كيف تخدم جماليات الأدب المعاصر مُتخيَّل السينما العربية؟

لطالما استوحت السينما من الروايات نصوصاً لها. كيف يرى مختصّون في الفنَّيْن هذه العلاقة؟ وما سبب فشل أفلام مأخوذة عن روايات ناجحة برأيهم؟

  • أشاد النُّقاد بالدور الذي تؤدّيه الرواية في تغذية وجدان السينما ومُتخيّلها
    أشاد النُّقاد بالدور الذي تؤدّيه الرواية في تغذية وجدان السينما ومُتخيّلها

لا تزال علاقة الأدب بالسينما مُتشابكة في العالم العربي، منذ سبعينيات القرن الـ20، وتفرض نفسها بصورة كبيرة وفعّالة في عملية تحويل النصّ الروائي إلى عملٍ سينمائيّ. إذ كلّما حُوِّلت رواية إلى فيلمٍ سينمائي، تتقافز إلى سطح الجرائد والمواقع والمجلات أهميّة هذه العلاقة الأنطولوجية، وقُدرتها على خلق مساحةٍ جماليّةٍ جديدة، تمزج التخييل الأدبي بالتعبير الفنّي. وعلى الرغم من الآليات والميكانيزمات التي تُؤسّس شرعية كلّ جنسٍ، فإنّهما يتداخلان فيما بينهما، ويُكوّنان لغةَ تعبيرٍ واحدة. ثمّ، بالنّظر إلى تاريخ السينما العربيّة، يعثر المُشاهد على ركامٍ هائلٍ من الأفلام السينمائية التي نهلت مُتخيّلها البصريّ من الرواية.

أشاد النُّقاد بالدور الذي تؤدّيه الرواية في تغذية وجدان السينما ومُتخيّلها، لا باعتبارها نصّاً أدبياً يُشكّل منطلقاً منهجياً للتفكير والتخييل والحلم في السينما، وإنّما من جانب إمكانات الحكي وفتنة السرد، بحيث يجد السينمائي في بعض الروايات التاريخيّة نَفَساً طويلاً للاسترسال في السرد والاستمتاع بالحكي، عاملاً على توجيه الكاميرا صوب مُنعرجاتٍ واقعيّة خفيّة، قد لا تستطيع الرواية بجماليّاتها تقريب القارئ إلى المَشهد والزجّ به في عالمٍ فانتاستيكي أو إيروسي، كما هو الحال بالنسبة إلى الفيلم السينمائي.

أشاد النُّقاد بالدور الذي تؤدّيه الرواية في تغذية وجدان السينما ومُتخيّلها، لا باعتبارها نصّاً أدبياً يُشكّل منطلقاً منهجياً للتفكير والتخييل والحلم في السينما، وإنّما من جانب إمكانات الحكي وفتنة السرد.

أدّت السينما العربيّة دوراً بارزاً على مُستوى التعريف ببعض الروايات المغمورة، إذ لولا عوالم الفنّ السابع، لَما كان بعض الروايات سيعرف طريقه صوب الذيوع والشهرة. وعلى الرغم من أنّ مُجمل الروائيين يعيبون على السينمائيين عدم تمكّنهم من الغوص في عوالم الرواية، في كل دقائقها وشخصياتها وأزمنتها، فإنَّ السينما تظلّ تُمارس سحراً على نصّ الرواية، ذلك بأنّها تضعه في مختبر حداثة بصريّة، تُطوّع النصّ الروائي وتمنحه حياةً جديدةً في عالم الصورة والسيمولاكر، مع العلم بأنّ النصّ يستحيل نقله، على نحو كلّي، حين يُحوَّل إلى صورة، لأنّ السينما تكتفي فقط بالصُّوَر والظلال والرموز، فهي تتملّك النصّ وتجعله سرديّة بصريّة، قد لا تمتّ إلى الرواية بصلةٍ، من ناحية الأحداث وفضاءاتها. لكنّ حرص الروائي على أحداثه وشخصياته، يودي بالطرفين إلى صراعٍ فنّي، يتمثّل بعملية التحويل. وهذا الأمر دفع كثيرين من الروائيين العرب الكبار إلى كتابة سيناريوهات بديلةٍ عن رواياتهم، حتّى لا تتدخّل يدٌ أخرى وتطمس كلّ المُنطلقات الفنّية والعناصر الجماليّة، التي أسّست شرعية وجودها في ذهن الروائي.

عن تمثّلات هذه العلاقة بين الأدب والسينما في العالم، كان لـ"الميادين الثقافية" هذه الوقفة الخاصّة مع عددٍ من الروائيين والنقّاد: 

هند الزيادي: روائية تونسية

"يجب إيجاد منطقة وسطى يلتقي فيها الكُتّاب وتقنيو السينما"

  • الروائية التونسية هند الزيادي
    الروائية التونسية هند الزيادي

يعدّ أمبيرتو إيكو تحويلَ الروايات إلى أفلام "ترجمةً أنترسيميوتيكية". ويتعامل معها باطمئنانٍ بعيدٍ عن منطق تشنّج الكاتب وغيرته على أثره. فهو يرى أنّ تحويل الروايات هو عبارة عن كتابة بعد محو. لذلك، اشترط مثلاً عند تحويل روايته الشهيرة، "اسم الوردة"، كتابة عبارة "Palimpseste"، باعتبار أن الفيلم هو في الحقيقة محو لنص مكتوب وتعويضه بمنتج آخر متباين عنه في الطبيعة، حتى وإن انطلق من الأثر الفني نفسه،  أو في أقصى تقدير هو معالجة لجانب من الرواية، وتحويلها إلى عمل فنّي جديد بأدوات ولغة جديدة، لها مفرداتها وتقنياتها المغايرة.

وهذا موقف أراه متوازناً نسبياً، بعيداً عن أيّ تشنّج غير واقعي. فالسينما فرضت نفسها لغةً عصريةً تجلب انتباه الملايين، بل صارت جزءاً رئيساً في الحركة الاقتصادية لعدد من البلدان، مثل مصر والهند والولايات المتحدة. وطبيعي جداً أن تتشابك مع الرواية في مرحلة من تاريخها، وهذا ما حدث. وفي مسافة التحوّل من كلمة إلى صورة، تمرّ الفكرة في عددٍ من التحولات، وتخضع لمعالجة تقنية مغايرة، تجعلها مفردة فنيّة دالة، لها دورها هي الأخرى، وإن تباينت القدرات المستهدفة في الفيلم.

في مسافة التحوّل من كلمة إلى صورة، تمرّ الفكرة في عددٍ من التحولات، وتخضع لمعالجة تقنية مغايرة، تجعلها مفردة فنيّة دالة.

قد نسمع كثيراً من النقّاد الذين يقولون إنّ هذه الرواية أو تلك فقدت قيمتها، أو تشوهت عند تحويلها إلى فيلم، لكنني أحبّذ أن نرى الأمر من زاوية أنّ الفشل طال جهد السينمائيين، الذين لم ينجحوا في الخروج من مختبرهم بفيلم يحترم الرواية، من دون أن يطال هذا الفشل عملية التحويل في حدّ ذاتها. فكم من عمل سينمائيّ أضاف إلى الرواية؟ وكم من عمل سينمائي نهض بالرواية؟ ونضرب على ذلك أمثلة متعدّدة، منها رواية "القارئ" الرائعة للكاتب الألماني برنارد شلينك، والتي أبدع ديفيد هير في كتابة سيناريو لها، وستيفن دالدري في إخراجها ضمن شريط ممتع؛ أو فيلم "الخلاص من شوشانك"، وهو فيلم عظيم، كان في الأصل نوفيلا من 100 صفحة داخل روايات عنوانها "الفصول الأربعة"، جُمعت في الأصل في كتابٍ واحدٍ لم يلقَ الشهرة التي حققها الفيلم. وفي المقابل، نعثر على أمثلة مضادّة لروايات شوهتها المعالجة السينمائية، وأنتجت أفلاماً أضاعت منها فلسفتها وجمالياتها والرؤية الأدبية التي وضعها الكاتب فيها، منها فيلم "العمى"، الذي استند إلى رواية الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو، والذي باء بفشل ذريع.

بين النجاح والفشل تتأرجح مواقف النقّاد وهواة القراءة الغيورين على الكتاب وعلى رواياتهم المفضلة. والسّر يكمن في الرؤية والمعالجة. فإذا كان من العبث الوقوف أمام تيار التطور، فنياً وتكنولوجياً، والذي سيواصل تحويل الروايات إلى أفلام، فإنّ من الصواب والرصانة بمكان أن نعمل على إيجاد منطقة وسطى، يلتقي فيها الكُتّاب وتقنيو السينما، لإيجاد أكثر ما يمكن من المفردات المشتركة، وتوحيد الرؤى الفنية بقدر ما تسمح به خصوصية الفنَّيْن.

محسن الوكيلي: روائي مغربي

"أعظم الأعمال الروائية تحولت إلى أفلام عظيمة وخالدة"

  • الروائي المغربي محسن الوكيلي
    الروائي المغربي محسن الوكيلي

العلاقة بين الرواية والسينما قديمة وجدلية في الوقت نفسه، إذ عمد المخرجون، في زمنٍ مبكّرٍ، إلى تحويل أعمالٍ سرديةٍ مرموقةٍ إلى أفلام، من قبيل روايتَي "البؤساء" و"أحدب نوتردام" لفيكتور هوغو. كما أثّرت السينما في السرد، من خلال ما منحت من تقنيات الإخراج لعدد من الروائيين الطامحين إلى التجديد، واستثمار تقنيات السينما في أعمالهم السردية.

سيلاحظ المتتبع للسينما أنَّ أعظم الأعمال الروائية تحوّلت بالفعل إلى أفلامٍ عظيمةٍ وخالدةٍ. المخرج يجد في السرد أرضيةً خصبةً يشتغل عليها ويستثمرها. فالرواية، التي حققت انتشاراً كبيراً وإقبالاً من النقّاد والقراء، تعطي ضمانات أكبر لعمل سينمائي ناجح.

إلى هنا، يبدو كل شيء جيداً، فالسينما تشكّل في أحيانٍ كثيرةٍ مدخلاً لانتشارٍ أوسع للرواية نفسها، كما تكون الرواية جسراً آمناً في الطريق إلى أعمال سينمائية متميزة وفريدة، غير أنَّ هذا الانتقال، من السرد إلى الصورة، لا يخلو من مخاطر. أعتقد شخصياً أنَّ تحويل عمل سردي إلى عمل روائي مساسٌ بهوية النص. فالمخرج، الذي يلجأ غالباً إلى إحداث تغييراتٍ كثيرةٍ في سبيل تكييف النص مع متطلبات السينما، هو في الحقيقة يُعرّض العمل الأصلي لتشوهاتٍ خطيرةٍ قد تمسّ جوهر النص ودلالاته. إنَّ هذا الانتقال الخطر فعلاً هو أشبه بتحوّلٍ كيميائي، تصير معه العودة إلى الأصل مطلباً غير ممكن. فالسينما، في كل الأحول، أكثر انتشاراً من الكتاب، لذا ترسّخ ما تروّجه أكثر من غيرها.

السينما تشكّل في أحيانٍ كثيرةٍ مدخلاً لانتشارٍ أوسع للرواية نفسها، كما تكون الرواية جسراً آمناً في الطريق إلى أعمال سينمائية متميزة وفريدة.

دعونا، من جهة أخرى، ننتقل إلى شيءٍ آخر لا يقل خطورة. سيتفق معي كُثُر، وخصوصاً من الروائيين، في أنَّ تعدُّد القراءات يعطي أي نص حياة متجددة، بل يمكن القول إنَّ كل قارئٍ يُنتج من مخياله الخاص نصاً موازياً. هذه الخاصية تتلاشى بوجود مُخرجٍ يختار صفات الأمكنة والشخصيات، ويؤثث الفضاءات وفق قراءاته ومخياله وقناعاته الفنية والأدبية. ألا يُعَدّ هذا اختزالاً للنص، وانتقالاً من دائرة واسعة تتسم بالتعدد والاختلاف، إلى دائرة ضيقة تُختزل في قراءة واحدة. 

إن هذا الرأي دفع كُتَّاباً إلى الامتناع عن تحويل أعمالهم السردية إلى أعمال سينمائية، بعد أن انحازوا إلى مخيال القارئ، تاركين له وحده تأثيث الفضاءات، وملء البياضات وفق ما يختارون.

صفاء الليثي: ناقدة مصرية

"ثمّة أفلام سينمائية اتّخذت الأدبَ أساساً لتحويلها"

  • الناقدة المصرية صفاء الليثي
    الناقدة المصرية صفاء الليثي

حين سُئِلَ نجيب محفوظ عن الفارق بين كتابة رواية وكتابة سيناريو، أجاب بأنّه عندما يكتب رواية أدبية فإنه يؤلف، وحين يكتب عملاً للسينما فإنّه يولّف. والفارق بين التأليف والتوليف، كما أعتقد، له علاقة بمساحة الخيال في العمل، غير المحدودة مع العمل الأدبي. التأليف من وحي خيال شاطح، أو باجترار الذكريات وصياغتها في مؤلف إبداعي يتخطى حدود الواقع الذي عاشه كاتبه. في السيناريو المؤلَّف لفيلم سينمائي، قد يصوغ الكاتب حدثاً يعرفه كثيرون، ويكون مسجَّلاً في وسائل إعلامية، في جريدة أو مجلة أو وسائط متعددة، كالتي نعرفها حالياً.

ولاحظتُ أنَّ أعمالاً معاصرةً، مصنفةً على أنَّها روايات، تخضع لوصف التوليف أكثر مما تخضع لوصف التأليف، ينطلق كاتبها/كاتبتها من حقائق تاريخية معروفة ومسجَّلة، يولّف منها روايته أو ما يسميها كذلك. وإذا كانت الأفلام السينمائية، سواء في مصر أو في بلدان العالم، اتخذت الأدبَ أساساً لتحويلها إلى أفلام سينمائية كبيرة وعظيمة، فإننا نختلف أحياناً في أفضليتها عن الرواية الأصلية، أو أفضلية العمل الأدبي عن الدراما التي أُخِذَت عنه. حالياً، وفي كثير من الأعمال المعاصرة، نجد العكس تماماً، فالكثير منها متأثر بأفلام سينمائية، يكتبه الكاتب آملاً تحويله إلى عمل درامي يحقّق له الشهرة، ويجعله يكسب مزيداً من المال.

في السيناريو المؤلَّف لفيلم سينمائي، قد يصوغ الكاتب حدثاً يعرفه كثيرون، ويكون مسجَّلاً في وسائل إعلامية، في جريدة أو مجلة أو وسائط متعددة، كالتي نعرفها حالياً.

وكمثال على عملٍ أدبي قرأته مؤخراً، ووجدت أنّه توليف من عدة مصادر، تحقيق صحافي، مراجع تاريخية، وقَدْر من الخيال قد يكون مصدره تجربة ذاتية مر بها الكاتب، رواية "موت منظم" للصحافي والكاتب المصري أحمد مجدي همام، بحيث ولّف الكاتب بين عدّة عناصر يمكن أن يستشعرها القارئ، وتتداعى له صور من أفلام شاهدها، أو تعود ذاكرته إلى أيام حدث محدَّد، كحدث تفجير الكاتدرائية في العباسية في القاهرة.

الكاتب يُرفق الوثيقة، ولا يدّعي أنَّ الحدث الذي أنهى به روايته من بنات أفكاره. وهذه الصيغة، التي لاحظتُ تكرارها في الروايات المعاصرة، تتوارى فيها مساحة الخيال، وتسود وقائع وحقائق تمّت إعادة كتابتها وصياغتها، بحيث يمكن أن تكون مرجعاً سهل التعامل معه درامياً، في دراما فيلمية أو تلفزيونية.