لماذا تنحاز أميركا لـ "إسرائيل" منذ تأسيسها؟

يُبيّن تسلسل الأحداث كيف عمل الرؤساء الأميركيون تِباعاً بالضغط على القيادة الفلسطينية للامتثال للمطالب الأميركية التي لم تكن غير المطالب الإسرائيلية ذاتها.

  • النقطة العمياء: أميركا والفلسطينيون من بلفور إلى ترامب
    النقطة العمياء: أميركا والفلسطينيون من بلفور إلى ترامب

"النقطة العمياء" هي مفهوم تقني يعني المنطقة التي لا يشاهدها السائق خلال جلوسه في مقعد القيادة، لا من خلال المرايا الجانبية ولا من المرآة الداخلية.

أما "النقطة العمياء" في السلوك السياسي فتشير إلى المسألة الأساسية التي "يعمى" السياسي متعمّداً عن رؤيتها خلال نظره في الموضوع الذي يتصدّى له، ويعدّها كأنها غير موجودة.

على هذا المفهوم بنى الباحث خالد الجندي كتابه، متسائلاً عن السبب، ليصل من خلال عرض الأحداث والقرائن إلى أن سياسة واشنطن تجاه القضية الفلسطينية قامت أساساً على نوع فظّ من التعامي المقصود عن فلسطين كبلد جرى احتلاله بالقوة الغاشمة، وعن الفلسطينيين كشعب استبيحت أرضه وكيانه الوطني وأغفلت جميع حقوقه البديهية.

يكشف التاريخ الأميركي أن نهج بايدن لا يختلف جذرياً عن سياسة كل الإدارات الأميركية منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي عام 1948. وهذا واضح عبر مختلف الإدارات (الحديثة) منذ فورد وكارتر وريغان، مروراً ببوش الأب وكلينتون وبوش الابن وأوباما وترامب، وصولاً إلى بايدن.

ولئن بدت إدارة ترامب الأكثر قسوة على الفلسطينيين، بوقفها تمويل "الأونروا"، ونفي حالة الاحتلال وإعلان القدس عاصمة للكيان وإنهاء كل تمثيل فلسطيني في واشنطن، فهي لم تكن أقل خُبثاً وعداءً عن الإدارات التي سبقتها، ولا عن الإدارة الحالية. بيد أن تصرفات بايدن تعدّ غير مسبوقة فى الطريقة التى تدعم بها واشنطن هجمات "إسرائيل" على المدنيين الفلسطينيين، إلى درجة رفض مجرّد الدعوة إلى وقف إطلاق النار، وما يصاحب ذلك من شحن يومي للذخائر والأسلحة الأميركية إلى "إسرائيل". 

والحقيقة أن الانحياز الأميركى الصفيق أثبت ويُثبت يومياً أن هذا هو نهج كل الإدارات الأميركية منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي عام 1948، وهو النهج المبني على العمى المطلق عن كل حقيقة في غير مصلحة "إسرائيل"، وذلك في سعي حثيث ومتواصل بلغ مع بايدن حدوداً لم يتخيلها أغلب الأميركيين أنفسهم. 

هذا ما يعرضه الكتاب مستنداً إلى الوقائع والأحداث.

"عملية السلام"...من يتذكر

يُفصّل كتاب خالد الجندي تاريخ السياسة الأميركية بعد 1967، وهي الفترة التي شهدت الظهور البطيء، ثم التراجع المطرد لما يُعرف الآن باسم "عملية السلام في الشرق الأوسط"، ويخلص إلى أن سياسات الولايات المتحدة المتواصلة جميعها في الشرق الأوسط، وتحديداً بخصوص القضية الفلسطينية، قامت على أساسٍ من هذا العمى المتواصل.

في الماضي، رفضت الإدارات الأميركية في عهد كل من ترومان وأيزنهاور وكينيدي جميعها التعامل مع مسألة الاحتلال وحق تقرير المصير للفلسطينيين، وأذعنت بشكل متواصل للإرادة الإسرائيلية، حتى أن الرئيس ليندون جونسون كان وصل إلى حدّ إنكار وجود قضية فلسطينية بالأساس، مُعلناً رفضه من موقعه في البيت الأبيض، إعادة أي لاجئ فلسطيني في العام 1948، مع توسيعه مبيعات الأسلحة إلى "إسرائيل"، ومنع الإجراءات التى تعارضها في الأمم المتحدة. 

ويلاحظ الكاتب "تواصل العمى الأميركي بشكل فاقع مع إدارات كلينتون وبوش (الأب والابن). فقد عزز الرؤساء الأربعة اختلال توازن القوى من خلال التركيز على أمور هامشية مثل إصلاح المؤسسات السياسية الفلسطينية، من دون معالجة الازدياد الهائل في عدد المستوطنين الإسرائيليين خلال سنوات أوسلو، والاكتفاء بالتنديد ببناء المستوطنات من دون بذل أيّ جهد لكبح هذه الجريمة، مع الادعاء بأن واشنطن تدعم قرار الأمم المتحدة رقم 242، بينما كانت الإدارات الأميركية "تُحدث ثقوباً فيه" من خلال اختراع ثغرات مُعيقة للسماح "بالنمو الطبيعي للمستوطنات".

ويُعرب الكاتب عن اعتقاده بأنه منذ انطلاق مفاوضات أوسلو في 1993، مالت الإدارات الأميركية المتعاقبة إلى تجاهل أو التقليل من شأن التفاوت الهائل في القوة بين الجانبين، وتجاهلت كون العلاقة بين الإسرائيليين (المسلحين حتى الأسنان) والفلسطينيين (الضحايا العُراة في حينه من أيّ سلاح)، ليست مسألة صراع فحسب، بل مسألة احتلال يسيطر فيه جيش محتلّ على حياة ملايين المواطنين المدنيين الفلسطينيين. ونظراً إلى الروابط الوثيقة بشكل غير عادي بين الولايات المتحدة والكيان، والتأثير المفرط للوبي المؤيّد لـ"إسرائيل" في الأوساط الفاعلة في واشنطن، كان من الأسهل والأقل تكلفة من الناحية السياسية بالنسبة إلى المسؤولين الأميركيين التركيز على أمور لا تتصل بالمسألة الأساس، مع الحرص الفاقع على ضمان أمن المحتلين، بدلاً من الضغط على القادة الإسرائيليين لكبح إقدامهم على احتلال أرض الغير وإقامة دولة فيها يحكمونها بالحديد والنار، وسط تجاهل وتعامٍ مقصود عن حقوق الأصحاب الحقيقيين للأرض والدولة التي كانت قائمة.

استبعاد الفصائل

يُبيّن تسلسل الأحداث كيف عمل الرؤساء الأميركيون تِباعاً بالضغط على القيادة الفلسطينية للامتثال للمطالب الأميركية التي لم تكن غير المطالب الإسرائيلية ذاتها، مع التقليل في الوقت نفسه من قيمة هذا الامتثال، وهو ما ساعد على زيادة تآكل شرعية السلطة الفلسطينية في تلك المرحلة، واستبعاد بعض الفصائل الفلسطينية من المفاوضات.

وعلى الصعيد الفلسطيني، يقول الكاتب إن القادة الفلسطينيين في ما بعد ركّزوا جهودهم على مشكلة معاكسة (تبيّن أنها وهمية)، إذ سعوا لأكثر من 4 عقود إلى تحقيق سلام دائم مع "إسرائيل" على أساس التسوية المتبادلة، لكنهم "افتقروا إلى القدرة، سياسياً ومادياً، على تحقيق ذلك".

هكذا تمكّن قادة الكيان بفضل الدعم الأميركي غير المحدود، من الإبقاء على الاحتلال والعمل على إدامته وتحصينه، ولم يتعرّضوا لأي ضغوط جدّية للانخراط في التفاوض لتغيير الوضع غير الطبيعي القائم. وخلال فترات تصاعد العنف، كان القادة الإسرائيليون "يفتقرون تماماً إلى الإرادة" للدخول في مفاوضات حقيقية، في حين أن تزويد واشنطن "إسرائيل" بحوافز اقتصادية وعسكرية وسياسية لا حدود لها، جعل قادة الكيان أقل استعداداً لتقديم أيّ تنازلات، بل سمح لهم "بتحمّل... تكاليف الاحتلال".

ويتابع: "... ومع دونالد ترامب، وصل العمى الأميركي إلى حدّ إلغاء الفلسطينيين بالكامل، كما فعل جونسون، فجرى نقل السفارة الأميركية إلى القدس التى أعلنها بتهوّره الوقح "عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل"...كل ذلك من دون أيّ اعتراض عربي ولا عالمي جاد، كأنما أُصيب العالم كلّه بمضاعفات العمى الأميركي إياه. 

وكان من شأن ذلك أن أدّى إلى تشجيع المتطرفين والمتشددين في الكيان، وتوسيع احتلالهم وارتفاع وتيرة العنف التي مضوا يمارسونها بشكل تصاعدي، وصولاً إلى السلوك الوحشي غير المسبوق وغير المعقول الذي يمارسونه حالياً في قطاع غزّة والضفة الغربية.

في معرض آخر، أشار الكاتب إلى مرحلة حسّاسة تراجع فيها اعتماد الولايات المتحدة على النفط والغاز المستورد من الخليج، بعد تحوّلها إلى دولة مصدّرة للغاز، بالتزامن مع ثورة النفط الصخري التي جعلتها أكبر دولة منتجة للنفط في العالم. ورأى أن اعتماد الصين على النفط المستورد من الخليج بنسبة 44% من استهلاكها، دفع واشنطن إلى جعل الوجود الأميركي في المنطقة ضرورة استراتيجية لقطع إمدادات الطاقة من المنبع عن بكين في حال اندلاع حرب معها، وكذلك لمنع توسع الحضور العسكري الروسي الذي بدأ يبرز في المنطقة.

صقور الإدارة في الكيان

من دون كثير من البحث والتدقيق، يتبيّن أن "العمى" الأميركي هو النهج التقليدي ذاته الذي تعتمده واشنطن حيال الفلسطينيين والمتميّز باتساقه عبر مختلف الإدارات الجمهورية والديمقراطية، بحيث يأتي سلوك الرئيس الحالي جو بايدن تتويجاً له، مع ملاحظة أن تصرفات الإدارة الحالية تُعدّ الأكثر تطرّفاً في الطريقة التي تدعم بها واشنطن هجمات "إسرائيل" على المدنيين الفلسطينيين في مدنهم وقراهم، ورفض أيّ دعوة إلى وقف إطلاق النار.

من هنا، لا يعود مستغرباً قيام بايدن بزيارة الكيان في أعقاب اندلاع عملية "طوفان الأقصى"، ومشاركته في أعمال "مجلس وزراء الحرب"، وإعلانه وقوف بلاده شريكاً كاملاً إلى جانب "إسرائيل" في حربها التدميرية على الفلسطينيين. كذلك زار "إسرائيل" وزيرا خارجية ودفاع واشنطن، ورئيس هيئة الأركان المشتركة، وقائد المنطقة المركزية، فضلاً عن مستشار الأمن القومي، ومدير المخابرات المركزية. وفي هذا الاتجاه، استخدمت المندوبة الأميركية "الفيتو" في مجلس الأمن لعرقلة أيّ قرار يدين الكيان. وبالتالي، دفع بايدن أساطيله إلى البحر المتوسط والخليج العربي والبحر الأحمر، ما أضرّ بنهج "تخفيف البصمة العسكرية الأميركية في المنطقة" التي أشاعها بايدن كشعار لإدارته، هذا النهج (الكلامي) الذي بلغ ذروته مع الانسحاب الأميركي الكامل من أفغانستان ثم من العراق، ليتحوَّل إلى بند رسمي في استراتيجية الأمن القومي التي نشرتها إدارة بايدن في العام 2022... وعدم الالتزام به. 

وفي حينه كتبت نائبة رئيس معهد "بروكينغز" مقالاً في "فورين أفيرز" قالت خلاله: " إن الحرب في غزة بددت الوهم القائل بأنَّ واشنطن قادرة على تخليص نفسها من المنطقة التي هيمنت على أجندة الأمن القومي الأميركي طيلة نصف القرن الماضي".

ذرائع كاذبة

في ملاحظة وردت في ثنايا الكتاب، يلفت المؤلف إلى أن "الولايات المتحدة كانت دائماً عمياء عن "الديناميات" الداخلية للسياسة الفلسطينية، فتبنّت مواقف منحازة إلى السياسة الإسرائيلية، وتراجعت باستمرار أمام القادة الإسرائيليين تحت ذريعة اللجوء إلى الانتخابات وتجنب انهيار حكومات الكيان الائتلافية.

من هنا، جاءت سياساتها المعتمدة غالباً على أساس السياسة الإسرائيلية ذاتها، وتراجعت باستمرار أمام ارتكابات القادة الإسرائيليين، ما أدى فى النهاية إلى ما جرى يوم 7 أكتوبر.

وحين يعرض الكتاب حالة العمى الأميركية الدائمة حيال حقوق الفلسطينيين، يردّها إلى ضغوط السياسة الداخلية الأميركية، والعلاقة الخاصة مع "إسرائيل"، التي لها جذور تاريخية عميقة، تعود إلى وعد بلفور في 1917 والانتداب البريطاني. ولئن اختلف حجم "النقطة العمياء" على مر السنين ومن إدارة إلى أخرى، بيد أنها بقيت موجودة على الدوام.

"ضعف الفلسطينيين نعمة"

يعرض المؤلف في فصل آخر من كتابه سلوك جميع الإدارات فيقول إنها رفضت بأجمعها التعامل مع مسألة تقرير الفلسطينيين مصيرهم، حيث أذعن الرؤساء الأميركيون باستمرار لكل ما هو في مصلحة "إسرائيل".

وينتقل إلى الإضاءة على ما عدّه "خطة إبقاء الفلسطينيين خارج العملية الدبلوماسية" خلال إدارات نيكسون وفورد وريغان، وذلك بجهد قاده هنري كيسنجر الذي رفض التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية، واهتم بأن يطيل ما سمّاه الأميركيون "مفاوضات" لأطول فترة ممكنة(...)، مُستدركاً أن الاستثناء الوحيد كان صنيعة الرئيس كارتر الذي بذل جهداً واضحاً في الاتجاه السليم، إنما من دون نتيجة، حيث كانت يداه مقيّدتين إلى حد كبير بأفعال أسلافه.

وفي عودة إلى كيسنجر، يقول إنه ونتيجة الأطروحة التي أطلقها والقائلة بأن "ضعف منظمة التحرير الفلسطينية سيكون نعمة للسلام والاستقرار". وبهذا، أثمرت جهود الرؤساء الأميركيين انخفاضاً كبيراً في شرعية المنظمة داخل الأوساط الفلسطينية التي كانت منفردة بالتفاوض عن الشعب الفلسطيني. أما تحويل قادة هذه السلطة ورموزها إلى ما لقّبته أميركا و"إسرائيل" بـ"شركاء سلام مناسبين"، فقد أدّى إلى تآكل شرعيتهم السياسية وتفتيت السياسة الفلسطينية ذاتها. وبذلك، فقدت المنظمة قدرتها على السيطرة على الفصائل الفلسطينية المختلفة التي رفعت ساعد المقاومة، الأمر الذي مهد الطريق لارتفاع الهجمات الفلسطينية ضد المحتل الإسرائيلي، وبالتالي ظهور حركة "حماس" في أواخر ثمانينيات القرن العشرين.

الخاتمة

يقول الكاتب إن ما انهار صبيحة 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 في غزّة لم تكن القوة العسكرية الإسرائيلية وحدها، إنما انهارت الاستراتيجية الأميركية للشرق الأوسط برمتها. لذلك، طلب البيت الأبيض من الكونغرس دعماً لـ"إسرائيل" على وجه السرعة بقيمة 14 مليار دولار في البداية، تلته سلسلة من مختلف أشكال المساندة، مع إقامة جسر جوي لتزويد الكيان بالسلاح والعتاد لا يزال قائماً. وكل هذا بسبب إصراره على التمترس في "النقطة العمياء" عن الحقائق.

وعلى الرغم من قول بايدن في تصريحه الشهير إن "الوقت قد حان لإنهاء الحروب الأبدية التي كلفت الولايات المتحدة دماءً وأموالاً لا حصر لها"، بيد أنه نقض هذا الإعلان بسلوكه المستفزّ، متمترساً بمفعول "النقطة العمياء" التي ما تزال أسلوب واشنطن في النظر إلى حقائق القضية الفلسطينية.