غسان مطر للميادين: بين السياسة والشعر.. أختار الشعر
غسان مطر شاعر وسياسي ومناضل لبناني، يحدثنا عن التزامه الفكري وتجربته السياسية، والعلاقة بين الشعر والسياسة، ومدى تأثير كل منهما في الآخر. وهذا ما كشفه.
-
غسان مطر
في مقابلته مع بيار أبي صعب، ضمن برنامج "على محمل الجدّ"، تحت عنوان "الأدب والسياسة"، والذي يُعرض عبر شاشة الميادين كل إثنين، قال الشاعر اللبناني، غسّان مطر، إن السياسة قد تكون عبئاً على الأدب، أو العكس، بحسب من يمارسهما. ورأى أن الأدب السياسي، إذا وُجد التزام فكري وإصلاح حقيقي، يمكنه أن يكون راقياً وجميلاً.
مطر، القومي السوري، والمناضل من أجل الزواج المدني، وعلمانية الدولة في لبنان، وإلغاء الطائفية، تحدّث عن بداياته والتزامه الفكري وتجربته البرلمانية، وصولاً إلى العلاقة بين الشعر والسياسة في حياته، ومدى تأثير كل منهما في الآخر.
وهنا نص المقابلة.
***
بيار أبي صعب: أستاذ غسان مطر، مناضل، رجل سياسي، قائد كبير في الحزب القومي السوري الاجتماعي، نائب في دورتين برلمانيتين، أي حياة سياسية كاملة، ومنخرط في القضايا والمواقف التي تعني شعوبنا، وفي الوقت نفسه، شاعر معروف وبارز.السؤال، كيف تعايشت فيك السياسة والشاعر؟ هل تعايشا بسهولة؟ هل أضرّت واحدة بالثانية أو غطت عليها؟ أم استفدت من حياتك السياسية لتغني تجربتك الشعرية، أو مشيا بطريقة متوازنة؟
غسان مطر: أولاً، علاقتي بالسياسة بدأت منذ تفتح وعيي، والتزامي فكر أنطون سعاده، وخصوصاً المبادئ الإصلاحية التي طرحها، والتي تعدّ السياسة فن بناء المجتمع الصالح. وهذا العمل المتواصل على مدى سنوات، قبل أن أدخل المعترك مباشرة، أي قبل أن أترشح للانتخابات النيابية، هذا المخزون الفكري النفسي كان هو الخزان الذي نبع منه شعر، يعني كان هناك ترابط وجودي عضوي بين قناعاتي السياسية ونتاجي الشعري.
لم أشعر في حياتي بأن هناك فصلاً بين الأدب والسياسة. فالسياسة في خدمة الأدب، والأدب في خدمة السياسة. الحقيقة أنه عندما ينظر الفرد إلى مجتمعنا اللبناني والعاهات الموجودة فيه، يتصور أنه من خلال الموقع الذي يحتله، كنائب أو كوزير أو كمسؤول، يستطيع أن يغير هذا الواقع انسجاماً مع قناعاته الفكرية، لكن أنا من الذين أصيبوا بإحباط كبير. إذ إن كل الاقتراحات التي تقدمت بها إلى المجلس النيابي بشأن إلغاء الطائفية مثلاً، وسن قانون جديد للأحزاب، وعدم تدخل رجال الدين في القضاء والسياسة، والزواج المدني وعلمنة الدولة، كل هذه الاقتراحات وُضعت في الخزائن، حتى إنها لم تُطرح على اللجان. كنت في زيارة للمرحوم الرئيس إلياس الهراوي، قال لي: أنت مجنون، قلت له: لماذا أنا مجنون؟
قال لي: كل هذا الكلام لا يُعمل به في لبنان. لذلك، خفف هذه الحدة، فقلت له إن هذه قناعاتي فخامة الرئيس وأنا أعمل بموجب قناعاتي.
لذلك، عندما يكون الإنسان ملتزماً فكراً معيناً، فكراً إصلاحياً تغييرياً، لا يمكن إلا أن يمتلك موهبة معينة في الكتابة، الشعر، القصة، الرسم، أو الموسيقى... إلى آخره. لا يمكن إلا أن يكون هناك نوع من الوحدة بين الأدب والسياسة. السياسة هي ميدان أو خزان لخلق المواضيع الأدبية الشعرية، والأدب هو انعكاس لهذه القناعات السياسية.
برأيي، السياسة ليست البحث عن موقع إلا إذا كان هناك هدف وغاية من وراء هذا الموقع، غير الأهداف والغايات التي يتبناها رجال السياسة في بلادنا أو في مجتمعاتنا الشرقية بشكل عام. أنت تعلم أن الإقطاع مثلاً يحتكر العمل السياسي في أكثرية المناطق اللبنانية، هو بقايا القرون الوسطى، ونرى أن الأحزاب الدينية الطائفية هي أيضاً تحتكر العمل السياسي والتنظير السياسي في كل المجالات، وتدخل رجال الدين في السياسة والقضاء هو شأن من شؤون خراب وحدة المجتمع. لذلك، عندما تطرح مشروعاً أو اقتراح قانون لسن قانون جديد لنشوء الأحزاب، تتفاجأ بأن كل الناس ضدك، كل الناس ضدك حتى المسؤولين الذين قدمت لهم الاقتراح لا يعيروه اهتماماً، وينظرون إليك كأنك من خارج هذا الكون مع الأسف الشديد.
اتفاق الطائف جاء مباشرة بعد انتهاء الحرب، رؤساء ميليشيات تلك الحرب هم الذين تسلموا البلد، ولا يزالون هم الذين يقررون مصيره. الانقسام العمودي القائم بين القوى السياسية في لبنان لا يسمح بالعمل السياسي المنتج إذا كان إصلاحياً، بل يسمح بتعيين قاض أو ضابط أو موظف، يمكنك أن تعين مديراً عاماً، أما أبعد من ذلك فمستحيل. لذلك، فإن الفساد الذي ينخر مجتمعنا هو نتيجة هذه التركيبة، واستناداً إلى تجربتي، فمن الصعب، بل من المستحيل التغيير، إلا إذا حدثت معجزة من رب العالمين.
بيار أبي صعب: هل السياسة تثقل على الأدب؟ هل يشكل ذلك خطراً في أن تحوّل الأدب إلى أدب تثقيف وتوعية من دون البعد الجمالي، أي أدب البروباغندا السياسية؟ أم أن الأدب يرتقي بالسياسة، فتصبح الأخيرة فناً نبيلاً؟
غسان مطر: بحسب من يتعاطى السياسة ومن يتعاطى الأدب، أحياناً تكون السياسة كارثة على الأدب، وأحياناً يكون الأدب ضحية السياسة. أما عندما يكون هناك التزام بفكر معين، يصبح هذا الزواج بين الأدب والسياسة زواجاً شرعياً. يعني لا تستطيع أنت كشاعر أو ككاتب أو كفنان أن تختار مواضيعك إلا من خلال فكرك السياسي. هذا الفكر التغييري الإصلاحي. ولذلك، إذا وجدت الموهبة فعلاً، فتستطيع أن تقدم الأدب السياسي، إذا سميناه أدباً سياسياً، وهو كذلك، تستطيع أن تقدم الأدب السياسي بأجمل الحلل. لكن، إذا غاب الفكر التغييري الإصلاحي في السياسة عند السياسي، فتصبح السياسة منافع، ويصبح الأدب شعارات. مع الأسف، أنا لا أريد أن أتجنى على كل الأدباء وكل السياسيين، لكن أنت تلاحظ، وأنت في هذا المعترك، أن أكثر الذين يتعاطون السياسة في البلد، ويحاولون التعبير أدبياً عن هذا التعاطي، لا ترى فيما يكتبون سوى شعارات لا أكثر ولا أقل، والعكس أن الأدباء الحقيقيين إذا تعاطوا السياسة، ولم يكن عندهم فكر إصلاحي تغييري، هذا التعاطي يؤثر في أدبهم كما يؤثر في عملهم السياسي. إذاً، الموضوع يعود إلى طبيعة الشخص الأديب الذي يتعاطى السياسة، أو السياسي الذي يتعاطى الأدب.
بيار أبي صعب: هل تتذوّق وتستمتع بأدب لا يحمل فكرة؟ أي لشعراء جماليين شعراء برناسيين، شعراء الفن للفن؟
غسان مطر: كثيرون يقولون إنني رجعي، إذ لا أعدّ الأدب حالة سريالية، أو حالة "قل ما تشاء" شرط أن تتقن اللغة وتجيد تركيب مصطلحات أو تعابير لغوية. بنظري، هذا لا يعنيني، ما يعنيني هو الإنسان وقيمه وتمجيده للحياة بما فيها من رؤية ونبل وعطاء. خارج هذا الإطار، أنا كتبت غزلاً في بدايات حياتي عندما كنت مراهقاً، وبعد ذلك طلقت الغزل، ودخلت في معترك الأدب كفن ومنارة وليس كمرآة. نحن دائماً نقول إن الأدب هو مرآة الشعوب، أنا أرى أن الأدب هو منارة الشعوب وليس مرآة لحياة الشعوب. من هنا، كتاباتي بنسبة 95 أو 98% هي بشأن قضايا تهم الناس جميعاً، يعني أنا من المؤمنين مثلاً بأنه كلنا مسلمون لرب العالمين، منا من أسلم بالقرآن ومنا من أسلم بالإنجيل، ومنا من أسلم بالحكمة، ولا عدو لنا في وطننا وديننا إلا اليهود. حسناً، إذا كانت هذه قناعاتي، عندما أكتب، فماذا سأكتب؟ وعندما أطالب سياسياً بمَ أطالب؟ أطالب بأن تكون العلاقة مع الله عمودية، والعلاقة مع الناس أفقية.
عندما تقع أحداث كبيرة مثلاً، عندما يهاجم العدو الإسرائيلي بلادك ويقتل ويدمر... إلى آخره، وأنت تقعد وتتفرج وتكتب لي عن البحر وعن السماء وعن النجوم وعن القمر. هذا ليس وارداً عندي. في حرب تموز عام 2006، خلال الحرب التي استمرت 36 يوماً، كتبت مجموعة "لمجدك هذا القليل"، وهي مجموعة كاملة فيها تصوير لهذه الحرب، وتمجيد للدور البطولي الذي قامت به المقاومة في مواجهة العدوان الإسرائيلي. وعندما وقعت حرب العراق، كتبت مجموعة عن العراق. فلا يمكن أن تكون صاحب فكر معين ولديك قناعات فكرية ولا تكتب إلا من خلال ما تقدم هذه القناعات من نار في داخلك.
بيار أبي صعب: شعراء آخرون تركوا الشعر، كمال خير بيك كتب "وداعاً أيها الشعر" وانتقل إلى العمل الفدائي.
غسان مطر: طبعاً
بيار أبي صعب: سؤال أخير، إذا خُيّرت، طبعاً الخيار صعب، ونحن فهمنا عندك أن التداخل تام، ولكن إذا خُيّرت بين أن تكون سياسياً وأن تكون شاعراً، فماذا تختار؟
غسان مطر: أنا ولدت شاعراً وأصبحت سياسياً، فلا أستطيع أن أخون ولادتي.أصلاً، أنا بتجربتي لا أستطيع الفصل، ولكن إذا خُيّرت فأنا أختار الشاعر ولا أختار السياسة.