عن أزمة الترجمة الأدبية بين الروسية والعربية

يتحدث المترجمون العرب المعنيون بالثقافة الروسية عن فراغ كبير بعد توقف عمل آلة الترجمة السوفياتية. ما أسباب هذا الفراغ؟ ومن يملأه؟

شهد العقدان الأخيران بداية مبشّرة لحركة الترجمة من الروسية إلى العربية، فظهرت عشرات العناوين الحديثة، إلى جانب إعادة دور النشر طبع العناوين الكلاسيكية بلا رقابة على المحتوى المختصر أو المبتور أحياناً، أو الذي ترجم من لغة وسيطة.

لكن أعمال المترجمين الجادين بدأت تحتل مكاناً في المكتبة العربية، لا سيما في فن الرواية المترجمة، مع أن معظمها لا يحظى بدعم المؤسسات الثقافية، وهي نتيجة مبادرات فردية تخضع لأهواء دور النشر الخاصة التي تبغي الربح. 

تتكرر الأسئلة الرائجة في معارض الكتب العربية بشأن الأدب الروسي: "هل لديك شيء لتشيخوف.. لدوستويفسكي؟"، ويندر أن يعرف القارئ العربي اسم كاتب روسي معاصر، كما يندر أن يطلب ما نُشر يوماً في الحقبة السوفياتية، وكان مشحوناً إيديولوجياً ولم يُطبع من جديد.

هنا يبدو أن الاتحاد السوفياتي لم يلعب سوى دور الناقل الأمين للأعمال الكلاسيكية الروسية من الحقبتين القيصريتين: الذهبية والفضية، إلى أن وصلتنا، ولا يزال الطلب عليها مرتفعاً نسبياً من القارئ.

إذن، ما الذي يقصده المترجمون والمعنيون بالثقافة الروسية حين يتحدّثون عن الفراغ الكبير بعد توقف عمل آلة الترجمة السوفياتية قبل 30 عاماً؟ ومن يملأ هذا الفراغ؟ 

مراحل الترجمة

  • سامي الدروبي
    سامي الدروبي

مرّت الترجمة الأدبية بين الروسية والعربية في ثلاث مراحل تعتمد على النظام السياسي في روسيا نفسها (القيصرية، السوفياتية، والروسية الحديثة). بداية، شهد الربع الأخير من القرن التاسع عشر، والعقد الأول من القرن العشرين حضوراً روسيّاً كبيراً في المشرق، وقد كان، بدايةً، تحت عناوين دينيّة، حيث توافدت قوافل الحجّ السلافي إلى الأراضي المقدّسة في فلسطين بكثافة، ورافق ذلك تنظيم عملية استقبال الحجيج وخدمتهم، وإنشاء "الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية" التي بنت المستوصفات الطبيّة وأمّنت المنامة للوافدين ثم انطلقت في مشروع إنشاء المدارس المسكوبية في فلسطين، ثم في لبنان وسوريا.

وإلى جانب ذلك الجهد المنظّم، تنامى جهدٌ علميّ قيصري، تمثّل في البعثات العلمية الجغرافية والإنثربولوجية واللغوية. وقد حمل عبء الترجمة الأدبية خريجو المدارس المسكوبية فظهرت النصوص المعرّبة في القاهرة، وبيروت، ودمشق، وحمص، وغيرها من المدن العربية، التي عرفت بالأدب الروائي وتركت أثراً في تطور أساليب التعبير الفني، وأسهمت في مسيرة الأدب العربي الحديث.

غيّب السوفيات أسماء أدباء شغلوا الساحة الثقافية الروسية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين لأسباب سياسية.  

عمل عدد من خريجي هذه المدارس، الذين تسنّى لهم أن يعودوا إلى المشرق بعد إنهائهم تعليمهم العالي الديني في السينمارات والأكاديميات التابعة للجمعية في روسيا، في التعليم بمدارس الجمعية، وترجموا القصص الروسية (أحياناً مختصرة) كمواد تعليمية. وقد جمعت الأستاذة إلميرا عليزاده في بحثها الأكاديمي "الأدب الروسي والعالم العربي" ثمار هذه المرحلة. 

في المرحلة السوفياتية، أولت ماكينة الترجمة والنشر عناية خاصة بنقل الأدب الروسي بعصريه الذهبي والفضي إلى اللغات الحية، ومنها العربية؛ فبدأت أسماء الأساتذة الكبار في الترجمة الأدبية من الروسية إلى العربية من دون المرور بلغة وسيطة - إلى جانب قبول السوفيات بعض الترجمات، التي مرت بلغة وسيطة مثل أعمال الأستاذ سامي الدروبي (1921 - 1976) - وباتت عشرات الأعمال الأدبية الخالدة التي طبعت منها عشرات آلاف النسخ، في متناول القارئ العربي، إلى جانب الكتب الإيديولوجية وعشرات المنشورات والصحف والمجلات.

حركة الترجمة تقودها اليوم مبادرات فردية، أي مترجمون متحمسون منغمسون في عملهم بالترجمة الأدبية لانجذابهم الشخصي إلى الثقافة الروسية، مع أن المردود المادي الذي يتقاضاه المترجم لقاء عمله ضئيل نسبياً. 

تولت المهمّة "دار الآداب الأجنبية"، وهي دار حكومية أنشئت في موسكو عام 1946، تخصصت بنقل الأدب العالمي المترجم، ثم انقسمت عام 1963 إلى دارين: "التقدم" (بروغرس) و"مير"، فنشرت الأدبين الروسي والسوفياتي المترجمين إلى عدد كبير من اللغات الحية. ثم ظهرت دار "رادوغا" التي أنشئت عام 1982. كما أصدرت دور النشر العربية الدائرة في فلك الاتحاد السوفياتي، أو اليسارية عموماً، عشرات العناوين الأدبية.

ومن الملحوظات المهمة على هذه المرحلة، أن السوفيات غيّبوا أسماء أدباء شغلوا الساحة الثقافية الروسية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين لأسباب سياسية. ومع انهيار هذه الآلة يستمر تغييب معظم هذه الأسباب مع انتفاء المانع الإيديولوجي. 

الحيّز المضاع

  • تولستوي وغوركي وتشيخوف
    تولستوي وغوركي وتشيخوف

يقرّ معظم المترجمين والعاملين في الحقل الثقافي الروسي – العربي بانكماش كبير في حجم الترجمة من الروسية إلى العربية وبالعكس إثر انهيار الاتحاد السوفياتي وهي حقيقة كمّية، ما خلق حيزاً مضاعاً، يمكننا تلمس معالمه (عدد من الفجوات) سواء من حيث الكمّ أو من حيث الجهات التي كانت تتولى عملية الترجمة والطبع والتوزيع، وكانت مئات العناوين تملأ هذا الحيز على الساحة الثقافية بشكل عام.

ونحن نفترض هنا أن حركة الترجمة التي انطلقت في الحقبة القيصرية واستمرّت في السوفياتية قد نحت منحىً تصاعدياً، ثم توقفت فجأة مع انهيار الاتحاد السوفياتي. فمن الجهات المعنية بملء الفراغ في مرحلة روسيا الحديثة، وكيف؟  

من اللافت أن حركة الترجمة تقودها اليوم مبادرات فردية، أي يقودها مترجمون متحمّسون منغمسون في عملهم على الترجمة الأدبية لانجذابهم الشخصي إلى الثقافة الروسية، مع  أن المردود المادي الذي يقاضاه المترجم لقاء عمله ضئيل نسبياً. فمن هي الجهات المعنية بملء الفراغ؟ 

بطبيعة الحال المؤسّسات الثقافية الرسمية وشبه الرسمية، أولاً، حيث شهدنا عدداً من الإصدارات الأدبية المترجمة من الروسية في العقدين الأخيرين عن هذه المؤسسات، يمكن أن يبنى على هذه التجربة في إطار التعاون بين المؤسسات الروسية والعربية لإصدار عناوين محددة في موسكو والعواصم العربية.

 لم تخترق دور النشر الروسية فضاءات معارض الكتب العربية في العقدين الماضيين، فيما نلحظ أن الأعمال الأدبية الحديثة التي نقلت إلى العربية حظيت ترجماتها إلى اللغات الأوروبية بشهرة ما.

ومن المؤسسات العربية "المركز القومي للترجمة" التابع لوزارة الثقافة المصرية، و"المؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم"، و"الهيئة العامة السورية للكتاب" التابعة لوزارة الثقافة السورية، و"المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب" في الكويت، وغيرها... ومن المؤسسات كذلك تلك التي تعنى بالجوائز الأدبية، مع أن هذه الجوائز تمنح في كثر من الأحيان على خلفيات سياسية. 

ثم تأتي دور النشر العربية في المقام الثاني، وهي شركات تبغي الربح وتخضع لأزمة سوق الكتاب في العالم العربي... وتبحث عن العناوين التي تجذب القارئ، ويمكن أن تجري اتفاقيات أفقية مع دور نشر روسية لتبادل العناوين، وتجري هذه الاتفاقيات غالباً في معارض الكتب.

ومن الملاحظ هنا أن دور النشر الروسية لم تخترق فضاءات معارض الكتب العربية في العقدين الماضيين، وقد لا تجد أن هذه الخطوة مربحة مادياً. في المقابل، نلحظ أن الأعمال الأدبية الحديثة التي نقلت إلى العربية حظيت ترجماتها إلى اللغات الأوروبية بشهرة ما.

ماذا نترجم؟

  • مكسيم غوركي
    مكسيم غوركي

لعل السؤال الأصعب هو "ماذا نترجم؟". نلحظ أن الكتاب الجادّين الذين لا يخضعون لأهواء السوق لا تعنى بهم دور النشر ولا تغمرهم بالحملات الإعلانية في روسيا الحديثة، ويختفون عن المشهد الثقافي تدريجاً. كذلك لا تهتم بهم الجوائز الأدبية مع انخفاض مستوياتها بصورة حادة، سواء في روسيا أو العالم العربي. 

وقد طرح هذا السؤال على نحو جاد في غير ندوة، ومنها الندوة التي نظّمها "البيت اللبناني في موسكو "بعنوان: "العلاقات الروسية اللبنانية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً"، في الــ20 من تشرين الأول/ أكتوبر 2021.

وكذلك طرح اليوم في المؤتمر الدولي الذي ينظّمه "مركز الدراسات العربية والإسلامية" التابع لــ "معهد الدراسات الشرقية" لدى "الأكاديمية الروسية للعلوم" بعنوان المؤتمر الدولي "الترجمة الروسية - العربية والعربية - الروسية: الماضي والحاضر والمستقبل" 13 و14 حزيران/ يونيو 2022، بمشاركة عدد من المترجمين البارزين حالياً.

وقد تكون المؤسسات الأكاديمية والمؤتمرات العلمية المعنية بالترجمة الأدبية معنية بالإجابة عملياً عن هذا السؤال، عبر تأليف لجان متخصصة بطرح عناوين محددة للترجمة الأدبية.