عندما تذوّقت "تراب الماس" من مطبخ أحمد كمال

عبارات كثيرة سمعناها من حسين الزهار، كانت ارتجالات لأحمد كمال كـ"الست الحلوة مشاكلها كتير"، و"منعيش عمرنا نحب مرة وحدة، ونفضل طول العمر نفتكر الحب دا". لمساته الخاصة تعدّت سطور النص لتلعب في الأداء.

  • الفنان أحمد كمال
    الفنان أحمد كمال

فنان قدير جسّد شخصية بقيت معي منذ لقائي الأول بها على الشاشة الكبيرة سنة 2018، أتذكرها بكل تفاصيلها وحواراتها وانفعالاتها، بدايتها ونهايتها، هي محور الحدث في الوجود والغياب لفيلم "تراب الماس"، الذي أخرجه مروان حامد، واستند في نصه إلى الرواية التي كتبها أحمد مراد عام 2010، إنّه موعد مع أستاذ التمثيل، الفنان المصري أحمد كمال.

اتفقنا أن يطلبني في الوقت الذي يجده مناسباً، فوقتي كله ملكه. اتصل بي، وقال لي بصوته المعلّق على ثنايا ذاكرتي: "مساء الخير". شردت للحظات، وغُصتُ حينها في أعماق صوته. كنت أتلمّس صوت الراوي الذي امتدّ بإحساسه على دقائق فيلم "تراب الماس"، حسين الزهار العبد الفقير الذي فقد حقه في الحياة.

عدت إلى الواقع وأكملت المكالمة، أخبرته عن مدى إعجابي الشديد بالشخصية، ففتح معي أوراق مذكراته عنها، أخبرني أنّ الشخصية لم تكن له منذ البداية، إذ أُسنِد إليه دور اليهودي "ليتو"، ولكن بعد اعتذار الفنان محمود حميده، طلب منه المخرج أن يؤديها وذلك قبل أسبوعين فقط من موعد التصوير.

14 يوماً كانت كفيلة أن يدرس الرواية بتفاصيلها، فهو يهوى الأفلام التي تقفز من الروايات، ليطلب بعدها ورق السيناريو المكتوب، ويضع عليه لمساته الأخيرة، ثم يدخل التصوير بالروح العالية التي احتاجها الدور، فتلك الشخصية وكما رأينا لديها طفولة إجرامية، ذهبت إلى حد الإعدام لمن خان الوطن، فكان صديق والده اليهودي "العم ليتو"، والذي تواطأ كأقرانه من الصهاينة مع البريطانيين أثناء العدوان الثلاثي على مصر، ثمّ كُشِفوا بفضيحة "لافون" أول المحكومين في محكمة حسين الزهار، بتناوله لكأس من الشاي عليها رشّة من ذلك التراب، ومع الرشفة الأولى يخبره الزهار أنّه حلم به وهو ذاهب نحو طريق طويل مع والده المتوفي، على الرغم من أنّه أحبّ ابنته "تونا"، ونجد أن ذلك الحب بقي معه طوال عمره، إلّا أن القصاص كان واجباً بالنسبة له، كل ذلك عبر أداء جسّده الطفل عبد الرحمن فاروق، مهّد لشيخوخة مريضة عانت في شبابها الكثير، حيث درست التاريخ وقرأته، وكانت جزءاً منه بداية من الهزيمة في العام 1967، إلى انتصار العام 1973، مروراً بوداع من يحب والزواج التقليدي، السفر والتغّرب، ثم خسارة الأموال عبر شركات نصب واحتيال، إلى الجلوس على كرسي متحرك نتيجة خطأ طبي "غير مقصود" خلال عملية جراحية في الظهر. هنا يمسك أحمد كمال زمام الأمور ويكمل ما بدأه حسين الزهّار، مدرّس التاريخ، الذي تحمّل تبعات وخطايا حكام الوطن، ليظهر الوحش مرّة أخرى ويكمل معاقبة الفاسدين بترابه حتى وفاته، التي دفعت ابنه للبحث عن غريم والده وكشفت مذكراته غطاء الحقيقة، عبر سطور انتقلت به إلى معرفة هوية قاتله.

عبارات كثيرة سمعناها من حسين الزهار، كانت ارتجالات لأحمد كمال كـ"الست الحلوة مشاكلها كتير"، و"منعيش عمرنا نحب مرة وحدة، ونفضل طول العمر نفتكر الحب دا". لمساته الخاصة تعدّت سطور النص لتلعب في الأداء، فتارة نرى نظرة الضعف التي تخفي وراءها قاضياً يسبق سيفه العذل، فيخطط ويجمع الأخبار عن ضحاياه، لنجده رسولاً يخبرهم أنّهم على موعد مع الموت القريب، نمسك بيديه ونحاول أن نرفعه مع ابنه طه (آسر ياسين)، الذي يبكينا في مشهده الأخير، حيث ذهب في الأداء إلى القوة والثقة بما صنعه طوال حياته، فهنا كانت جائزة الشرف بالموت على يد إنسان حقير كـ"السرفيس" (محمد ممدوح).

جميع تلك المشاهد صُنِعَت بكيمياء متوازنة مع باقي الشخصيات، وهنا نتذكّر المشهد الذي جمع الزّهار بالنائب في البرلمان محروس برجاس (عزت العلايلي)، حائك القوانين الذي لم يجمعهم الوقت إلا لدقائق معدودة، لكنّها كانت كفيلة بفرجة ممتعة لحوار بين طبقتين مختلفتين، جاء الأداء مكمّلاً له.

مضت 4 سنوات على عرض الفيلم، لكنّه ما زال يحصد إلى الآن المتابعة والإعجاب من الناس، حتى أنّهم، وكما أخبرني أحمد كمال، يحتفظون بالفيلم على أجهزتهم الذكية ويشاهدونه دائماً، ويسمع منهم كلمات الإعجاب والتقدير لما قدّمه عبر ذلك الدور. ولنتّفق معه على فكرة مهمة مفادها أنّ القتل ليس حلاً، وأنّ ما قدّمه أعمق بكثير مما رأيناه، وكأنّه أشبه بقطعة نفسية من الإبداع.

وقبل أن ننهي اتصالنا، أخبرني أنّ سوريا ومصر بلد واحد، يتابع السينما السورية خاصة أفلام المخرج محمد ملص، وأنّ له العديد من الأصدقاء السوريين، وقد زارها خلال إنجاز مسلسل "هدوء نسبي" (2009) مع المخرج التونسي الراحل شوقي الماجري، ويتمنّى أن يزورها في القريب العاجل.

أغلقت هاتفي وأغمضت عيني، وكأنّ هذه المكالمة بات لها نصيب كبير من مذكراتي، كـ"متون الجحيم" التي تركها حسين الزهّار، لتحفظها عيني قبل أن تنام، وأسعد بها حين أستيقظ كل يوم.