عندما تطوّع عبد السلام العجيلي في جيش الإنقاذ وعاد خائباً!

سعى العجيلي للالتحاق بمجاهدي ثورة عام 1936 في فلسطين ضد الإنكليز، فسافر إلى دمشق سرّاً من أجل التطوّع، إلا أن المسؤول عن مكتب المجاهدين أجاب الفتى قائلاً: "يا بني، ارجع إلى بلدك وتعلّم. الثورة الفلسطينية في حاجة إلى رصاص وخرطوش أكثر من حاجتها إلى الرجال".

  • العجيلي يتوسط اثنين من المجاهدين في فلسطين
    العجيلي يتوسط اثنين من المجاهدين في فلسطين

قبل رحيله بعامٍ واحد، أفرج عبد السلام العجيلي (1918- 2006) عن وثائق نادرة تتعلق بلحظة استثنائية تركت أثرها في ذاكرته وخياراته السياسية والحياتية اللاحقة. وثائق وصور صدرت في كتاب تحت عنوان "جيش الإنقاذ: صور منه، كلمات عنه" (دار الكلمة - دمشق، 2005)، حين قرّر الطبيب الشاب الالتحاق بجيش الإنقاذ متطوعاً مع حفنة من الوطنيين في الدفاع عن فلسطين، بعد قرار التقسيم ونكبة عام 1948 بقيادة فوزي القاوقجي.

حينها، انضم العجيلي إلى فوج اليرموك الثاني الذي كان يقوده أديب الشيشكلي. هكذا، غادر النائب السوري عن مدينة الرقة مقعده في المجلس النيابي، رفقة النائب أكرم الحوراني، بعد أن استأذَنا رئيس الجمهورية شكري القوتلي واعتذرا عن قبول مبلغ 1000 ليرة لكلٍ منهما، رغب الرئيس في أن يتبرّع به من ماله الخاص.

في فلسطين، عاش العجيلي وسائر المجاهدين أشهراً في مقاومة العصابات الصهيونية بعتاد حربي متواضع، فعاد خائباً بعد اكتشافه، من كثب، عدم جديّة الجيوش العربية في مواجهة العدو، وأحس بالخذلان والخيبة والخديعة.

كان العجيلي سعى من قبل للالتحاق بمجاهدي ثورة عام 1936 في فلسطين ضد الإنكليز، فسافر إلى دمشق سرّاً للتطوّع، إلا أن المسؤول عن مكتب المجاهدين أجاب الفتى قائلاً: "يا بني، ارجع إلى بلدك وتعلّم. الثورة الفلسطينية في حاجة إلى رصاص وخرطوش أكثر من حاجتها إلى الرجال".

هذه التجربة المريرة علّمته أن النيات الطيبة وحدها لا تكفي لتحقيق الأمنيات، فعاد إلى مدينته ليكون أول طبيب فيها، معوّضاً خسارته الحرب بالكتابة عنها، مستلهماً قصصاً حقيقية، مثل قصة "كفن حمود"، و"بنادق في لواء الجليل"، و"نبوءات الشيخ سلمان".

في المقلب الآخر، سيمنحه مرضاه حكايات تتأرجح بين الأسى والمفارقة، وهو ما نجده بين دفتي كتابه "عيادة في الريف" (1977)، وسيشهد نكبة وطنية أخرى في الانقلابات العسكرية المتلاحقة، فاعتزل السياسة ليستقر في مدينته طبيباً وكاتباً من دون أن يغادرها إلا في رحلات قصيرة إلى مختلف مدن العالم، فكان "أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع حضري عرفته البادية"، وفقاً لتوصيف نزار قباني له.

هكذا، تحوّل هذا المثقف العضوي بامتياز إلى أيقونة للمدينة مثله مثل الجسر العتيق على كتف نهر الفرات - قبل أن يفجّره التكفيريون - من دون أن تحيد بوصلته عن جهة الشمال الصحيحة مرّة واحدة. وعلى الرغم من الأوسمة والتكريمات التي نالها من جهاتٍ رسمية، فإنه كان يجد في الأوسمة الشعبية بهجة لا توصف، كأن يُطلَق اسمه على معظم مواليد المدينة تيمناً بفضائله، أو أن تردّد عاملات قطاف القطن أغنية تحمل اسمه "غربي طاحونة عيّاش/حسْ النجر بالليلي/واني دخيل الدكتور عبد السلام العجيلي".

تتكشّف سيرة العجيلي عن منجم سردي ثري في المستويين الحكائي والجمالي. فهو ما انفكّ ينبش في تفاصيل المجتمع البدوي وغموض الصحراء ومصائر بشر لفحتهم شمس الترحال والغيبيات، في قصص وروايات جرّب خلالها صاحب "المغمورون"، و"أرض السيّاد"، و"قلوب على الأسلاك"، تقنيات القص والرسائل والمذكرات والأحلام، ليتوّج أسلوباً حكائياً يمزج كل ألوان السرد، بما فيها الغرائبي والعجائبي والغيبي. 

وتنوّعت فضاءات معجمه التخييلي، إذ كتب الشعر والرواية والقصة وأدب الرحلات في نسيج فريد ومشوّق يمزج فيه السيري والبيئي ليكونا معاً جوهر اهتمامات هذا الكاتب الفذّ. لكن العجيلي، على رغم غزارته في الكتابة، فإنه ظل يردد أنه مجرد هاوٍ للأدب. لذلك، لم ينخرط في الوسط الثقافي مباشرة، بل وقف على مسافة تفصله عن الجميع بمقدار واحد.

هكذا بقي مخلصاً لمدينته النائية وأناسها القدريين في نصوص ستبقى علامة في السرد العربي، وخصوصاً لجهة استثمار مخزون التراث السردي العربي القديم، وتأثيث نصوصه ببيئة بدوية ومحلية خالصة، كأنه حكواتي معاصر يقتنص أكثر الحكايات فتنة وثراءً. 

في مراجعة سيرة ومواقف صاحب "السيف والتابوت"، لن نتردد في استعارة مقولة أنطونيو غرامشي في تعريف المثقف العضوي، ذلك الكائن المنغمس في هموم محيطه، من دون أن يكون حارساً لأي أيديولوجية بقدر عنايته في "إحراج اليقينيات والشعارات الزائفة".

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.