كيف تشكلت الهوية اللبنانية في فكر العلماء الشيعة؟

يندرج إغفال الوعي الشيعي للهويّة الجديدة ما دامت تعني تسليماً وتشريعاً للإخضاع والابتلاع، ويندرج التشديد على الهوية اللبنانية، بعد مخاض عسير، ما دامت تؤكد حقاً في الشراكة في دولة واحدة ومصير مشترك.

ينقل السيد محسن الأمين عن الشيخ فتح الله الملقب بشريعة مدار الأصفهاني قوله: "الأصل في العامليين العدالة وغيرهم يحتاج إلى الإثبات" [1].

تندرج هذه العبارة في سياق ممانعة شيعية ضد سلطان متعدد الأسماء والعناوين، أثقل الأهل العامليين بصنوف مختلفة من الجور والتسلط، وفرض عليهم الإقامة على هامش التاريخ. فكانت العدالة حاجة مقيمة في الذاكرة والوقائع بقدر ما كانت حقاً مشروعاً لجماعة ارتضت العيش في كنف سلطة مركزية جائرة، من دون أن تدفعها ضحالة التجاوب مع الحاجة والحق إلى خروجها عن انتماء إسلامي صنع هويّتها وتفاصيل حياتها. 

بهذا المعنى تماهى الاجتماع العاملي مع هويّته الإسلامية وتحصّن فيها ضد إغراءات الانفصال السياسي عن سلطة "إسلامية" حكمته بالعنف والقهر، تماماً مثلما توسّلها في تاريخه اللبناني، في مواجهة ضغوط التشكّل في طائفة كشرط لتحصيل العدالة. 

هكذا، تشكّل وعي الاجتماع العاملي بهويّته الإسلامية على إيقاع الثابت الديني، وتسلّح به في مواجهة المتغيرات السياسية ومفاعيلها في تعديل الوعي والهويّة معاً. وبالتالي، فإن التشكل الراهن لهويّة الاجتماع الشيعي بات مندرجاً في سياق العلاقة التاريخية التي وضعت الثابت الديني في مواجهة المتغير السياسي. 

في حين يعكس الثابت الديني صورة اجتماع أهلي صاغ لحمته على هويّة مذهبية – معتقدية، فإن المتغير السياسي يجسّد صورة الانتقال المتوتّر في ولاءات هذا الاجتماع الأهلي. بعبارة أخرى، ثبات الخصوصية المذهبية رغم تعددّية الولاء السياسي: من ولاء إسلامي باستثناء مراحله الأيوبية والمملوكية، إلى ولاء إسلامي عثماني بسلبياته المعنية والشهابية بين طرفي العصر الوسيط، ومن ولاء عربي سوري إلى ولاء قطري لبناني بين طرفي القرن العشرين.

بقدر ما يعني الثابت الديني غلبة دور العلماء في تعيين مركز القرار الشيعي ومرجعيته وهويّته، بقدر ما يعني المتغير السياسي بداية تدخل الزعماء والعائلات في تعيين القرار السياسي وتعديل صورة الهويّة.

هكذا، تأصلت هويّة الاجتماع العاملي على الثابت الديني، واختزل العلماء قدرة التعبير عن وعي هذا الاجتماع لذاته وهويّته ومحيطه. ففي اجتماع أهلي ملتئم حول هويّة مذهبية أقلوية وسط أكثريات مذهبية أخرى، يصبح تحصين المذهب والهويّة من اختصاص العلماء وحدهم دون سواهم: تحصين المذهب في ظل خلافة غير شيعية، تحصين المذهب في مواجهة انتشار المشروع الصليبي واستقراره في مدن جبل عامل وقراه، تحصين المذهب وسط انفلات الملل وتراجع وحدة الانتماء الإسلامي، تحصين المذهب في مواجهة فوضى الطوائف والأقليات الدينية، تحصين المذهب وضمان قدرته على تطويع ضغوط الترتيب الأوروبي الهادفة إلى تحويل الاجتماع الأهلي – المذهبي إلى طائفة تدفع ثمن حصتها السياسية سلفاً وعلى حساب الهويّة الحضارية – الإسلامية. 

وقد حافظ الاجتماع العاملي على ثوابت الهويّة في ظل سلطة عثمانية كانت تضعه باستمرار أمام ضغوط إخضاع الثابت الديني للمتغيرات السياسية وضغوط الحاجة الوجودية للبحث عن هويّة قادرة على تلطيف القهر السلطوي، على تنوع أشكاله ومصادره. بينما يعزّز الثابت الديني هويّة الانتماء السياسي – الشيعي، ويضع الاجتماع العاملي أمام أولوية خيار الوحدة مقابل الانفصال، فإن الانكفاء عن الشأن السياسي، كنتيجة لخيار الوحدة، لم يشترط التنازل عن الثابت الديني، وإنما بالعكس تماماً.

فقد وجد العلماء سبيلهم إلى توطيد دعائم الهويّة الإسلامية بمعزل عن دبيب السياسة السلطوية ومفاعيلها المأساوية في تفاصيل المعاش والقرار والمصير. هكذا حمل العلماء ثوابت المذهب والهويّة في سياق تركيزهم على هموم الاجتماع العاملي ومتطلباته المتنوعة في العبادات والمعاملات، لا سيما أن الانتماء إلى خلافة – دولة غير شيعية لا يشترط تنازلاً فقهياً، وبالتالي، استمرار وظيفة العلماء في مجالات الحياة العامة: التربية والتعليم، الزواج والطلاق، الوفاة والإرث، المعاملات الاقتصادية، الأوقاف.. إلخ.

بيد أن ذلك كله لم يكن نفياً للممارسة السياسية المتعاملة مع سلبيات الخلافة العثمانية وفق منطق وحدة دار الإسلام، والذي دفع ثمنه غالياً الشهيدان الأول والثاني، مثلما لم تكن مشاركة العامليين الشيعة في أحداث 1770-1771، ووقوفهم في معارك نابلس ودمشق والحولة وكفر رمان وحارة صيدا إلى جانب ظاهر العمر وعلي بك الكبير، محاولة فعلية لتأسيس استقلال سياسي عن المركز العثماني، بقدر ما كانت استثناء حاول العامليون من خلاله لفت أنظار الباب العالي إلى أهمية جبل عامل وتأثيراته على مستقبل المنطقة.

الهوية اللبنانية في فكر العلماء

  • السيد محسن الأمين
    السيد محسن الأمين

لم يتمظهر الانتقال النوعي في متغيرات الاجتماع الشيعي في صياغة جديدة للهوية. وفي مختلف مراحل هذا الانتقال، من التقية والمتولة إلى الطائفة، لم يخرج وعي الاجتماع الشيعي عن هويته الإسلامية، وبالتالي فالانتقال في سياق المتغير السياسي لم يسفر عن إزاحة الثابت الديني الذي ظلّ عنواناً للهوية التي حملها الاجتماع الشيعي في متغيرات حاله وأحواله، وفي مشواره من التقية إلى المتولة وأخيراً إلى الطائفة. 

تجد هذه المفارقة مصداقيتها في غياب كل تنظير يتناول هذا الانتقال. ففي الوعي ونظام الفكر حافظ الثابت الديني على تغذية الاجتماع الشيعي وتوحيده حول هويّته الإسلامية، وهي لم تغادره حتى في لحظة دفاعه المستميت عن هويّته اللبنانية، التي لا نجد لها أثراً في الوعي وفي النتاج الفكري لعلماء هذا الاجتماع الشيعي اللبناني الذي لا تمنعه هويّته الجديدة من البقاء داخل هويّته الإسلامية حيث يتحصّن ضد أمراض الطائفية وتفاصيلها في منازعات لا تنتهي.

بهذا المعنى، يجدر فهم المسافة الفاصلة بين الهويتين الإسلامية واللبنانية في تعقّل الاجتماع الشيعي لانتمائه اللبناني. وبما أن أهل هذا الاجتماع لم يكونوا ضيوفاً على لبنان أو غرباء من كوكب آخر، فإن علاقتهم به كانت مشدودة إلى روابط عميقة وراسخة في الذاكرة والتراث والأرزاق والأرض المجبولة بالعرق والدم والحبر، وبالتالي، فإن "النقص" في لبنانيتهم لم يكن انتقاصاً من صدق الروابط بقدر ما كان تعبيراً عن هواجس سياسية رافقت انخراطهم القسري في لبنان الكبير. 

ولطالما أثبتت دولة لبنان الكبير صحة القول العاملي المأثور: "جبل يبتلع جبلاً". وإذا كانت المتولة توليداً لعصبية شيعية رافضة لإخضاع جبل عامل لأمراء جبل لبنان، وإذا كانت دولة لبنان الكبير تكريساً لهذا الإخضاع وتشريعاً لمقولة الابتلاع، فإن البحث عن جذور هذا "النقص" في الإحساس بالهويّة اللبنانية لا يقف عند حدود التمايز الحاصل بين الثابت الديني والمتغير السياسي، بقدر ما يتطلب التعمّق في مفاعيل الإخضاع والابتلاع وتفاصيلهما في التهميش والحرمان. فلا يعقل التساوي في التعبير عن الهوية بين جماعات تتعايش فوق أرض واحدة وتنشد النشيد الوطني الواحد، بينما تفصل أو تباعد بينهما مصالح طائفية أطاحت جانباً كل مطالبة بالعدالة والشراكة في القرار والمصير والتنمية وحق الحصول على الحدّ الأدنى من العيش الكريم في دولة ذات سيادة تدير مجتمعاً متعدداً تتوزع فيه الحقوق والواجبات على جميع مكوناته من دون استثناء من هنا أو هيمنة وامتيازات من هناك. 

في هذا السياق، يندرج إغفال الوعي الشيعي للهويّة الجديدة ما دامت تعني تسليماً وتشريعاً للإخضاع والابتلاع، ويندرج التشديد على الهوية اللبنانية، بعد مخاض عسير، ما دامت تؤكد حقاً في الشراكة في دولة واحدة ومصير مشترك. وقد سالت دماء كثيرة بين الإغفال والتشديد كانت خلالها الهويّة اللبنانية للاجتماع الشيعي تترسّخ في ممانعة مجتمعية ضد الحرمان الطائفي وفي مقاومة وطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولم تكن أبداً هويّة ممنوحة من جنرال فرنسي. وما هو مشترك "لبناني"، في أرض ولغة ونشيد وعلم ولكن في حصص ومنازعات وامتيازات، ينتج "هويات لبنانية"، بينما المشترك في تحديد معنى الاستقلال والسيادة والشراكة والعدالة هو الذي يصنع الهويّة اللبنانية الواحدة. 

إلى هذه المفارقة بالذات يرجع إغفال الوعي الشيعي السابق لهويّته اللبنانية وتشديده اللاحق عليها. وإليها أيضاً ترجع تهمة النقص في لبنانية الشيعة الذين تردّدوا كثيراً في التعبير عن هويتهم اللبنانية التي أرادوها صياغة وطنية وليس منحة خارجية، أي هويّة ناجزة في دولة عادلة ووطن غير منقوص. هذا ما يفسّر التمسّك الشيعي بالثابت الديني في مواجهة "الكرم" الأوروبي الذي ساق الطوائف إلى دولة تهيمن عليها طائفة وسفارة، وفي مواجهة منافسات طائفية كامنة لا تنتج وطناً ولا هويّة بقدر ما تولّد وتغذّي تناقضات تُبقي اللبنانيين بلا حول ولا طول، بلا دولة ولا وطن، مشطورين هكذا بين طوائف وسفارات. 

وهذا ما يفسر أيضاً إحساس علماء الاجتماع الشيعي بالخوف على الهويّة الإسلامية من الضياع تحت أثقال التدبير الأوروبي والمصالح الطائفية. وإذ لم يجدوا تناقضاً في أن يكونوا لبنانيين ومسلمين، وجدوا تناقضاً صارخاً في أن تكون لبنانيتهم على حساب إسلامهم. هنا بالتحديد تكمن إشكالية العلاقة بين الشيعة والكيان، مثلما تكمن أصول ممانعتهم في تطييف اجتماعهم على الطريقة اللبنانية. وقد لجأوا إلى هويّتهم الإسلامية في سياق حماية أنفسهم من طائفيتهم وطائفية غيرهم، أي الهويّة الحافظة للعقيدة والمجتمع من الانهيار، ومن خلالها خاطبوا اللبنانيين بلغة تبني وطناً تتآلف فيه الطوائف والمذاهب والمناطق، تعترف وتتعارف وتتكامل في وطن حقيقي ودولة عادلة. 

بهذا المعنى، تحصّن الاجتماع الشيعي في هويته الإسلامية وتعقّل ضرورتها في مواجهة المتغير السياسي الجديد بما هو تمهيد لذوبان العقيدة في مسارات الطائفية والتبعية للغرب. ويجد هذا التحصين دلالته الفكرية في سياق التعبير عن حاجة المسلمين إلى الوحدة وحاجة اللبنانيين إلى دولة غير طائفية. فكانت تجلّيات هذا التحصين حاضرة في رؤية العام من خلال الخاص، أي من خلال إعادة إنتاج الوحدة الفكرية استناداً إلى الأصول الفقهية والمذهبية، الأمر الذي كان يؤدي إلى سجالات عديدة سعت إلى تبيان وحدة الموقف السياسي-الحضاري رغم تعدّدية المصدر الفقهي، والتي كانت تساعد أيضاً على تطويق الإصرار الغربي على تعميق الخلافات بين المذاهب، سواء أكان ذلك عن طريق التحالفات السياسية المحلية أم كان عن طريق إعادة إنتاج "هويّة إسلامية" تتلاءم ومصالح الغرب. 

انطلاقاً مما تقدم، يمكن مقاربة المحاولات الفكرية لعلماء الاجتماع الشيعي اللبناني التي غلب عليها إغفال الهوية اللبنانية المستجدة مقابل التركيز على إشكالية العلاقة بين الإسلام والغرب وعلى تبديد الهواجس الكامنة في الفوارق المذهبية. وتجد هذه المقاربة تجلياتها عند السيد محسن الأمين في "نقد الوشيعة" وفي رده على مجلة "المنار"، وعند السيد عبد الحسين شرف الدين في "المراجعات" و"الفصول المهمة في تأليف الأمة" و"المسائل الفقهية" وفي رده على مجلة المجمع العربي العلمي في دمشق، إضافة إلى آراء الشيخ محمد جواد مغنية، وخاصة في "غزوة الإسلام من الداخل والخارج" و"الشيعة والحاكمون" و"الحسين والقرآن"؛ هذا إلى جانب المساهمات الهامة على الصعيدين الفقهي والتاريخي للسيد هاشم معروف الحسيني، وتحديداً في "عقيدة الشيعة الإمامية" و"الموضوعات في الآثار والأخبار" وفي "تاريخ الفقه الجعفري"...

وفي ما يتعلق بالهوية الحضارية – الإسلامية فقد أفرد لها العلماء المتأخرون مساحات كبيرة في مؤلفاتهم ومحاضراتهم، كما نجدها عند الشيخ محمد مهدي شمس الدين وخاصة في "نظام الحكم والإدارة في الإسلام" و"العلمانية" و"بين الجاهلية والإسلام" و"مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني". وكذلك كتابات السيد محمد حسين فضل الله في "الإسلام ومنطق القوة" و"قضايانا على ضوء الإسلام"، إضافة إلى محاضرات الإمام موسى الصدر وخاصة في محاضراته حول "الإنسانية مقياس التقدم والتأخر" و"الإسلام وثقافة القرن العشرين" و"حكاية العلم والدين" و"لماذا تأخر المسلمون عن ركب التقدم العلمي" و"الأصالة أو ذاتية الإسلام".

إذا كان علماء الاجتماع الشيعي هؤلاء قد أسهبوا في الحديث عن هويتهم الإسلامية، وتركوا مساحة ضئيلة لحديثهم عن الهويّة اللبنانية، فإن ذلك يرجع إلى الخوف من أن يؤدي الإسهاب في الخطاب الكياني اللبناني إلى تبرير ضرورة الانتظام الطائفي. لذلك، عندما تحدث بعضهم عن لبنان كوطن نهائي لم يكن ذلك انقطاعاً عن حنين إلى وحدة غابرة أو تسليماً باستحالتها، بحيث باتوا ينظرون إلى لبنانيتهم كأنها نهاية العالم، فينتظمون في "طائفة"، ينظرون إلى الآخرين بمنظارها ويحددون علاقتهم مع غيرهم من اللبنانيين وفق مقاييسها الضيّقة. 

لهذا السبب، بالذات، لن تكون الهويّة اللبنانية مجال إسهاب فكري لأنها ستكون في اللحظة نفسها تنظيراً للطائفية كما أن الحديث عن الكيانية اللبنانية بصورة سلبية، أي باعتبارها الواقع الذي فرضه الخارج على الداخل والذي يجب تجاوزه نحو وحدة أشمل عربية أو إسلامية، سوف يخلق قلقاً لدى طوائف أخرى وشكوكاً بإخلاص المسلمين لوطنهم اللبناني. لذلك كله، أدرج الاجتماع الشيعي هويّته اللبنانية في سياق تكاملها مع هويّته الإسلامية من دون حاجة إلى تخصيصها بخطاب أو نظرية أو تاريخ أو منطقة.

إن قراءة متأنية لمؤلفات علماء الاجتماع الشيعي مثل: "خطط جبل عامل" للسيد محسن الأمين، و"مع التاريخ العاملي" و"فصول من تاريخ الشيعة في لبنان" و"للبحث عن تاريخنا في لبنان" للشيخ علي الزين، وكذلك "الاجتماع على قانون الأحوال الشخصية" للسيد عبد الحسين شرف الدين و"جبل عامل في التاريخ" للشيخ محمد تقي الفقيه، و"من ذا وذاك" و"من هنا وهناك" و"الوضع الحاضر في جبل عامل" للشيخ محمد جواد مغنية، إضافة إلى محاضرات الإمام موسى الصدر ومواقفه، وكذلك خطب الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله المتعددة. إن قراءة دقيقة لكل هذه النصوص تساعد على القول إنها لم تتضمن أي عملية تنظير للهويّة اللبنانية، كما أنها لا تسمح إطلاقاً بالحديث عن أيديولوجيين للوطن والطائفة على غرار الأب بطرس ضو الماروني. 

بديهي أن تكون حداثة الانتماء إلى لبنان الكبير تبريراً لهذا الإغفال. إذ كما يتغنى الشيعة بتاريخ جبل عامل، يتغنى غيرهم بتاريخ جبل لبنان، مع فارق واحد هو أن الأول يطالب بمساواته مع غيره، بينما الثاني يسعى إلى ابتلاع الآخرين، فإن تمكن من ذلك تغنى بلبنان الكبير الأبدي السرمدي، وإن عجز عنه عاد إلى كينونته الصغرى، إلى الطائفة والجبل، إذ هناك يبدأ العالم وينتهي، وكل انفتاح مشروط بالمنفعة، هيمنة وامتيازات وتعليق الوطن على قرار دولي.

ومنذ أصبح الاجتماع الشيعي لبنانياً وعقد الدونية تلاحقه. مع أنه قبل، مثل غيره، بالدولة الجديدة والوطن الجديد، واندفع فيهما بإخلاص يشبه إخلاصه لجبل عامل أو البقاع أو أكثر، إلا أنه لم يجد في المقابل سوى الحرمان: في الوظائف والمناصب ومشاريع التنمية والبنى التحتية والحاجات الأساسية كالتعليم والصحة والمياه والطرقات.

وفي مواجهة وقائع الحرمان المتمادي كان الاجتماع الشيعي يصنع نهوضه الخاص. منذ بداية الستينيات من القرن العشرين كانت تحولات الوضع اللبناني الداخلي تشير إلى أن المسلمين الشيعة قد باشروا البحث عن مخرج لحرمانهم، وأن إحساسهم بالغبن الطائفي أصبح نافراً، فازداد نزوعهم إلى التوحّد في "طائفة" تصحح مسار الوطن والطوائف معاً.

الإمام موسى الصدر والهوية اللبنانية

  • وسّل الإمام موسى الصدر الثابت الديني لتوجيه الحراك الشيعي في اتجاه الدولة
    توسّل الإمام موسى الصدر الثابت الديني لتوجيه الحراك الشيعي في اتجاه الدولة

تصدر الثابت الديني مرجعية القرار السياسي منذ اللحظة التي أمسك فيها  الإمام موسى الصدر زمام المبادرة، وذلك في سياق موضعة النهوض الشيعي في نصابه المخصوص في الدولة وفي دفع الدولة إلى وظيفتها الحامية للوطن. 

وبهذا المعنى يأتي خطاب الإمام الصدر عن لبنان كوطن نهائي لجميع أبنائه كصياغة شيعية متأخرة للهوية الوطنية – اللبنانية، رغم أنها – أي هذه الصياغة – كانت، ولا تزال، مشروطة بالقدرة على إعادة النظر في بنية النظام الطائفي وتعددية النظرة إلى الوطن. 

ففي خطاب حول الهوية كان الإمام الصدر واضحاً في تحديده لمطلب الإجماع حول هويّة وطنية: الشراكة في دولة عادلة والسيادة في دولة قادرة. وبعبارة أخرى، فالهوية الجامعة تشترط إصلاحاً في النظام الطائفي وسياسة دفاعية عن الجنوب في مواجهة المشروع الإسرائيلي.

بهذا المعنى أخذ الوعي بالهوية اللبنانية يتعمّق بالثابت الديني بدل العكس. فالمتغير السياسي الذي تمثّل في ولاءات وتيارات وأحزاب وزعامات لم تسفر، منفردة ومجتمعة، عن تحقيق العدالة ولا سيادة بقدر ما أنتجت توزّعاً كاد يوصل النهوض الشيعي إلى اليأس والجنوب إلى الضياع. 

وفي المقابل، توسّل الإمام موسى الصدر الثابت الديني لتوجيه الحراك الشيعي في اتجاه الدولة، مثلما توسّله لتعبئة الدولة والطوائف بهدف تأهيلها للوقوف في وجه التهديد الإسرائيلي الشامل. بالتالي، لا يعود الثابت الديني مجرد تشديد على هويّة إسلامية بقدر ما هو محاولة للاتفاق على هوية وطنية جامعة وحقيقية. 

تؤكد القراءة الموضوعية لتجربة الإمام الصدر واقع توظيفه للثابت الديني في خدمة الوطن بما هو مساحة عيش مشترك ومصير واحد، كما تشدّد على اعتبار قضية الجنوب بما هي الأساس الذي تقوم عليه الهويّة الوطنية الجامعة، على الأقل كما تجلّت في تجربة الإمام موسى الصدر واشتراطه تحقيق العدالة في منطقة يتقرّر فيها مصير وطن بكامله. 

وقد أثبتت الوقائع التاريخية مشروعية هذا الاشتراط، إذ يستحيل النهوض بالدولة والمجتمع في ظل احتلال الأرض وشلّ القدرة على اتخاذ القرار. "كما أسهمت تفاصيل الوقائع في تبيان أسس هذه الاستحالة وفيها جميعها، تمهّد كل واقعة للأخرى وتتواصل إلى حيث نقف اليوم: فالاعتداء على قرية انتهى إلى الاعتداء على العاصمة واحتلال منطقة بكاملها.

والسكوت على تهجير عشرة آلاف مواطن، شجّع على تهجير مئات الألوف. وتوكيل أمر الدفاع عن الوطن إلى غير الدولة وقواتها المسلحة، ترك الجنوبيون في مفارقة المواجهة المنفردة، وانتهى الأمر بمقاومة المجتمع نفسه للاحتلال. وقد تعمقت هذه الاستحالة في ظل تعتيم يعزل الرأي العام اللبناني عن وقائع الحدث الجنوبي، سواء تمثل هذا التعتيم في تجاهل مخاطر هذا الحدث أو في تبسيط إعلامي، أم تمثّل في تأويله في سياق صراع إقليمي لا ناقة للبنان فيه ولا جمل. 

وفي الحالتين، أنتج هذا العزل مزيداً من الانقسام الأهلي حول الهويّة الوطنية، وشرّع اختلافات في النظرة إلى العدو، كما في طريقة التعامل مع أحداث يتعرّض لها جزء من الوطن، وهي أحداث متحققة في قضم الحدود وانتهاك السيادة وهدر الأرواح والممتلكات وصولاً إلى الاحتلال المباشر، أكثر مما هي أحداث متوقعة لا يتلّمس وجودها أحد، لا في كتاب مدرسي ولا في تعبئة إعلامية ولا في وثيقة رسمية ولا في احتياطات الحد الأدنى...".[2]

إذا كان الحرمان سياسة رسمية فرضها "مركز" النظام الطائفي على "أطرافه" في الجنوب والبقاع والشمال، فإنه في الجنوب، مركز ثقل الاجتماع الشيعي وحراكه، كان يعني ترك لبنان كله للقدر الإسرائيلي، مثلما كان يفرض على قائد هذا الاجتماع مهمة إخراج الوطن، انطلاقاً من جنوبه، من مخاطر القدر الإسرائيلي.

وبهذا المعنى يقول الإمام موسى الصدر: "(...) إن وطنكم في خطر عظيم وداهم. هذا محض حقيقة وصريح الواقع. أما الغريب الغامض، أما السر الخطير فهو: أن يكون الخطر قريباً منكم وكأنه لا يعنيكم، أن نتفرج باطمئنان وبلا مبالاة وبشيء من الحزن المترف على واقع لبنان الجنوبي ومصيره. هذه هي المأساة أيها الإخوة، استعراض للأحداث الأخيرة وللاعتداءات المتكررة على لبنان، على منطقة عزيزة من لبنان تشكل ركناً أساسياً في تاريخه وفي كيانه وفي استقلاله، واكتفائه الذاتي. استعراض سريع يؤكد أن هذا البلد يواجه خطراً مصيرياً. 

وأمام هذه الحوادث ترتفع أصوات وتعلو صرخات وتظهر نشاطات ولكن ويا للأسف المرير جميعها من منطقة معينة ومن طائفة معينة. اللهم إلا بعض المؤاساة واللياقات من الآخرين. تتخذ تدابير وتقرر أمور بتثاقل وبطء تقليديين ومع التحفظ والشروط الصعبة لأجل تنفيذها. أليس في هذه الظاهرة نعي للوطنية ونذير في الإحساس المواطني وتشاؤم على مستقبل لبنان وكرامته...".[3]

تختزل هذه الكلمات واقع الانقسام اللبناني حول الهويّة، مثلما تكشف إرادة "منطقة معينة" و "طائفة معينة" في البحث عن المشترك الذي يصنع هويّة وطنية. ومما لا شك فيه فإن الانقسام حول الهوية ومعنى الوطن هو الذي حصر المقاومة في "طائفة" مثلما يحصر انتصاراتها في حسابات الطوائف وليس الوطن. هذا ما يفسر التركيز الشيعي على هويّة وطنية، بعد إغفالها المديد، تتجاوز الطائفية والحرمان إلى ما يؤسس دولة عادلة وقادرة وذات سيادة. وهو تأسيس سوف يحصّن وعي الاجتماع الشيعي لهويّته اللبنانية ويلزم ورثة صاحب خطاب التأسيس ورموزه في الدولة ومؤسسات الطائفة والمقاومة والاجتماع الأهلي بوضع الثابت الديني في خدمة الهويّة اللبنانية بما هي هوية تجمع طوائف الوطن أكثر مما هي على قياس طائفة مهما علا شأنها في حصصها والامتيازات والحليف الخارجي. 

بذلك، تسترجع الهويّة الوطنية ثوابتها في وعي الاجتماع الشيعي للمتغيرات التي رافقت تموضعه في الدولة اللبنانية، فانتقلت معه من إغفال "النص" حول الهوية، بما هو تعبير مكثّف عن التردد والاندماج القسري والانكسار الشامل أمام المشروع الغربي، إلى المجاهرة بنهائية الوطن، بما هو تعبير مباشر عن الخطر الوجودي الذي يهدّد هذا الوطن في وحدته وسيادته، كما تجلّى، هذا التهديد، في الاستراتيجية الإسرائيلية وأطماعها اللبنانية، في الأرض والمياه والاقتصاد والأنموذج التعددي. 

يكشف هذا الوعي بالأولويات أن الثابت الديني لا يخرج الاجتماع الشيعي عن هويته الإسلامية بقدر ما يحصنه من استبدالها بهوية طائفية، كما يكشف قدرة هذا الثابت الديني على تأسيس مقاومة قادرة ليس فقط على تحرير الوطن من الاحتلال الإسرائيلي، وإنما أيضاً على تأصيل هويّة وطنية جامعة تحصّن الوطن ضد المشروع الإسرائيلي الشامل مثلما تلطّف المنازعات الطائفية حول الدولة ومنافعها وتنظّمها في شراكة وعدالة ووحدة وسيادة.

[1] السيد محسن الأمين: خطط جبل عامل، الدار العالمية للطباعة والنشر، طبعة 1983، بيروت، صفحة 81.
[2] علي شامي: جنوب لبنان في مواجهة العدوان الإسرائيلي، مجلة دراسات لبنانية، منشورات وزارة الإعلام، العدد الأول، نيسان 1996 صفحة 159.
[3] نقلاً عن دراستنا المنشورة في: المقاومة والمجتمع المقاوم، منشورات مركز الامام الصدر للأبحاث والدراسات، بيروت، 2001، صفحة 113.