غياب "الثقافة" أم تغييبها؟

في بلاد تعاني من مشكلات حيوية، تغدو وسائل الإعلام منابر ضرورية للمساهمة في التنوير المُلِحّ والمطلوب، عِوَض أن تكون منابر للتحريض وبثّ سموم الفتن والتفرقة.

  • التثقيف ليس مسؤولية مهنية فقط، بل أيضاً مسؤولية إنسانية
    التثقيف ليس مسؤولية مهنية فقط، بل أيضاً مسؤولية إنسانية

يشكو كثيرون من ندرة البرامج الثقافية، ليس فقط في الفضائيات العربية، بل لدى كثير من المؤسسات والهيئات والجهات القادرة على دعم الإنتاج الثقافي بأوجهه المختلفة. ولئن كان الكوكب برمّته يشهد مرحلة انحطاط غير مسبوقة، تتقدّم فيها التفاهة والسطحية على كل ما عداهما، فإنّ هذا لا يعفينا، بل على العكس يلقي على كواهلنا أثقالاً مضاعفة ومسؤوليات جساماً. إذ لا نعتقد أن أمةً تستطيع النهوض والتقدّم ما لم تحترم ثقافتها ومثقفيها، بل ما لم تحترم الثقافة الإنسانية كلها، خصوصاً وأنّا بتنا نعيش عصراً تتداخل فيه الثقافات وتتلاقح بشكل غير مسبوق. ولا غلو في القول إن أبرز أسباب الجحيم الذي وقعنا فيه هو عدم إيلائنا الثقافة بما تعنيه من علِم وفكر وأدب وفنّ الأهمية الواجبة والضرورية.

وإذا كان تقدّم الأمم لا يُقاس فقط بتطورها الاقتصادي والتكنولوجي، بل بمدى إنتاجها الإبداعي فكراً وعلماً وأدباً وفناً، فإن شاشاتها المرئية تعكس واقع حالها في هذا المجال، وفي كل مجال. لذا كلما تابعنا برنامجاً ترفيهياً من برامج "الترفيه" التلفزيونية الدارجة هذه الأيام، خطر في بالنا سؤال لماذا لا تنفق الفضائيات العربية على البرامج الثقافية غيضاً من فيض ما تنفقه على التسلية والترفيه التي تكلفها ملايين الدولارات؟ أو مما تنفقه على برامج التحريض السياسي والطائفي وتثوير العصبيات القاتلة، التي ساهمت في تدمير بلادنا وتفكيك نسيجها الاجتماعي ولحمتها الوطنية.

دعوتنا الدائمة إلى زيادة مساحة البث الثقافي في الفضاء التلفزيوني، وفي الفضاء العام، من المدرسة إلى الجامعة إلى ميادين الحياة كافة، لا تعني معارضتنا برامج التسلية والترفيه أو إدانتها، على العكس تماماً، نعتبرها ضروريةً للمشاهِد ضرورةَ الثقافة نفسها، خصوصاً في هذا الجزء من العالم حيث الحروب الطاحنة والأزمات الشائكة والضغوط اليومية تجعل حاجتنا ماسّة الى فسحة تنسينا، ولو قليلاً، بعضاً من همومنا وشجوننا، وتبلسم بعض أوجاعنا ولو لسويعات.

ما نأخذه على هذا النوع من البرامج، يتمحور حول طبيعة ما يُقدَّم تحت مُسمَّى الترفيه، فيما الترفيه بريء منه براءة الذئب من دم يوسف، وغياب التوازن بين التثقيف والترفيه في الإنتاج والبثّ التلفزيونيين، لا سيما أننا بتنا في عصر لم يعد يجدي فيه المنع والقمع ولا الرقابات الغبية المتخلفة، وهذا يضع على عاتق العاملين في مجال البثّ العام المزيد من المسؤوليات التثقيفية والتربوية، بعيداً من أسالييب الوعظ والإرشاد الجافة والمتحركة، وابتكار طرائق ووسائل جاذبة للأجيال الشابة التي يتفتّح وعيها على الميديا الحديثة والتكنولوجية الذكية.

ثمة مَن يعتبر أن تثقيف الناس ليس وظيفة التلفزيون الذي هو أداة تسلية وترفيه بالدرجة الأولى. هذا قول فيه جانب من الصحة، لو كانت مجتمعاتنا مستقرة مزدهرة متجاوِزة لكثير من مشاكلها وأزماتها، لكن في بلاد تعاني من مشكلات حيوية، مثل الأمية والبطالة والفقر والتطرف والإرهاب، تغدو وسائل الإعلام منابر ضرورية للمساهمة في التنوير المُلِحّ والمطلوب، عِوَض أن تكون منابر للتحريض وبثّ سموم الفتن والتفرقة، كما حصل ويحصل.

أليس غريباً ومريباً أن يكون عدد الفضائيات العربية أكثر من ألفي فضائية، فيما البرامج الثقافية تُعد على أصابع اليد الواحدة؟ لسنا من الذين يحبذون إلقاء كل مشاكلنا على نظرية المؤامرة، لكن يحق لنا الاستغراب حين يتلكأ أصحاب المال من مالكي الفضائيات، وشركات الإنتاج، الإعلان عن توظيف قرش واحد في البرامج الثقافية الجدية والعميقة، التي تحترم عقل المشاهد العربي وتُخاطِب وعيه لا عصبياته. في أحسن الأحوال، يمكننا القول إن هذا الخلل والتقصير ناجمان عن الجهل أو التجاهل لقيمة الثقافة ودورها في حياة الأمم، وفي الحالين الطامة كبرى.

يذهب البعض إلى القول إنّ أصحاب الرساميل المالية يتجنّبون الاستثمار في الثقافة، لأنّها غير جذّابة للمشاهدين والمعلِنين على السواء. قد يكون في هذا القول بعض الصحة، لو اعتبرنا أنّ البرنامج الثقافي لا يمكن أن يكون إلا وفق الصورة النمطية المرسومة في الأذهان: مذيع متجهّم يتحدّث بلغة قاموسية مقعَّرة، وضيف يردِّد كلاماً نخبوياً غامضاً مبهماً. هذه صورة قديمة ومتخلفة للبرنامج الثقافي التلفزيوني، الذي ينبغي تحديثه وتطويره ليواكب المستجدات في عالم الميديا الحديثة.

البرامج الثقافية التي نفتقدها ليست فقط برامج الأدب والفنّ، بل أيضاً برامج تناقش أزماتنا ومشاكلنا بعيداً من الخطاب السياسي السطحي الممجوج والمشروخ، وبعيداً من صراع الديكة الذي يساهم في التجهيل لا التنوير، برامج تطرح بصراحة وشفافية وعمق أسباب الأمية والجهل والبطالة والفقر والتطرف والإرهاب، تناقش لماذا يتراجع منسوب القراءة عند العرب ويرتفع منسوب الاستهلاك؟ لماذا تغيب مراكز البحث العلمي التي لا يمكن التقدّم قيد أنملة من دونها؟ لماذا تتخلّف مناهج التعليم ولا تواكب المستجدّات في العالم؟ لماذا لا يحظى المبدعون العرب بما يستحقون من اهتمام؟ لماذا لم تصل (مثلاً) السينما العربية الى العالمية إلّا نادراً؟ لماذا تراجع مستوى الغناء العربي شكلاً ومضموناً؟ ما هي أهمية المصطلحات في ترسيخ المفاهيم؟ ما هو تعريف الإرهاب والمقاومة والثورة والحريّة؟ متى يكون فعلٌ ما إرهاباً ومتى يكون مقاومةً وثورة؟ وقبل كل ذلك؛ لماذا عجزت مجتمعاتنا عن بناء الدولة الوطنية الحديثة؟ وأي مسؤولية للاستعمار والاستبداد في ذلك؟ وسواها من قضايا جديرة بأن توضَع على بساط البحث، لأنّ غيابها يساهم في تغييب العقل العربي، وإعلاء صوت العصبيات والغرائز المميتة.

بعض صنّاع المادة التلفزيونية يكتفي من الإنتاج الثقافي ببعض برامج المعلومات العامة، مثل برامج المسابقات، أو المنافسات الشعرية على لقب من هنا وآخر من هناك. هذه برامج جيدة تتضمّن جانباً ثقافياً، لا بأس بها ولا بُدَّ منها، لكنّها لا تمثّل البديل عمّا نقترحه ونطالب به. إذ من الواجب والضروري أن تتسع شاشة التلفزيون لأصوات المبدعين العرب، من مفكِّرين وأدباء وشعراء وكُتّاب مسرح ودراما، ومختلف العاملين على إنتاج نص إبداعي عربي، وما أكثرهم، لكنّهم للأسف مغيَّبون، لأنّ المطلوب - كما نستنتج - تغييب العقل العربي. إذ كيف يمكن لمشاريع الفتن والتجزئة والتقسيم أن تمرّ لو كان العقل العربي حاضراً ناضراً واعياً مدركاً لما يدور حوله، ويدور ضده؟ متى غاب العقل غاب الوعي والإدراك.

لا خلاص مما نحن فيه بغير تراكم الوعي والمعرفة. وللإعلام بأوجهه المختلفة، التقليدية والحديثة، وللمؤسسات الفكرية والعلمية دور في هذا التراكم، لا يجوز تغييبه أو تجويفه كما يحصل الآن. لا تتقدّم الأمم ما لم تحترم عقلها، وخير مَن يُعبِّر عن العقل الجمعي للمجتمعات هم المبدعون، فكراً وأدباً وفناً. ولن نمل من التكرار أن المطلوب من تلك الشاشات والمؤسسات على اختلافها بعض التوازن بين الترفيه من جهة، والتثقيف من جهة ثانية، وهذه ليست فقط مسؤولية مهنية، بل أيضاً مسؤولية إنسانية.