على طريق القدس: وحدة الدمّ وإشراقة الامّة

أيّ وحدة لمن انحازوا بكليّتهم لهذا الحق العظيم في مواجهة أكبر شرّ أخرجه الاستكبار العالمي للناس، وحدة الدم والشهادة بين فلسطين ولبنان ومن سار معها في اليمن والعراق.

اليوم سنخص الحديث عن شهداء حزب الله، الذين اصطلح على تسميتهم بـشهداء على طريق القدس. وهذا لا يعني إعفاءنا من الحديث عن شهداء غزة والضفّة واليمن والعراق، والشهداء في كل مكان انطلق منه من ينحاز إلى "طوفان الأقصى"، وهذا ملف عظيم ينبغي الحديث فيه عن الشهداء كلّ باسمه وسيرته وما حقّق من تضحية وفداء توّجا بالشهادة، وانضم بذلك إلى ركب الشهداء العظام. فهؤلاء ليسوا أرقاماً وإنما لكلّ منهم حياة حافلة بالتضحية والفداء والروح الجميلة العالية تميّزت وحلّقت عالياً وتركت أثراً عظيماً في حياتنا.  

من عمق ظلمات زمن انتشرت فيه أوبئة الهزيمة والتخلّف والخضوع والرضوخ وقابلية الاستعمار التي سبر أغوارها مالك بن نبي بأسمائها الجديدة: تطبيع وتعايش سلمي وانبهار إلى درجة الاستحمار التي فصّلها علي شريعتي، من وسط هذه الادغال المخيفة والمريبة والطاغية يظهر هذا النور، نور في غزّة أسموه "طوفان الأقصى"، ونور جاء من اليمن العظيم، ونور سطع في الشمال، ولا نريد في هذه العجالة أن نتحدّث عن كلّ هذا النور، فيكفينا قبساً من شهداء طريق القدس.

لله دركم ودرّ دمائكم الزكيّة، ما هي كلمة السرّ لهذه الشخصيّة العظيمة التي بذلت روحها راضية مرضيّة، من صور وجوهكم النضرة نقرأ كم هي مؤمنة؟ كم هي صادقة؟ كم هي منيرة؟ كم هي صبيحة مضيئة ألقة متلألئة؟ كيف تقرأ هذه الوجوه النضرة الحياة؟ كيف تقرأ معادلة الدنيا والآخرة؟ كيف صُنعت هذه النفوس وكيف بُنيت هذه الشخصيات العزيزة الكريمة. 

أفهم من ظلمات الواقع العربي أن كل قطر صار البعض فيه يطرح قطريته وشعاره بلده أوّلاً، لبنان أوّلاً، مصر أولاً، الأردن أولاً، وهكذا. أمّا هؤلاء فقد قالوا القدس أوّلاً وغزّة ثانياً، ودونهما روحنا ثالثاً. لم يكن للقطر أيّ حساب بعد أن سفك الدمّ الطاهر البريء خاصة من قبل ألدّ أعداء الله. إنّها الاخوّة الايمانية الصادقة. لم يكتفوا بالقول أو المشاركة بمسيرة وتظاهرة أو في وقفة احتجاجيّة لساعة من الزمن بل قالوها صريحة بليغة دامغة وعلى أعلى درجات الفعل، قالوها بدمائهم، ووظّفوا لها كلّ ملكاتهم وخبراتهم وقدراتهم. انحازوا بكليّتهم مع مظلومية الشعب الفلسطيني. كان بإمكانهم أن يفعلوا كما فعل كثير من الناس. بعض المظاهرات ووقفات إسقاط الواجب، خاصّة بأنهم قاموا بما يترتّب عليهم من تحرير وطنهم الصغير، وبإمكانهم أن يسوّقوا أنفسهم للناس على هذا الحدّ الأدنى من الواجب كما فعلت جماهير كثيرة طيّبة، ولكنها نفوس عظيمة سكنتها أرواح جميلة لا تعرف للعطاء حدود.

ولم يأت فعلهم لنجدة القدس وفلسطين هبّة ونخوة جاءتهم فجأة، بل بنوا أنفسهم منذ زمن طويل لهذه اللحظة، استعدوا وأقاموها لبنة لبنة باحترافية عالية في بناء الذات الثورية، ليستوي البنيان كزرع أخرج شطأه فآزره فاستوى على سوقه، واستعدوا في التدريبات اللازمة التي تتطلّبها المواجهة على أفضل ما يكون التدريب، وتابعوا التدريب ليراكموا الخبرات، مع قيادة تحقّق فيهم الروح الجماعية المبدعة والقادرة على تحويل ما وقر في قلوبهم إلى أفعال وإتقان بكلّ تجلياته المهنية العالية. نفروا للجهاد بكل ما تعنيه الكلمة وبكل ما تتطلبه المعركة. كثير من الناس من يطرحون الشعار ويقفون عند حدوده النظريّة، لكن هؤلاء الشهداء شهدوا الشعار في قلوبهم ثم راحوا به إلى حيّز الفعل والاتقان والابداع، نحن نتحدّث عن كوادر مؤمنة بدورها المطلوب ومستعدة له بكل متطلبات الاعداد، لذلك تجدهم في أحسن حالات المواجهة والاقدام والتنفيذ.

ليس من السهل صناعة مثل هؤلاء الرجال. إنها عملية زراعة قيم واهتمامات وفق رؤية ورسالة تستمرّ لسنوات طويلة. تزرع فيها مكونات تعطى وزنها ويحفر لها عميقاً في القلب. فالإيمان بالله واليوم الآخر وإرادة الآخرة المنتصرة في نفوسهم على إرادة الدنيا، ومفهوم الشهادة التي من أجلها يستعد للتضحية بكلّ شيء، وقيم الحريّة والسيادة والكرامة، تحظى باعتبار عظيم في هذه النفوس، وللقدس والاقصى في سويداء قلوبهم مكاناً عميقاً وعظيماً، والجهاد واجب مقدّس، وهو عندهم واجب الوقت ومقدّم على كلّ الواجبات، ومواجهة الظالمين والانتصار للمظلوم قيم لها اعتبارات كبيرة وعظيمة في هذه النفوس. 

عندما تسطع شاشاتنا بصورة شهيد قد انضمّ إلى هذا الفريق من الناس العظام "شهداء على طريق القدس"، ترتعش له قلوبنا وتحلّق عالياً لترى هناك في السماء بوابة تفتح، ونوراً واصلاً من الفردوس الأعلى إلى فردوس هذه الأرض ودرّة تاجها القدس. تزهوا بشهدائها وتقدم أرفع أوسمتها. هنيئاً لهم وهنيئاً لهذا الطريق الذي يحقق عزّة الانسان وكرامته ويضمن له مكاناً عالياً عند الرفيق الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء. 

هؤلاء العظام هم الذين يكتبون التاريخ بأبهى صفحاته المشرقة. هم الذين يشقون الطريق للمستقبل العزيز الكريم. هم المنارات التي ترشد السالكين وتصوّب مسار التائهين وتجعل الطريق واضحة المعالم، ليلها كنهارها. تسير بنا وتأخذ بأيدينا إلى حيث السيادة الحضاريّة وولادة أمّة مجيدة مرهوبة الجانب، ولتدفن للأبد ما كانت عليه أوضاع الهزيمة والتبعية والتخلّف والسير ذلّاً في ركاب الطغاة المستكبرين. بدمائهم الزكيّة تطوى صفحات مظلمة وتفتح صفحات النور والحق والعدل والإحسان، صفحات خير أمّة أخرجت للناس. 

وأيّ وحدة لمن انحازوا بكليّتهم لهذا الحق العظيم في مواجهة أكبر شرّ أخرجه الاستكبار العالمي للناس، وحدة الدم والشهادة بين فلسطين ولبنان ومن سار معها في اليمن والعراق، تجسّد هذه الأيام الامّة العظيمة الواحدة مدادها دماء الشهداء. لم تعد الامّة الواحدة فكرة أو شعاراً بعدما تعمّدت بالدماء. لم تعد دعاية أو سحابة صيف في فضاء الكتروني واهم. لم تعد هرطقة نظريين لا علاقة لهم بوحدة الدمّ والمصير والوقوف على حافّة الموت، لا شأن لهم إلا كثرة الكلام وبينهم وبين صناعة جناح مسيّرة أو اطلاق رصاصة ما بين السماء والأرض. لقد جمعهم دم الشهادة وجعل منهم بالفعل الامّة الواحدة القادرة على النصر والتحرير ولمّ الشمل ومتابعة الطريق.

أيّها الناس لن يوحّدنا سوى دماء الشهداء، لن يرفع قدرنا ولن يعلي شأننا ولن يضعنا على جادّة الطريق التي تصنع مجدنا سوى دماء الشهداء، وخاصة إذا كانوا شهداء على طريق القدس. هذه الأرواح العظيمة وهذه الدماء الزكية هي وحدها العنوان ومنارة الطريق والأمل المشرق لمستقبل عظيم بإذن الله، لا احتلال فيه ولا فساد ولا ظلم ولا فرقة ولا انشغال في متاهات الطريق وصراعات يجيد صناعتها الشيطان والاستعمار. 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.