قوزاق الدّون.. ملحمة شولوخوف الحيّة

عرّفنا إلى حياة القوزاق ونظامه العسكري ومآسيه.. لماذا يحتفل عشرات الآلاف سنوياً بميخائيل شولوخوف؟

  • قوزاق الدّون.. ملحمة شولوخوف الحيّة
    ميخائيل ألكسندروفيتش شولوخوف (1905 - 1984)، رسم: ماريا نصر الله 

على الضفة اليسرى لنهر الدون، في قرية فيوشينسكايا القوزاقية، التي تقع في أقصى شمال مقاطعة روستوف، تحتفي الأوساط الأدبية والفنية الروسيّة بعيد "ربيع شولوخوف"، في الـ 24 من أيار/ مايو، وهو مهرجان أدبي وفولكلوري سنوي مخصص لذكرى ميلاد الكاتب ميخائيل ألكسندروفيتش شولوخوف (1905 - 1984). 

يعود هذا التقليد الثقافي السنوي إلى نحو 4 عقود، إذ بدأ الاحتفال به للمرة الأولى بعد عام واحد على وفاة الكاتب سنة 1985، وبات مهرجاناً ثقافياً دولياً، يتقاطر إليه عشرات الآلاف (نحو 70 ألف زائر في السنوات الماضية)، من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق ومن خارجها. 

تكمن أهمية هذا المهرجان السنوي، الذي يستمر لـ3 أيام، في أن ضيوفه من الكتاب والشعراء والنقاد والممثلين والباحثين والقراء الشغوفين بأعمال الكاتب، ليسوا مجرد متفرجين، بل مشاركين في الحفلات الفلكلورية الموسيقية والغنائية، والندوات واللقاءات والمسابقات الأدبية والثقافية والرياضية، المرتبطة بنصوص شولوخوف وأبطال قصصه وحياة قوزاق الدون ومصائرهم. 

قُدِّر لشولوخوف، الذي تحل هذا الشهر الذكرى الـ39 لوفاته، أن يقدّم حقبة من حياة شعبه القوزاقي إلى العالم، بتراثه وأغانيه ورقصاته وأعراسه وحياته الزراعية، ونظامه العسكري، ومآسيه، عبر نصوص منها "قصص الدون" و"السهب اللازوردي"، وعلى رأسها ملحمته النثرية التراجيدية "الدون الهادئ".

قال عنه مكسيم غوركي (1868-1936): "إنه يكتب كقوزاقي عاشق للدون، ولحياة القوزاق والطبيعة". ولعل إبداعه يكمن في أنّه لملم القصص الحقيقية التي سمعها، أو كان شاهداً عليها، وصبّها في قالب أدبي، فحمل إلى العالم صورة حيّة عن حياة شعب ذي أنظمة خاصة، عاش حراً منذ القرن الـ15، على حدود الإمبراطورية الروسية، التي كان قوامها نظام الأقنان (العبيد). 

من هم قوزاق الدون، الذين كان ذكرهم مثيراً للرهبة والتوجس في روسيا القيصرية؟ وكيف تسنّى لشولوخوف أن يميط اللثام عن ثقافتهم، ويغير النظرة النمطية المتوارثة عنهم؟   

القوزاق الأحرار

لم يُذكر القوزاق في الوثائق التاريخية قبل القرن الـ16؛ ففي العام 1550، أرسل الأمير القبلي التتاري يوسف رسالة إلى إيفان الرابع، مشتكياً على رعايا القيصر الروسي، الذين يقطعون الطرق ويسطون على رسله، ويسلبونهم الهدايا المرسلة إليه، ويسرقون متاعهم بلا خجل.

تُظهر الرسالة أنّ شعب الدون لم يكن خائفاً من العقاب آنذاك. بعد عقدين من الزمن، في العام 1570، أرسل إيفان الرهيب رسالة إلى "جوّالي" الدون، معترفاً بهم كمجتمع منظَّم، ومنحهم الاستقلال. استخدم شعب الدون الامتيازات التي منحها له الاستقلال، بانياً تشكيلات عسكرية على الحدود الجنوبية للإمبراطورية. وفي العام 1584، بايع جيش الدون فيودر المبارك (ابن إيفان الرهيب ووريثه)، وبعدها بـ40 عاماً بايع ميخائيل رومانوف. 

دعم شعب الدون القيصر في الأزمات، ودعمه القيصر (وفق مصلحة الإمبراطورية) في سطوه المتكرر على الأراضي التركية.

إلا أنّ انتفاضة ستيبان رازين غيّرت الأمور، فقد قمعت السلطات القيصرية الانتفاضة، وأجبرت قوات القوزاق على أداء قَسَم الولاء التام للقيصر أليكسي ميخائيلوفيتش، فاضطر القوزاق الذين احتفظوا بحريتهم وأراضيهم، بدءاً من القرن الـ17، إلى التنسيق العسكري مع حامية الدون القيصرية، مشاركين في جميع المعارك، من حملة آزوف التي أطلقها بطرس الأكبر، إلى الحرب الوطنية العظمى سنة 1812، وصولاً إلى الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية الروسية (1917 - 1921)، التي وصف أحداثها شولوخوف في روايته "الدون الهادئ".

لم تكن الحرب الأهلية كبرى محن القوزاق، فقد أُجبِر عدد كبير منهم على الهجرة في ما عُرف بـ"سفر الخروج الكبير"، وتفرقوا في المحميات الفرنسية. وكان من نصيب بيروت، مثلاً، مطلع عشرينيات القرن الماضي، أن حلّ فيها عشرات الضباط القوزاق، الذين عملوا في الإدارة الفرنسية المحلية مسّاحين وطبوغرافيين، بعدما خلعوا البزة العسكرية (يذكر م. أديب فارس، في كتاب "الروس في لبنان" للبروفيسور سيرغي فرابيوف، أسماء 105 منهم، معظمهم من قوزاق الدون). وقد تحولت بيروت آنذاك، وفق الباحثة تاتيانا بحر إلى "قرية قوزاقية". 

إلا أنّ المحنة الأكبر وقع تحت وطأتها من لم يهاجر. إذ لم يستسلم القوزاق أو يذعنوا للسلطات الجديدة، الذين اعتبروا أنّها تُخضعهم لعبودية أخرى غير القنانة. ومن المسكوت عنه أنّه ما إن وصل المحتل الألماني إلى حوض الدون، سنة 1941، حتى انتقلت الفرقة القوزاقية الأولى إلى جانب "الفيرماخت" (القوات النازية)، وتشكّل فيلق الأمن القوزاقي. على الرغم من أنّ الدعاية الرسمية السوفياتية كانت تُظهر فرق القوزاق الذين يواجهون الاحتلال النازي، ويحررون برلين ربيع 1945، وتتردد في البلاد أغنية "القوزاق، القوزاق، قوزاقنا يعبرون برلين". 

آنذاك، صبّت الدعاية السوفياتية غضبها على القوميين الأوكرانيين، الذين أعلنوا استقلالهم تحت الحكم النازي، معتبرة أنّ الدون يمكن إخضاعه ("الدون وأهله" للمؤرخ الروستوفي فاسيلي فارينيك). إلا أنّ الاضطرابات استمرت طويلاً حتى أُخمِدت، ثمّ تنفس القوزاق الصعداء مطلع تسعينيات القرن الماضي، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، معتبرين أنّها المرحلة الأكثر تجانساً وتواؤماً مع الإمبراطورية الروسية. فأعادوا تشكيل جيش الدون الأكبر والفرق شبه العسكرية التابعة له.

كثيرون منهم يخوضون المعارك منذ عام 2014 حتى اليوم تحت راية هذا الجيش، جنباً إلى جنب مع أبناء جلدتهم في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك في إقليم الدونباس (حوض الدون)، في مواجهة القوميين الأوكرانيين وقوات "الناتو". 

أثر شولوخوف

قُدِّر لمن عاش في أراضي الدون الأعلى، وتوطّدت علاقاته بأحد أبناء القوزاق، أن يذكر له أين يجد اسم جده أو أحد أقاربه في "كتاب شولوخوف"، وإذا ما دخل بيته يجد نسخة من "الدون الهادئ" مفتوحة على صفحة يُذكر فيها اسم الجد.

إنّها سمة أنثروبولوجية هائلة لا يمكن لمن لم يعِش على ضفة الدون، أو يخالط أبناءه، أن يستوعب قيمتها. دفع القوزاق ثمن حريتهم في الحقبتين القيصرية والسوفياتية، وجاء ميخائيل شولوخوف يلملم الحكايات التي سمعها من أسرته ومحيطه، يضيف إليها ما خبره وشاهده، وينسجها ملحمة مأساوية تجسّد حقبة واحدة من تاريخ القوزاق الطويل المليء بالمآسي.

ليس غريباً أن شُنّت عليه الحملات من مناصري القيصرية والسوفيات في آن معاً، فكلٌّ منهم أراد تطويع التاريخ لروايته، وليس غريباً أن يتردد صدى هذه الحملات إلى اليوم. وليس غريباً كذلك أن ينال "جائزة نوبل للآداب" سنة 1965، بالإضافة إلى أرفع الجوائز السوفياتية، فقد وثّق أدبياً حقبة من تاريخ شعب لم يوثَّق تاريخه كاملاً. 

لنا كقراء، بطبيعة الحال، أن نسلخ تلك المرحلة التي وثّقها شولوخوف من تاريخ القوزاق الطويل، وأن نقرأها (دار رادوغا، 1990، ترجمة علي الشوك، وأمجد حسين، وغانم حمدون، ومراجعة غائب طعمة فرمان)؛ وإن أسعفنا الحظ وكان فهمنا للروسية عميقاً، لنا أن نقرأها بلغتها الأم، وأن نلمس عظمة شولوخوف وهو يحافظ على الفلكلور، في الزي والمغنى واللحن والملبس، وعلى اللهجة المحلية في الحوارات، ونقف على اختلافات الحقل المعجمي للمرأة القوزاقية عن الرجل. 

إن ما يمكن أن يُلام عليه شولوخوف (أدبياً طبعاً)، ليس كل ما سيق ضده من أناس لم يشربوا من ماء الدون ويعاشروا أهله، بل أنّه لم يتابع سرد حكاية قوزاق الدون بعد الحرب الأهلية الروسية، وأثناء الحرب الوطنية الثانية العظمى (1941-1945)، وما تلاها في مرحلة إخماد جذوة الحريّة لديهم، التي كان شاهداً عليها. لكن هل كان بإمكانه أن يفعل ذلك؟