"لديها أفكار للحياة".. أي دور للزوجات في نجاح أدباء نوبل؟

وراء المتوَّجين بجائزة نوبل للأدب وغيرهم من الأدباء العالميين، حياة غير معلنة دائماً تؤدي فيها النساء أدواراً كبرى. فما هذه الأدوار؟

في كل سنة يُقام حفلٌ بهيجٌ، يتلو فيه أحد المتوَّجين بجائزة "نوبل" للأدب محاضرته المتعلّقة بدفاعه عن هويته الفكرية، مستخدِماً في ذلك جملةً من الحجج. يلي ذلك تصفيق حار، ليدخل بعده إلى زمرة الخالدين في تاريخ الأدب. ولكن وراء هؤلاء المتوَّجين حياة غير معلنة دائماً، ومترجمين وفريق عمل متكامل يدعم عملهم، الذي تقوده الجوهرة النادرة، وهي موهبة الكتابة. 

وإن كان البعض قد تخلّف عن الفوز بالجائزة الأدبية الأرفع، فإنّه تربّع رغم ذلك على عرش الخلود، ومن أبرز هؤلاء ميلان كونديرا، الذي رحل عن عالمنا منذ وقت قصير. فما هو دور هؤلاء الرفقاء المثابرين؟ وما دور النساء منهم خصوصاً، اللاتي يضطلعن بأدوار تتّسم بالمثابرة والصبر الكبير؟

فيرا هاربانكوفا وميلان كونديرا 

حين توفي الروائي التشيكي ميلان كونديرا، يوم 11 تموز/يوليو، أعلنت زوجته فيرا هاربانكوفا الخبر، مرفَقاً بنعي دار "غاليمار" الفرنسية للنشر. عن عمر 94 عاماً، رحل مؤلف "المزحة" بعد معاناة مع المرض، من دون أن يكون قد أدلى منذ سنوات طوال بحوار لوسائل الإعلام، ومن دون أن يظهر في وسيلة مرئية منذ العام 1984، حين حلّ ضيفاً على برنامج "أبوستروف"، الذي كان يقدّمه برنار بيفو على شاشة القناة الفرنسية الأولى.

ويعود السبب في قلّة ظهور الروائي العالمي إلى أنّ السيدة فيرا هاربانكوفا، المرأة التشيكية التي تزوّجها عام 1967، كانت تضرب حول حياته الشخصية حصاراً حجرياً، فلا أحد يعرف شيئاً عن عاداته اليومية، وأغلب ما يُقال عن ذلك لا يتعدّى كونه تخمينات، فهو يعيش في باريس، وله ابنتان مجهولتي الهوية.

هاربانكوفا ذات التكوين الموسيقي، والتي تتولّى الاتفاق مع الناشرين العالميين بشأن ترجمة نصوصه، هي نقطة وصله الوحيدة مع الآخرين، وقد عملت على توطيد صداقته بالروائي الأميركي فيليب روث.

يُرجع بعض الصحفيين والمهتمّين بالشأن الأدبي نمط حياة كونديرا إلى الدقة المتناهية في التنظيم، والاهتمام بالدرجة الأولى بالعمل والأثر الذي يُحدثه بعد النشر، إلا أنّ البعض الآخر له رأي مختلف، مفاده خوف متأصل في شخصية الزوجين منذ أن استقرا في فرنسا في العام 1975، بعد معاناة طويلة مع النظام الحاكم في تشكوسلوفاكيا سابقاً، ممّا فرض عليهما توجّساً وصمتاً، هما اللذان سُحبت منهما جنسيتهما وحصلا بعدها على الجنسية الفرنسية، قبل أن تُعاد الجنسية التشيكية لكونديرا بعد أن أصبح كاتباً كبيراً، تُرجمت روايته الأشهر "خفة الكائن التي لا تُحتمل" إلى 80 لغة، وحوِّلت إلى فيلم سينمائي حقق بدوره نجاحاً واسعاً. 

وقد تحدّثت الكاتبة الصحفية، أريان شومان، حول ما سمّته "الأختام التي وضعها كونديرا على حياته"، وقالت في حوار للراديو الفرنسي إنّها أنجزت حوله سلسلة مقالات نُشِرت في صحيفة "لوموند"، وأجرت تحقيقاً صحفياً حول حياته في براغ، وراعها ما توصّلت إليه. وأغلب الظن أن الزوجان لم يقرآ ما جمعته الأجهزة السرية في بلدهما حولهما.

لكن الأغرب من كل ماسبق، هو أنّ السيدة فيرا كانت تمنع ميلان من الردّ على الهاتف أيضاً، فقد ذكرت الصحافية شومان أنّها استمعت ذات مرة إلى صوته، و"كان يتّسم باللطف"، وقد عرف هويتها، لكنّ زوجته أخذت السماعة منه.

ويبدو أن زوجة كونديرا، التي تدير صورته الاجتماعية والإبداعية، والتي تقترب ملامحها الخارجية من بطلة روايته الأشهر "خفة الكائن التي لا تُحتمل"، ظهرت في صورة فوتوغرافية حديثة بعد أن شاخ الزوجان، وهي التي أمعنت في عدم الردّ على الصحفيين، وكانت تضعهم دائماً في منطقة الشكّ، وتُشرف على البلاغات الرسمية المقتضبة حول كتبه.

وفي المقابل، كان كونديرا يبدو في صور أيقونية أقرب الى كائنات لا يمكن الوصول إليها، يقترب فيها من سمات نجوم السينما القدامى، وهو الذي برع في الكتابة عن الموسيقى والمسرح، وعن الستارة التي تخفي ما لا يمكن أن يخفى في النقد الروائي. كما أنّ إهداء كونديرا مكتبته الشخصية إلى بلده جاء تحقيقاً لحلم رأته فيرا.

جوزيه ساراماغو وبيلار ديل ريو 

"لديها أفكار للحياة، ولديّ أفكار للروايات". هكذا تحدّث الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو عن زوجته بيلار ديل ريو، الصحافية الإسبانية ومترجمة أعماله، التي شُغِفت بعوالمه السحرية ما دفعها إلى لقائه في العام 1986، ليتزوجا بعد ذلك بعامين وتستمر حياتهما الزوجية لمدة ربع قرن، أشرفت خلالها بيلار على شؤونه المالية والإدارية، وتحوّلت إلى وسيط ينظّم لقاءاته وأسفاره، كما تقوم بمراجعة ما يكتب وتترجمه، مانحةً هذا العمل ما يتطلب من صبر ووقت وسعة بال وخيال، ومعرفة بما يودّ ساراماغو قوله.

مؤلف روايات "قايين" و"انقطاعات الموت" و"الطوف الحجري" و"العمى" وغيرها، كان يُصدّر رواياته دائماً بإهداءٍ إلى ملهمته: "إلى بيلار التي لم تتركني أموت "، أو "إلى بيلار... مثلما نقول الماء"، أو "إلى بيلار دائماً"، أو "إلى بيلار التي لم تولد بعد، وأخذت وقتاً طويلاً لتأتي".

أنجز المخرج ميغيل غونزاليز شريط "جوزيه وبيلار" عام 2010، وصوّر فيه الحياة الهادئة والمنظَّمة لهذا الثنائي في لانزووت الواقعة في جزر الكناري الإسبانية. وكانت بيلار توافق على مواقف زوجها، مثل رفضه غزو العراق، وموقفه من الاعتداءات والانتهاكات التي ترتكبها سلطات الاحتلال الإسرائيلي وجيشها بحق الشعب الفلسطيني، وكذلك موقفه من العولمة المتوحشة، ومبادئه الأناركية وهو الذي كان منتمياً إلى الحزب الشيوعي في البرتغال.

كانت بيلار ديل ريو على انسجام عاطفي وجسدي مع ساراماغو، على الرغم من فارق السن الكبير بينهما، حيث قال الفائز بجائزة "نوبل" في العام 1998، إنّه حين فكّر بالارتباط بها عدّ معارفه ذلك ضرباً من الجنون والهراء، بينما علّقت هي بأنّه كان ارتباطاً أبدياً، ورفضت أن تلعب دور زوجة الكاتب الكبير، بحسب ما يقتضيه البروتوكول الاجتماعي المتعارف عليه، إذ كانت ترى في زواجها رفقة ورحلة حياة لا يجب أن تلغي شخصيتها القوية، معلِّقةً على ذلك بالقول: "كنا نعرف، بحكم القانون الطبيعي للأعمار، أنّ أحدنا سيرحل قبل الآخر، ولم أجد رتابةً في حياتي بعد وفاة جوزيه ساراماغو". 

ورغم تفانيها في تخليد أعماله باعتباره جوهرة الأدب البرتغالي، إلا أنّها تساءلت: "لو كنتُ الكاتب الشهير، هل كان سيكون أرمل بيلار؟ أم أن الأمر انعكاس للرجولة؟"، وهو ما يشير إلى نزعتها النسوية . 

ولم ينفكّ جوزيه ساراماغو في حياته يؤكّد أنّه لولا وجود بيلار لكان رحل قبل أوانه، إذ إنّها أضافت إلى عمره المزيد من السنوات، بحسب اعتقاده.

غابريال غارسيا ماركيز ومرسيدس بارشا

وصف ماركيز زوجته في مذكراته بأنّها "نحيلة بعيون حادة وشعر قصير، ما أدّى إلى إطالة عنقها بشكل أكبر"، وهو ما جعله يطلق عليها لقب "لاغيرافا"، أي الزرافة، الذي جعله كذلك اسم عموده الصحافي في صحيفة "هيرالدو" عام 1950.

كان يكبرها بـ6 سنوات، وأعلن أنّه سيتزوجها منذ أن كانت تلميذة في عمر الـ13 عاماً. كانت بطلة روايته "مائة عام من العزلة"، ومثل أرسولا كانت مرسيدس مستبصرة لما سيكون عليه الزمن مع غابريال، ومثال ذلك قصة إرسال مسودة "مائة عام من العزلة" من المكسيك إلى الأرجنتين عبر البريد بعد تقسميها إلى جزئين، نظراُ إلى شحّ المال، وقد تمّ الإرسال بعد أن رهنت الخلّاط الكهربائي ومجفف الشعر.

تدعو هذه القصة إلى الاستغراب، خاصة موقفها الغريب حين قالت لزوجها، وهي المؤمنة بموهبته: "الآن كل ما تبقّى هو أن تنجح الرواية". لم تلقِ مرسيدس بالاً إلى مقولة سمعتها مراراً،مفادها أنّه سينتهي بها الأمر الى أكل الورق لو تزوّجت ماركيز. وممّا يرويه ماركيز أيضاً عن زوجته أنّها قطعت رحلة اصطياف مع ولديهما على شاطئ البحر حين سمعته يردّد جملة بداية روايته، وأجبرته على البقاء في البيت للكتابة فقط، وكانت تعرف متى يُكمل كل فصل، كما تكبّدت عناء أن تبقى الأسرة من دون مورد مادي طيلة أشهر طويلة.

يُهدي ماركيز رواياته إلى زوجته بهذه العبارة: "إلى مرسيدس طبعاً". وهي التي كانت أول من يقرأ ما يكتب، رغم تعتيمها غالباً على هذه النقطة. وكانت تدير شؤون البيت وتهتمّ بالأمور المالية وتعتني بالأولاد، وبكل ما يتعلّق بهذا الروائي الكولومبي الذي نجح في رسم الواقعية السحرية، وأخفى بالمقابل جزءاً من حياته. فقد كانت له 3 حيوات؛ واحدة عامة وثانية خاصة وأخرى خفية.

بعد وفاته، وعلى عكس الكثير من الأرامل، بقيت مرسيدس في منزلها بمكسيكو سيتي محافظة على عدم الخوض في حياته السرية. وقد كتب الصحفي جون أندرسون: "كانت واحدة من تلك الزيجات الملحمية. فصلت مرسيدس الجانب العملي حسب مقتضيات الحياة اليومية".

وعلّق الصحفي أنّ زوجة ماركيز عملت على جعل حياة زوجها أسهل، فكل المنازل التي يملكها كان لها الذوق نفسه، وجهاز الحاسوب نفسه، وخزانة الملابس نفسها. وتحدّث ابنها غونزاليز ماركيز عن علاقته بأبيه، وتنظيمها للأسرة والبيت". وأشار إلى أنّه كان بين والديه إلى جانب الزواج فكرة التواطؤ، ولم يكن بينهما حب فقط. وكانت والدته تُعتبر بحسب من يعرفونها "حارسة بوابة البيت"، وقد شكّل الزوجان مزيجاً جمع بين الخصوصية والاجتماعية.

أولغا توكارتشوك وغريغوريز ريغارلدو 

نادراً ما تتحدث الفائزة بجائزة "نوبل" للأدب في العام 2018، أولغا توكارتشوك، عن حياتها الخاصة، والمعروف أنّها أخصائية نفسية تزوجت في المرة الثانية من أستاذ فيلولوجيا يصغرها بـ6 سنوات.

وقد قال غريغوريز ريغارلدو بعد أن سُلِّطت الأضواء على زوجته إنّه التقى بها في المرة الأولى في حفل توزيع جائزة "أنوغليز"، وقد جمعهما الأدب وانبهاره بكتابتها، بعد أن عرف رواياتها عبر قراءة ترجماتها الألمانية.

تمتاز توكارتشوك بشخصية قوية، وهي تنتمي إلى حزب "الخضر"، وتعتبر أنّ بولندا تعرّضت للاحتلال، وأنّها تدافع عن الأقليات العرقية التي اضطُهِدت تاريخياً. كما أنّها تشعر بالأمان والهدوء والدفء مع زوجها، خاصة بعد أن تخلّى زوجها عن وظيفته وتفرّغ لمتابعة ما تنشره. وهو ينظر إلى نصوصها بعين ناقدة.

ولا يخفي غريغوريز أنّهما يشكّلان حالة خاصة، فهما يعيشان في مكانٍ ناءٍ اشترته من مجموعة من "الهيبيز"، وهي قريبة بذلك من عالم الطبيعة وأصواتها العميقة. كما أنّ زوج أولغا يدير مكتبتها أيضاً، ويهتمّ بالوظائف اليومية خاصة بعد شهرتها، ما يجعل تنقلاتهما في الأماكن العامة أمراً صعباً بسبب إصرار البعض على الاقتراب من أولغا.

يوضح غريغوريز أنّه لا يسعى إلى التطابق مع زوجته بأي شكل من الأشكال، وهي المثقفة التي تحدّت النظرة المحافظة، وكتبت روايات مثل "الروح المفقودة" و"رحّالة" و"جُرّ محراثك فوق عظام الموتى" و"أسفار يعقوب".