غسان النعنع يرسم "عيسى ابن الإنسان"

في العَمَلَين تكتنز الجماليات، ويتراكم البهاء، فما نشاهده ليس رسماً تقليدياً للأيقونات، ولا مجرد محاولة تصوير مشهديات مؤثرة من الإنجيل، بل ثمة اشتغال أعمق على المعنى، وتثوير المشهد بصرياً.

"إن ملكوتي حيث يجتمع منكم اثنان على حب، وعلى الإعجاب بما في الوجود من جمال وبهاء، وبما فيه من فرح غامر"، هذه العبارة من كتاب جبران خليل جبران "يسوع ابن الإنسان" تأتي بمثابة مدخل جيد للحديث عن معرض الفنان غسان النعنع في صالة جورج كامل بدمشق. حيث لا يخفى على أيٍّ ممن شاهده جمالية المشهدية التي حققها بالاتكاء على رؤية جبران المغايرة لسيرة المسيح، إذ جعلنا أمام روحانية مميزة في التصوير، بما فيها من فلسفة خاصة في التلوين مفعمة بالجماليات، مع إشباع الحالة التعبيرية التي تحار أمام زَمَنيَّتِها المستمرة، وطزاجتها وقدرتها على جذب عين المتلقي لإمتاعه بغموض تكوينها والفرح الكامن في تفاصيلها.

المعرض تضمن جدارية (8 م× 160 سم) ولوحة مقابلها. الجدارية تتضمن 3 مشاهد منفصلة متصلة، تُصوِّر في يمينها المرأة الخاطئة التي لم يستطع أحد أن يرميها بحجر، وفي المنتصف موعظة السيد المسيح على الجبل، يجلس في أسفلها جبران يقرأ في كتابه، وعلى يسار الجدارية تمثيل مميز للعشاء السري. بينما اللوحة المقابلة يعتلي فيها صاحب "الأجنحة المتكسرة" المشهد ويلقي كلماته أمام حشد من الجمهور.

في العَمَلَين تكتنز الجماليات، ويتراكم البهاء، فما نشاهده ليس رسماً تقليدياً للأيقونات، ولا مجرد محاولة تصوير مشهديات مؤثرة من الإنجيل، بل ثمة اشتغال أعمق على المعنى، وتثوير المشهد بصرياً، من أجل مقاربة ملحمية معاصرة لتلك الأحداث التي حصلت قبل أكثر من 2000 عام، وإعادة بث الحياة فيها من جديد، بكل ما تحمله من قيم المحبة والخير والسلام والجمال والحق، ونبذ الحقد والكراهية والعنف، وكل ذلك وفق مفهوم فكري بشَّرَ به صاحب "النبي"، يرى في يسوع "صياداً قديراً وروحاً جبلية لا تعرف الغلبة".

لتحقيق ذلك لجأ النعنع إلى تصوير المسيح بوجه حازم وبنية قوية، بعيداً من وداعته وهزاله المعروف في كثير من الأيقونات. كما صنع نورانيَّته الخاصة ببياض متوهِّج يلفع من حوله، ويمتد مرَّةً إلى قميص جبران عند قدمي يسوع، وأخرى إلى مائدة العشاء السري، وثالثة إلى ثياب المرأة الخاطئة، جاعلاً إياها من مادة النور ذاتها، بينما حشد البشر الآخرين فيغرقون في شفافيات لونية على خلفية من السديم، بينما وجوههم مليئة بالتضرع والخشية والانبهار والدهشة، فمثلما يوازن النعنع بين الكتلة والفراغ، فإنه يُحقق توازانته الدقيقة في توزيع اللون ونسب الإضاءة، محققاً انسجاماً مُبهراً بين عناصر لوحته، ويزيحها نحو رومانسية شفيفة تنطبع في ذهن المتلقي ببصمة خاصة للفنان النعنع لا تشابهها بصمة أخرى.

وبالمثل صنع في لوحة جبران قارئاً. إذ جعله في الأعلى محاطاً بهالة رمادية وبيده كتابٌ أبيض، بينما الجمهور في مستوى أدنى يرمقونه بنظرات الريبة حيناً، والاستسلام في أحيان أخرى، وضمن تدرجات لونية تبدأ من البنفسجي الغامق المُقارب للأسود في طرف اللوحة الأيسر، مروراً بالعديد من أطياف اللون البرتقالي، واختلاطاته مع الأبيض والترابي، يصوغ الفنان توليفته اللونية الآسرة، بينما يفصل جبران عن جمهوره بهالة أقرب إلى اللون الأصفر وكأنها غلالة شك بين ما يقرأه وأذهان المستمعين، وبالاقتراب من اللوحة واستشعار ملمسِها، تتوضح لطخات ريشة النعنع بكامل أناقتها ودِقتِها ورهافتها، فتبدو مع مسامات قماشها أقرب إلى نوتات موسيقية تتموضع على سلَّم الطيف اللوني، فاللون عند هذا الفنان هو لعبته الأثيرة، وتنغيماته التي يتردد صداها في كل ما يشتغل، ويتعزز ذلك من خلال تراتبية شخوص لوحاته بين الأمام والعمق، بين الأعلى والأسفل، ودوزنة الفراغ المحيط بنسب ضوء مدروسة، يكتسب معها كل جزء من اللوحة خصوصيته ومعناه وأهمية وجوده.

كما تبرز أهمية خيال النعنع في معرضه هذا على وجه الخصوص، ولعل مقارنة بسيطة بين السكيتش الذي رسمه تأسيساً لجداريته، وبين ما آلت إليه في النهاية، يُعطينا تصوراً واضحاً عن التفكير المستمر في لحظات العمل المديدة، وإعادة النظر في الفائض والناقض، في الأساسي وما يمكن إزالته، في مقامات اللون وجماليات التكوين وبلاغتهما، وقدرتهما على الرسوخ في ذهن المتلقي، في الجزء والكل وأدق التفاصيل، وأيضاً في آليات ترسيخ زمن المضارع المستمر ضمن العمل الفني، وتحقيق أقصى طاقاته الجمالية.

وللاطلاع أكثر على رؤية الفنان غسان النعنع وفلسفته الخاصة التقته "الميادين الثقافية" فقال: "اخترت الاعتماد على كتاب "عيسى ابن الإنسان"، لأن مسيح جبران أقرب إلي، فهو قوي غير مهتم بشكله وصفاته الخارجية، "لا يُمَشِّط شَعرَه غير الريح" كما يقول جبران، والأهم هو كونه إنسان لديه فكر يدافع عنه. أما بقية الأشخاص الملتفين حوله فآثرت ألا يكون لهم زمن محدد، كي ينالوا نوعاً من العمومية في إشارتهم إلى أي إنسان، لذلك لم أستقِ وجوههم من الأيقونات، وإنما من وجوه أناس قابلتهم وعلقت ملامحهم في ذاكرتي".

وعن آلية عمله أوضح النعنع أن جداريته استمر في الاشتغال عليها نحو 4 أشهر، إذ بدأها بسكيتشات سريعة بما يشبه دراسة للعمل، أحكم تكوينه، مع توزيع الفاتح والغامق، وغير ذلك، مبيناً أن هناك مشاكل قد تعترضه أثناء الشغل، فيحل جزءاً منها على الورق، طبعاً من دون أن يعني ذلك أنه لا يجري تغييرات على اللوحة خلال رسمه لها.  

وعند سؤالنا بأن فلسفته اللونية باتت بمثابة بصمة شخصية له، لا يخرج منها حتى لو تغيرت الموضوعات التي يشتغل عليها، قال: "أشتغل دائماً على تنويعات بلون واحد، أبدأ بلون ترابي (سيان) من دون أن أضيف له شيئاً، وعندما أضطر للون أغمق أضع له إضافات، لزيادة الدرجات، ومن ثم أضع ألواناً أخرى، وهذا يحقق وحدة لونية، يجوز أن ذلك مُكرر في أعمالي، لكنه يبقى شيئاً تقنياً خاصاً، فليس من الضرورة أن تختلف الألوان وصياغتها باختلاف الموضوع عندي، إلا إن اشتغلت مواضيع الطبيعة، حينها يتطلب ذلك تفكيراً مغايراً".