"لقد جئناها باكين"..من سيكتب تاريخ الدموع؟

البكاء ظاهرة بشرية تدخل فيها عوامل نفسية وتاريخية وأدبية. ما هو البكاء؟ وهل يمكن أن نؤرخ للبكاء والدموع؟

جعل شكسبير بطله الملك لير يقول بعد أن أخذته العاصفة: "لقد جئناها باكين". وهي الحقيقة التي تميّز البشر عند مجيئهم إلى الدنيا وتمنحهم خصوصيتهم. كما كتب هنري هوكينز أنّ الدموع "حليب الطبيعة، إذ تميل إلى إرضاع الكائنات من ثديها". وقيل إنّ القديس فرنسيس أُصيب بالعمى من شدة البكاء.

في كتابه "تاريخ البكاء، تاريخ الدموع الطبيعي والثقافي"، يقسم توم لوتز العالَم إلى معسكرين: بكاة وجفيفين. المعسكر الثاني لا يهتم بدوافع البكاء ونظرياته وشروحه، أما المنتمون إلى المعسكر الأول فيبدون منظّرين غزيري الإنتاج، لا يتوقفون عن البحث والتنقيب والاقتراح، ويميل المؤلف إليهم ويتعاطف معهم. 

في المقدمة يشرح لوتز طبيعة الدافع الذي أملى عليه درس ظاهرة الدموع، انطلاقاً من أنّ البكاء ظاهرة بشرية عالمية ليست مقرونة بشعب أو فئة عمرية من دون أخرى. ولأنّ أبعاد هذه الظاهرة تتجاوز الإطار الانفعالي وتتعداه إلى الفيسيولوجي والنفسي والتاريخي والأدبي، اعتمد لوتز، من أجل استكشافها، المنهج البيني مستعيناً بعدد من الدراسات المنتمية إلى ميادين علمية متعددة ومتكاملة، بينها مبادرات إلى دراسة "فلسفة الدموع" التي اقترحها الشاعر إدغار يونغ عام 1760، أو دراسة "الجهاز الدمعي"، التي أعلن الباحث موروب ديل كاستليو إعدادها عام 1983.

كما اعتمد جزئياً على المؤرخين القلائل الذين قاموا بعمل مكثف بشأن الموضوع، مثل دراسة فليمينغ فريس هفيدبيرغ عن "دموع العهد القديم"، وتاريخ ساندرا ماكنتاير عن "الدموع المقدسة" من القرن الثالث حتى القرن العاشر، ودراسة مارجوري لانج عن إنكلترا في القرن الــ 17، ودراسات شيلا بيج باين وآن فنسنت بافولت عن البكاء في فرنسا في القرنين الــ 17 و 18.

ويشير لوتز، منذ البداية، إلى أنّ فهم الدموع بصورة أفضل لا يتأتى من العلوم الطبية والنفسية، لكن من عدد لا يحصى من التمثلات الشعرية والقصصية والدرامية والسينمائية التي تعرض الميل البشري إلى البكاء.

تشرب الدموع كما الخمر

  • (غيتي)
    (غيتي)

على مدى تاريخ البشرية، عُدّ بعض الدموع جيداً، واحتُقر بعضها الآخر، كتلك التي لا تُعد أصليّة. هذا التمييز، وفقاً للوتز، هو إحدى الأدوات الدائمة في تاريخ البكاء الثقافي. من هذا المنطلق، يسرد المؤلف سلسلة من الحكايات ذات الصلة، صُممت بصورة بسيطة لاستعادة المعاني المحددة التي تشي بها الدموع في فترات تاريخية متعددة، مركِّزاً على دموع الملذة ودموع النعمة.

يرجع لوتز إلى واحدة من أقدم الأساطير الفينيقية المكتشفة في رأس شمرا، والتي تروي حدث موت بعل، إله الأرض، وبكاء عنات أخته عليه. عنات التي "تشرب الدموع كما الخمر"، وتصيبها اللذة من ذلك، إذ تعيد دموعها بعلاً إلى الحياة. 

ويسلط لوتز مجهره أيضاً على مدونات الأساطير اليونانية التي يعقب فيها الحزنَ والدموع نوعٌ من التعويض. وقال يوريبيديس، المسرحي اليوناني: "ما أجمل الدموع، ما أحلى المراثي، أود أن أغني المراثي بدلاً من أن آكل أو أشرب".

وأكد ذلك القديس توما الأكويني، في القرن الــ 13، لمّا وجد في الدموع تخفيفاً لمعاناة الباكي ونوعاً من المتعة، بل التطهر (كاتارسيس) الذي عدّه أرسطو أهم عناصر الأداء المسرحي وغاية المسرح.

وضع رجال الكنيسة الأوائل في القرن الرابع نظريات مسهبة بشأن الدموع بجعلها أنواعاً: "دموع الندم ودموع الحزن ودموع الفرح ودموع النعمة". النعمة هنا تعني الامتلاء من الروح القدس والكمال من الخطيئة، بينما يستدعي التصنيف الأخير أن يكون المؤمن عارفاً دلالات سلوك البكاء والدموع، وفقاً لكل من هذه المواقف أو الأنواع.

في الطرف الآخر، يرى إميل سيوران في كتابه "دموع وقديسون" أن الدموع التي يذرفها بعض المؤمنين، ويزعم أنها علامة على قداستهم، إنما هي دليل على "شهوانية معاناتهم" ليس إلا، وسبقه إلى هذا الاستنتاج الشاعر الفرنسي جان راسين في القرن الــ 17، حين أطلق تسمية "الدموع الشهوانية" على ما يذرفه الممثلون والمخرجون والمسرحيون والروائيون والشعراء من دموع.

الجسد الباكي وسيكولوجية الدموع

  • مطبوعة حجرية ملونة للقديسة مريم الحزينة، العذراء المباركة (مجموعة ويلكوم)
    مطبوعة حجرية ملونة للقديسة مريم الحزينة، العذراء المباركة (مجموعة ويلكوم)

يقف لوتز ثانياً عند دروس مفصلة لعملية البكاء وللأعضاء المساهمة فيها، مثل العينين والقرنية والسوائل التي توفر ليونة حركتهما والغشاء السائل، ويسرد تاريخاً للدَّمَعان. كما يتطرق إلى أنواع الدموع عبر تقسيمها إلى الدموع النفسية والانفعالية والانعكاسية، ويورد عدداً من مساهمات العلماء في توصيف العين والدمع والربط بين انفعالات المرء وفيزيولوجية الدمع عنده، مثل ما كشفه ج. تومسون وبيتر لانغ وأنطونيو داماسيو وغيرهم. ويقف أخيراً عند فرط البكاء وندرته.

يعلل ديكارت في القرن الــ 18 ظاهرة الدموع بأنّ معظم البشر يميلون إلى البكاء، وحثتهم عليه انفعالات بلغت ذراها في نفوسهم، وهي 6 أساسية: العجب والحب والكراهية والرغبة والفرح والحزن.

ويقف لوتز بعدها عند مساهمات العلماء والفلاسفة الغربيين، أمثال هارفي وباير وشيرماك وداروين وسبنسر وغيرهم، والذين وقفوا عند الأثر، فكرياً وثقافياً ودينياً واجتماعياً، في تكوين ظاهرة الدمع، وما يصحب ذلك من أفعال وتحولات جسمانية وانفعالية وحركية.

وليستطيع لوتز أن يدرس سيكولوجية الدموع قام بجمع شهادات هائلة العدد من الأعمال الأدبية والمسرحية والسينمائية، وكذلك من أعمال سيغموند فرويد ومدارس علم النفس المتعاقبة، كي يثبت الأثر التطهيري (من تطهير أرسطو) لهذه الأعمال في متلقيها ومؤديها معاً، وكي يبيّن الآثار الفيزيولوجية التي يخلفها البكاء والدموع في الإنسان الباكي.

النهر المثمر في العين

  • (أليس ماهر)
    (أليس ماهر)

حين تصل فرقة الممثلين في الفصل الثاني من مسرحية "هاملت" لشكسبير، يصف بولونيوس الممثل الذي وصف موت بريام كما شاهدته زوجته هيكوبا: "انظر كيف لم يتبدل لونه والدموع تغمر عينيه".

بالنسبة إلى هوراس، الشاعر الروماني، فإنّ الحقيقة العامة (والمسرحية) هي:

كما يضحك الإنسان مع الضاحكين

ويبكي مع الباكين

إذا رغبت في أن تبكي

يجب أن تذرف الدموع بنفسك

إذّاك سوف تنتابني أحزانك

التعاطف والقسوة والتسامي، هي الينابيع الرئيسة لاستجاباتنا الدامعة أمام القصص، لكنها ليست الوحيدة. قال مونتين: لقد كانت مجرد رغبة في الهروب تلك التي قادت الناس إلى "رثاء الخيال، دموع ديدو وأدريان".

ومع ذلك، فإنّ الاستجابات "الدامعة" للأعمال تتحدد زمنياً. فمسرحية راسين، التي أبكت باريس بأكملها منذ 300 عام، لن تُنتج بركاً من الدموع بالحجم نفسه لو أنها قُدمت في مسارح برودواي اليوم. افترض بعض علماء النفس أنّ كل هذه الدموع، الموجودة في الأعمال الأدبية، هي استجابات للفَقد.

هذا "النهر المثمر في العين" سيظل دائماً معنا في هذا العالم. في مسرحيته "في انتظار غودو" يضع صمويل بيكيت كلمات على لسان بوزو تقول: "دموع العالم هي سمة ثابتة، مع كل مَن يبدأ البكاء في مكان ما، هناك مَن يكف عن البكاء في مكان آخر".

يرى بيكيت حتمية الدموع التي لا معنى لها وجوهرها أنها تبدأ وتتوقف وهي ثابتة، مثل دوران الأرض، وليس لها معنى آخر غير ذلك الذي نمنحها إياه في رغبتنا المتداخلة كي نصنع معنى. مع ذلك كتب بيكيت في مكان آخر: "كلماتي هي دموعي"، مشيراً إلى عكس ما جعل بوزو يقوله. 

وقال أوفيد إنّ الدموع تكون في بعض الأحيان ثقيلة مثل الكلمات، وهي لغة الحزن الصامتة بالنسبة إلى فولتير، أما هاينرش هاينه فكتب: "هذا الشِّعر في دموع الإنسان!".

لقد تصدّى لوتز لسؤال وضعه رولان بارت قبل زمن: "مَن سيكتب تاريخ الدموع؟"، وكتب لوتز في نهاية كتابه: "كلنا سوف نقوم بذلك".