمات مؤثرة بقدر ما كانت توثيقاً لحالة الفنانين وحماستهم، وأيضاً لكونهم جزءاً ممن قدموا أبناءهم فداء للوطن، وهي أغنية "أم البطل" للفنانة شريفة فاضل.

خلال حرب الاستنزاف، استشهد نجل الفنانة شريفة فاضل، الملازم أول طيار سيد السيد بدير، على يد العدو الإسرائيلي. حزنت الأم حزناً شديداً، وأصابها المرض، ولزمت الفراش، حتى يوم زارتها في بيتها الشاعرة نبيلة قنديل وزوجها، فطلبت منها أن تكتب أغنية تعبر فيها عن كل سيدة قدمت ابنها للحرب، سواء استشهد أو نجا.

تحكي شريفة فاضل أن الشاعرة نبيلة قنديل طلبت أن تدخل إلى غرفة ابنها الشهيد لعدة دقائق، ثم خرجت وفي يدها ورقة بكلمات الأغنية. وما إن قرأتها حتى تأثر بها الجميع، ثم أخذها بدوره علي إسماعيل، وتوجه إلى منزله، وعاد في اليوم التالي بلحن متقن لم تطلب المطربة المصرية أي تعديل عليه، وتضيف: في اليوم الثالث، كنت في ماسبيرو لتسجيلها، فرحب "بابا شارو"، رئيس الإذاعة وقتها، بالأغنية، وأمر بدخولي الاستوديو فوراً.