لماذا منع معرض فرانكفورت الجائزة الأدبية عن الفلسطينية عدنية شبلي؟

كان من المفترض أن تكرم عدنية شبلي غداً الجمعة تكريماً لروايتها "تفصيل ثانوي" التي تتحدث فيها عن اغتصاب فتاة وقتلها من قبل الضابط صهيوني وجنوده بأسلوب يفسّر العقلية التي يتحرّكون بها مثل عبارات "من ينوي قتلك عاجله بالقتل". 

  • رواية
    رواية "تفصيل ثانوي" لعدنية شبلي

أكذوبة الديمقراطية في العالم الغربي كشفت عن وجهها العاري في الكيل بمكيالين بالنسبة لقضايا الشعوب، وخاصة تلك الأوهام التي يبيعها والشعارات التي يتشدّق بها عن الحرية والعدالة والحرص على مصير المستضعفين في العالم. فعلى الرغم من أن رواية الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي "تفصيل ثانوي "Ein Nebensache" حظيت باهتمام بالغ من قبل النقّاد، وقد تمّ إدراجها في القائمة المختصرة لجائزة الكتاب الوطني للأدب المترجم لعام 2020، كما سبق أن وصلت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر الدولية في العام التالي، وأيضاً سبق أن حصلت مرتين على جائزة القطان للكتّاب الشباب في فلسطين عن روايتها العربية "مساس" عام 2001 ، وعن رواية "كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب" في عام 2004، وكلّ ذلك لم يمنع منظّمي جائزة لابيراتور (liberatur preis)   الممنوحة لها من القيام بتأجيل أو ربما إلغاء منحها الجائزة المقرّرة في معرض فرانكفورت للكتاب على خلفية الأحداث المتوترة في غزة وفلسطين بشكل عام وانحيازها السافر إلى دولة الاحتلال.  

تحاول عدنية شبلي في روايتها "تفصيل ثانوي" التي صدرت عام 2017 أن ترسم تفاصيل نصّها عبر زمنين مختلفين تستعيد في الجزء الأول أحداث زمن سابق يعود إلى ما جرى في 13 آب/ أغسطس عام 1949 في صحراء النقب بعد النكبة بعام، حيث تصف بحيادية بالغة ما حدث في تلك الفترة من قتل المتسللين العرب، وحادثة اغتصاب فتاة وقتلها من قبل الضابط المسؤول وجنوده بأسلوب يشي ويفسّر العقلية التي يتحرّكون بها مثل عبارات "من ينوي قتلك عاجله بالقتل". 

وفي هذا الجزء نكتفي بعرض الوقائع من دون إيضاح أيّ ردّ فعل تجاهها، وفي الجزء الثاني وهو الأوسع تعبيراً واستفاضة في شرح ملابسات وقائع الاحتلال والنكبة في استعراض واقع الحال في ظل الاحتلال، حيث رسمت الساردة حدوداً لحركتها لا تتعداها مفسّرة هذا الإرباك في مفهوم الحدود وصعوبة تجاوزها بأننا نفتقد الحرية، عبر تصريحها بأننا نعيش تحت احتلال، ولا بأس من إغفال الماضي أحياناً إذا كان الحاضر أشدّ هولاً وفظاعة منه. 

إذ يلفت نظرها، نظر الساردة تقرير لمراسل إسرائيلي توافق صدفة مع يوم ميلادها في حادثة قتل فتاة واغتصابها في زمن سابق، وليس لأنّ ميلادها يعبّر عن احتفائها بالحياة، فهي غير سعيدة ولا تحبّ حياتها المقيّدة بالحدود، بما ينبغي وبما لا ينبغي، ولكنها بطبعها تهتم بالتفاصيل الصغيرة أكثر من العامة لأنها قد تكون أسلوباً للوصول إلى الحقيقة. فمثلاً تهتمّ بخراء الذبابة على اللوحة أكثر من اللوحة ذاتها، وتتبع أسلوب قصة داخل قصة لتأكيد وجهة نظرها في سرد حكاية "ثلاثة أخوة التقوا رجلاً أضاع جمله وبدأوا برسم صورة للجمل، مما جعل الرجل يوقن أنهم رأوه ويتهمهم بسرقته ويأخذهم إلى القاضي، الذي برّأهم عندما بيّنوا له كيف قيّض لهم أن يصفوه من تفاصيل صغيرة متروكة على آثار قدميه وسيره وبقايا مما كان يحمله"، مما يفسّر اهتمامها بفكرة الاستقصاء والبحث عن حادثة حصلت منذ ربع قرن.

فهي باحثة فلسطينية تسأل الصحافي الإسرائيلي صاحب التقرير عن وجود وثائق للحادثة، ومن خلال استدلالها على أرشيف وقوع الحادثة تكشف عن واقع البلدات الفلسطينية بعد الاحتلال، والتقسيمات الإدارية التي وضعت بين المناطق الفلسطينية منطقة "أ" ومنطقة "ب" ومنطقة "ج"، ولكل منطقة شروط وموانع للوصول إلى الأخرى. وهي كفلسطينية فمجرد تكلّمها باللغة العربية خارج منطقتها سبب كاف ليضعها في بؤرة الاتهام ممّا دفعها لاستعارة بطاقة هوية إحدى صديقاتها للذهاب إلى المنطقة "ج"، ومع كل الترتيبات التي احتاطت لها يطلّ حاجز الخوف مع عبور حاجز قلنديا، الخوف الذي يشلّ المرء عن القدرة على الفعل، ويبدأ صراع من نوع جديد في مخاطر العودة إلى مكان جريمة حدثت منذ ربع قرن. 

الرحلة المجنونة التي غامرت بها للبحث في أرشيف المدوّنات الإسرائيلية كانت ممراً كي تستعرض الظروف المقيّدة التي يعيشها كلّ فلسطيني في الأرض المحتلة، إذ هو واقع الفلسطيني المحاصر في بلده، من بندقية العسكري المصوّبة على حواجز النقل؛ إلى خلع الثياب للتفتيش خلال الفحص الأمني على حاجز ما؛ ومقتل الشبان الثلاثة والغبار الناجم عن تفجير البناء الذي احتموا به، وهي أثناء تجوالها تستعرض الأسماء الحقيقية للقرى الفلسطينية باستلهام إحدى الخرائط العتيقة التي طمست آثارها وغيّبت، إذ تبيّن أنه لم يبقَ سوى قرى أبو غوش وعين رافا بعد أن دمّرت "إسرائيل" القرى الفلسطينية  بعد تشريد أهلها مثل "لفتة والقسطل وعين كارم والمالحة والجورة وأبو شوشة وساريس وعنابة وجمزو وعين طريف، خربة العمور-بير ماعين والبرج وخربة البويرة وبيت شنة وسلبيت والقباب والكنيسة وخروبة وخربة زكريا والبرية ودير أبو سلامة والنعاني وجنداس والحديثة وأبو فضل وكسلا  وبيت سوسين" وقرى أخرى كثيرة. وذلك في أسلوب توثيقي لجغرافيا مسحت عن المكان بفعل التهجير الذي حصل، وأقامت مكانها حكومة الاحتلال منتزهاً كبيراً أسمته "كندا" أقامته على جثث أهل المنطقة الذين رفضوا مغادرة أراضيهم. 

هي تفاصيل صغيرة تشي بوجود سكان آخرين سابقين تركوا آثارهم الواهية في المكان الذي اشتغلت قوى البغي على طمس معالمه. 

كما تستعيد جرائم عصابات الهاغاناه التي غطت دخول ثلاثمئة شاحنة محمّلة بأكثر من ألف رجل إلى منطقة النقب بالقرب من رفح والحدود المصرية بتعبير الوثائق الموجودة في المتحف الاسرائيلي عن مستوطنة نيريم واسمها الأصلي دانغور، وهي تستعرض توثيق ذلك التاريخ بعين الآخر، وكيف يعبّرون عن انتصار الإنسان بالقوة والعزم على الاستمرار باليافطة المتروكة في أول المستوطنة "ليس المدفع الذي سينتصر، إنَّما الإنسان"، وكيف يرسمون صورة مشرقة لعدوانهم وسلبهم لأراضي الآخرين. 

فهي منذ البداية تؤكّد لنا أنها تبحث عن تفصيل ثانوي في لوحة المأساة الفلسطينية عبر لعبة تشويقية تجعلنا نترقّب ذلك الشيء الثانوي، لنعرف أنها تبحث عن المشهد ذاته الذي عرض في الجزء الأول من النص وهو مشهد جنود يأسرون فتاة ويغتصبونها ويقتلونها بعد ذلك، ونباح الكلب الذي يرافق ذلك الفعل وكأنه صراخ أبدي يوثّق جريمة تأبى النسيان، عواء يوقظ الذاكرة رغم محاولتها التناسي والتعافي من ذكرى مؤرقة تخذ الوجدان والضمير. 

ذلك التفصيل الذي تؤكده هو رمز لاغتصاب وطن وتهجير أهله في منافي الأرض، وأن القتل والتهجير والاغتصاب سمة دائمة؛ وصفة غالبة؛ وحالة عامة؛ من جرائم الاحتلال.

اعتمدت الكاتبة في نصها على ذلك التشويق الذي عملت عليه لنعرف أخيراً ذلك التفصيل الثانوي الذي اعتبرت أن مجرد معرفتها به تجاوز للحدود وتوافق ما يحصل اليوم مع ما حدث منذ ربع قرن، في تأكيد أن لا شيء ينسى، القضية حاضرة طالما الجرح ينزف ولا شيء يموت، فهو كما العشب الذي نظن أنهم اقتلعوه من جذوره لكنّه يرجع وينبت من جديد ويبشّر بقيامة جديدة.