في مصر.. التاريخ ينادي من الأعماق

حتى منتصف آذار/مارس الجاري، يواصل معرض "صدى الأعماق" فعّالياته في مكتبة الإسكندرية، ويروي قصصاً حول التراث المغمور بالمياه.

في أعماق البحر الأحمر، يصادف الغوّاصون ثروات غارقة وأموالاً منثورة في القاع. تتراقص الشعاب المرجانية وتحتضن أسراراً تاريخية عميقة، كأنها قصائد حب مكتوبة بأعماق الزمن. تتناثر الذكريات على شواطئ البحر الأحمر، حيث يبقى صدى أصوات البحّارة وأنغام الأمواج المتلاطمة.

ويروي حطام السفن الغارقة قصصاً مفعمة بالحب والمغامرة، وتروح بنا في رحلة إلى الماضي البعيد، حيث يجتمع الأحباء في أحضان البحر وتتداخل أقدارهم بلحنٍ رومانسي. هذا ما قدّمه معرض "صدى الأعماق" الذي احتضنته مكتبة الإسكندرية بدءاً من الخميس الماضي ويستمر حتى 16 آذار/مارس الجاري.

افتتح المعرض بندوة ألقاها عماد خليل، أستاذ كرسي "اليونيسكو" للتراث الثقافي المغمور بالمياه؛ ليعرض أهمية استكشاف التراث الإنساني والحفاظ عليه والذي يغمر حطام العديد من السفن التي تمتلئ بالحياة البحرية المفعمة بالألوان والجمال. 

وتخلّل الندوة عرض لمشاهد تصوير السفن الغارقة في البحر الأحمر وقصة كل سفينة فيه، والمخاطر التي يتعرّض لها حطام تلك السفن التي من المفترض أنها تنتمي للتراث الإنساني ويجب الحفاظ عليه، هكذا تمّ استعراض صورة 10 سفن غارقة هي كارناتيك عام 1869، كينغستون 1881، دنرافين 1876، يوليسيس عام 1887، ثيستلجورم 1941، كيمون- إم 1978، كريزولا-ك 1981، الـمنيا 1970، سالم إكسبرس 1991، وجيانيس-دي 1983. وأسباب غرق كل منها. فمنها ما غرق نتيجة لقصف عسكري مثل "ثيستلجروم ومنيا"، ومنها ما غرق نتيجة الاصطدام بحيد بحري مثل شِعب أبي نحاس المرجاني.

ووفقاً لخليل فإن الحفاظ على هذا التراث يقع على مسؤولية الجهات الرسمية والأفراد أيضاً، سواء القائمين على تنظيم نشاط الغطس كنشاط سياحي أو حتى هواة رياضة الغطس، حتى لا يتعرّض هذا الحطام لخطر التدمير الكامل.

ومن أبرز المخاطر التي تهدّد هذا الإرث، الأنشطة البشرية القانونية منها وغير القانونية. فنشاط الغطس بهدف السياحة يعرّض بيئة قاع البحر الآمنة للخطر ومنها الشعاب المرجانية المهدّدة بالاختفاء، أو حتى أجسام الحطام الراسي في قاع البحر بسبب إلقاء مراسي يخوت الغطس، أو بفعل لمس الغطّاسين لمحتويات الركام.

وأضاف خليل أن الأنشطة غير القانونية تشكّل خطراً كبيراً على مكوّنات ومحتويات السفن الغارقة. فقد تمّت سرقتها بالفعل. وهذا ما يلاحظه معتادو الغطس عند التصوير ليكتشفوا اختفاء أجزاء من الركام. كما أن هذه المواقع لم تسلم من الباحثين عن الكنوز والذهب؛ وقد تتعرّض المراكب كلّها لسرقة جسد السفينة خاصة لو كان الجسد معدنياً، ليتمّ تقطيعها وبيعها من دون أن يدري أحد.

من جانبه، عبّر هولجر بوس؛ صاحب المشروع، والمتخصص في التوثيق الرقمي ثلاثي الأبعاد في الجزء الثاني من الندوة، عن حبّه لتوثيق هذا التراث الذي يساعد في فهم التفاعل بين الشعوب.

واضاف أن هذا الحب هو الذي حرّكه للقيام بالتصوير والتوثيق، ثم إعداد نماذج مصغّرة "ماكيت" لكلّ موقع من الحطام على نفقته الخاصة عن طريق طباعة 3D، لافتاً إلى أهمية هذا التوثيق كمرجعية لحالة الركام لمعرفة التغيّرات الحاصلة فيه نتيجة النشاط البشري في المنطقة.

وشهد المعرض أيضاً عرض صور للعبّارة "سالم إكسبرس" وشرح تاريخها وأسباب غرقها وكيفية الغرق، حيث استغرقت عملية الغرق 20 دقيقة فقط لتسقط في القاع ومعها أحلام وآمال أكثر من 800 شخص.

وحول حماية هذه الكنوز القابعة تحت الماء، أكد خليل، أنها غير متوفّرة حالياً لكونها لا  تعتبر من الآثار لعدم مرور 100 عام على أقدمها. لكنه أشار إلى ضرورة التعامل مع هذه المواقع حالة بحالة وفقاً لمنهج إدارة موقع الإرث الإنساني. فهناك أماكن يجب وقف نشاط الغطس فيها كليّاً، فضلاً عن أماكن أخرى كل ما تحتاجه عدم ربط يخوت الغطس بها.

وبسؤاله عن دور الدولة، ذكر أستاذ كرسي "اليونيسكو" للتراث الثقافي المغمور بالمياه، أنه تمّ طرح مشاريع عديدة لوضع هذه المناطق تحت إدارة وحماية الدولة؛ وهناك سبق من وزراة الثقافة بوضع إحدى هذه السفن تحت حماية الوزارة. لكن هذا لا يمنع أن حماية السفن القابعة في قاع البحر الأحمر أمر مكلف جداً ويحتاج لتضافر جميع الجهود.

وأوضح خليل أن قيمة هذا الإرث ليس في كونه مورداً سياحياً ضخماً فحسب، بل التفكير في حالته بعد مرور 50 عاماً فيما لو ظلّ يجري استغلاله بهذا الشكل.

وتحدّث هولجر بوس عن صعوبات التصوير والتوثيق تحت الماء فأفاد أنه واجه صعوبة في استكمال المنطقة المفقودة من حطام السفينة العسكرية البريطانية ثيستليجورم، التي كانت محمّلة بأسلحة ومعدات عسكرية وطائرات، كونها بارجة ضربت بواسطة الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية.

وقال إن القاطرة اليمنى للبارجة كانت مفقودة وكذلك منطقة القوس والقاع الرملي.

وأمضى بوس هو وزوجته التي ترافقه لمساعدته؛ يوماً كاملاً أمام حطام السفينة  ثيستليجورم، وقام بــ 3 عمليات غطس في المنطقة لمسح هذه المناطق حتى وجدها.

وفي نهاية الندوة شدّد كلّ من خليل وبوس على أهمية التوعية للحفاظ على أي تراث إنساني وخاصة التراث المغمور بالمياه فهو ملك للإنسانية.