في أقدم كنائس العالم.. ما قصة زنار مريم العذراء المقدس؟

كيف وصل زنار السيدة مريم العذراء المقدّس إلى حمص السورية؟ وما قصة الكنيسة التي حملت اسمها؟

 

بينما كان القديس توما - أحد رسل السيد المسيح - في الهند يبشّر بالمسيحية، وصل إليه خبر وفاة السيدة مريم العذراء، وأن الملائكة حملوا جسدها نحو السماء، فطلب القديس دليلاً على حمل الملائكة رفات مريم ورؤيتهم لذلك، فأرسلوا إليه زنّارها المقدّس؛ احتفظ توما بالزنار، وبقي معه حتى وفاته في الهند، وفقاً للمدوّنات المسيحية.

بعد ذلك، تمّ نقل رفات القديس توما والزنار من الهند إلى منطقة الرها في نهاية القرن الرابع الميلادي، وبعد 100 عام تقريباً افترق الزنار المقدّس عن القديس توما، حيث وُجد مع رفات مار باسوس، وهو قديس سرياني استشهد وأخته مارت شوشان، وطائفة من المسيحيين، على يد أبيهم غير المؤمن "أبا زرد". لكن المدوّنات المسيحية لم تفسّر كيف انتقل الزنار من القديس توما إلى مار باسوس، وكيف وصل الزنار لاحقاً إلى مدينة حمص السورية، وتحديداً إلى كنيسة "السيدة العذراء"، والتي سُمّيت لاحقاً "أم الزنار" نسبة إلى الزنار المقدّس، حيث تعددت الروايات حول تلك القصة.

في حيّ الحميدية بمدينة حمص وسط سوريا، تقع كنيسة "أم الزنار" التي تعدّ واحدة من أقدم كنائس العالم على الإطلاق. إذ بُنيت على يد إيليا - أحد رسل السيد المسيح - في القرن الأول الميلادي عام 59، أي بعد وفاة السيدة العذراء بنحو 3 سنوات.

المعلومات التاريخية تؤكد أن الكنيسة الأساسية توجد تحت أرض البناء الحالي بنحو 7 أمتار، ويوجد إلى جانبها نبع ماء بعمق 20 متراً، وهي أشبه بقبوٍ أو كهف صغير تحت الأرض، كانت تجري في داخله طقوس العبادة المسيحية سرّاً في تلك الفترة، بسبب خوف المسيحيين من بطش الحكم الروماني للمتديّنين، لذلك كانوا يمارسون شعائرهم في الجبال والكهوف والأقبية تحت الأرض.

الأب طوني يعقوب، كاهن كاتدرائية السيدة العذراء "أم الزنار"، تحدّث لـ "الميادين الثقافية" عن تاريخ الكنيسة وارتباطها بانتشار المسيحية داخل سوريا منذ القرن الأول الميلادي، عندما وصلت المسيحية إلى حمص عن طريق الرسول "إيليا المبشّر".

وتحدّث الأب يعقوب عن أقسام الكنيسة المتعدّدة، وهي:

الكنيسة الصغيرة: عبارة عن كهف تحت الأرض، لكن لا يوجد فيه أي مدلول مسيحي، نظراً لأن المسيحيين في تلك الحقبة الزمنية كانوا يتعرّضون للاضطهاد ويخشون انكشاف أمرهم، لذلك كانوا يخفون مخطوطاتهم ومدلولاتهم المسيحية.

الميتم السرياني الأرثوذوكسي: يعود تاريخ بنائه لمنتصف القرن الماضي، بهدف تقديم الرعاية للأطفال الأيتام من حمص وبعض المناطق الأخرى، لكن هذا الجزء تعرّض لبعض التدمير خلال الحرب وتمّ إغلاقه.

المقرّ الأساسي الكنيسة: وهو المكان الذي تُقام فيه الصلوات والقداديس على مدار العام.

في الكنيسة أيضاً قسم خاص بالكشّافة، إضافة لـ"مقر البطريركية"، حيث كانت الكنيسة خلال القرون الماضية مقرّاً للبطريركية قبل أن ينتقل لاحقاً إلى دمشق.

ومن العجائب الفريدة الموجود في كنيسة "أم الزنار" ما يُعرف بـــ "البئر العجائبية" الموجودة في الجزء الشمالي من الكنيسة؛ وعن قصة هذه البئر يقول الأب يعقوب: "في العام 1903 تعرّضت مدينة حمص لمرض الطاعون ما تسبّب بوقوع عدد كبير من الوفيات، وفي تلك الفترة ظهر طيف للسيدة العذراء على باب الكنيسة ففاضت ماء البئر، وانسكبت المياه في أرض الكنيسة ووصلت إلى الشوارع المحيطة بها، وبعد ذلك بدأ الأهالي بشرب الماء من البئر، والكثير منهم شفوا ببركة السيدة العذراء".

اكتشاف مكان الزنار المقدّس

عام 313 ميلادية، عمد المسيحيون في حمص إلى تشييد كنيسة كبيرة فوق الكنيسة الأصلية الموجودة تحت الأرض، حيث استعملوا في بنائها الحجر البازلتي الأسود الذي تشتهر به مدينة حمص، كما سقفوا الكنيسة بالخشب، ويُقال في بعض المدوّنات المسيحية إن الزنار وصل إلى الكنيسة سنة 476 للميلاد مع الأب داود الطور عابديني، لكنه ظل مخفياً لسنوات طويلة من دون أن يعثر عليه أحد.

عام 1852، قام المطران يوليوس بطرس بعملية ترميم واسعة للكنيسة، حيث ردم السقف الخشبي وبعض الجدران، وأشاد مكانها الكنيسة الحالية القائمة على 16 عموداً ضخماً، منهم 8 أعمدة وسط الكنيسة والباقي ضمن جدرانها، كما أقام في وسطها قبة نصف أسطوانية مزخرفة.

عام 1901، تمّت إضافة عمود جرس الكنيسة الحالي، وفي العام 1910، جُدّدت الكنيسة بأمر من السلطان العثماني محمد الخامس.

في العام 1953، وبينما كان الحبر الأعظم بطريرك السريان الأرثوذوكس، أغناطيوس أفرام، يقرأ في المدوّنات والمخطوطات عثر على أوراق تحدّد مكان وجود زنّار السيدة العذراء، حيث وجده في علبة أسطوانية من الفضة المتأكسدة كانت في جرن ضمن مذبح الكنيسة، وبعد ذلك عمد الحبر إلى عرضه في مزار صغير مجاور للكنيسة، وصار غاية تُقصد، ويحُجّ إليه المسيحيون من شتى أنحاء العالم.

الباحث التاريخي، فايز زكور، يوضح في حديث مع "الميادين الثقافية" أن كنيسة "أم الزنار" مبنية من الحجر البازلتي الأسود، الذي تشتهر به حمص منذ مئات السنين، حيث يتقن أهالي المدينة تحويل الكتل الحجرية الصمّاء إلى لوحات معمارية جذّابة، ولذلك اعتُمِد على هذه الحجارة في التصميم المعماري للكنيسة، والذي جرى على عدة مراحل وفي أزمنة مختلفة، بدايةً من العام 1852 عندما تمّ إنشاء الهيكل العام، ولاحقاً في العام 1901 حينما تمّ إنشاء قبّة الجرس، بينما رصف البلاط الحجري البازلتي لأرض الكنيسة في العام 1904.

ولفت زكور إلى أن مدينة حمص ترتبط بشكل وثيق بالحجر البازلتي، حيث يوجد حيّ داخل المدينة اسمه "تلة الحجارة"، إضافة إلى أن أكثر من 15 عائلة تمتهن البناء بهذا الحجر إلى اليوم، لذلك كان اختيار البازلت لبناء الكنيسة تعبيراً عن ارتباطها بحمص، وتعبيراً عن جذور المسيحية في تاريخ المدينة.

الكنيسة تعود إلى الحياة مجدداً

حيّ "الحميدية" في حمص يقع إلى جانب حيّ "الخالدية" الذي شهد معارك عنيفة بين الجيش السوري والفصائل المسلحة عند بداية الحرب السورية، وامتدت نيران المعارك إلى موقع الكنيسة حيث كانت هدفاً للفصائل، التي عمدت إلى استهداف مراكز العبادة الإسلامية والمسيحية، إضافة إلى سعيها لتهجير المسيحيين من أرضهم، ونتيجة الوضع الأمني في تلك الفترة تضرّرت كنيسة "أم الزنار" بشكل كبير، حيث تعرّض سقف الكنيسة للتدمير الكامل، واحترقت أجزاء منها، وكذلك اضطرّت إلى إجلاء قسم كبير من رعاياها إلى المناطق الأكثر أماناً شرق حمص.

رغم ما تعرّضت له الكنيسة خلال السنوات الماضية من تدمير، إلا أنها عادت بعد الترميم لتؤدّي دورها الإنساني والاجتماعي عبر مشاريع ومبادرات خيرية توزّع فيها الألبسة والأطعمة وغيرها على المحتاجين، وهذه الأموال يساهم فيها متبرّعون من داخل سوريا وخارجها، بهدف دعم الفئات الفقيرة والتي كانت ضحية للحرب.

القاضي فارس صطوف من أهالي حيّ الحميدية بحمص القديمة تحدّث لـــ "الميادين الثقافية" عن تاريخ الكنيسة الذي يعود إلى العهود الأولى لانتشار المسيحية في العالم، وفي تلك الفترة كانت الكنيسة عبارة عن كهف تحت الأرض يمارس المسيحيون فيها طقوسهم الدينية في الخفاء، قبل أن يتم بناء كنيسة أكبر فوق الأرض في وقت لاحق، وفي العام 1852 تمّ تجديد الكنيسة بشكل كامل، وحافظت على هندستها المعمارية حتى اليوم.

وعن فترة الحرب، أشار صطوف إلى أن الكنيسة تعرّضت لأضرار كبيرة، نتيجة المعارك العنيفة في أحياء حمص القديمة، حيث أدّت الأوضاع الأمنية في تلك الفترة إلى نزوح عدد كبير من الأهالي بعيداً عن المنطقة، وأقفلت الكنيسة أبوابها أمام الزائرين، واستمرّ ذلك حتى تحرير المنطقة من قبل الجيش السوري، لتبدأ بعد ذلك عمليات الترميم والتأهيل للكنيسة، وسرعان ما عادت لتفتح أبوابها مجدّداً لإقامة الصلوات واستقبال الزوّار.

اليوم، عادت الحياة إلى مدينة حمص بشكلٍ عام وإلى كنيسة "أم الزنار" بشكلٍ خاص، كما بدأت الحركة السياحية تتحسّن تدريجياً. إذ تستقبل الكنيسة بشكل يومي وفوداً من الزائرين من مختلف المحافظات السورية، ومن بعض الدول العربية والأجنبية، وخاصّة في عيد الكنيسة يوم 15 آب/أغسطس الذي يشهد توافد أكبر عدد من الزائرين، وهذا اليوم يصادف ذكرى انتقال السيدة العذراء إلى السماء، وبهذه المناسبة تقوم الكنيسة بإخراج الزنار حتى يراه الناس ويتباركون به، وهي المرة الوحيدة التي يُخرَج بها الزنار المقدّس خلال العام.