"ليل" محمد ملص.. الفيلم كأداة كتابة

بعد 28 عاماً على عرضه الأول، يعود فيلم "الليل" إلى دائرة النقاش.. فما قصته؟

بعد 28 عاماً على عرضه الأول، يعود فيلم "الليل" (سيناريو محمد ملص وأسامة محمد، إخراج محمد ملص، إنتاج المؤسسة العامة للسينما مع شركة ماران للسينما)، يعود إلى دائرة النقاش ضمن فعالية 35 Cine-club نصف الشهرية في صالة "زوايا"، محتفظاً بطزاجة الأسئلة التي طرحها رغم مرور كل تلك السنوات، إلى جانب حيوية اللغة الفنية وجمالياتها العديدة.

يحكي "الليل" قصة ابن باحث عن ملامح أبيه المجاهد في ذاكرته وذاكرة والدته، ومن خلالها يقدِّم الشريط السينمائي (120 د.) رؤية لتاريخ سوريا منذ العام 1936 وحتى أوائل فترة الانقلابات العسكرية عام 1941، مصوِّراً كيف خيَّم الليل السياسي عليها، وتعززت الظلامات فيها، محطِّمةً الروح الثورية العفوية، بذريعة أن السياسة كفيلة بتحقيق ما عجزت عنه تلك الروح، لتتوالى الهزائم تلو الهزائم رغم ادعاءات الطغاة بالانتصارات المستمرة، وبهرجة تلك الانتصارات بالأوسمة والشعارات الرنانة والاحتفالات الكبيرة.

الفيلم جعل من ليل مدينة القنيطرة وانعكاس المتغيرات السياسية عليها نموذجاً عن ليل سوريا ككل، ومن المجاهد الحموي "على الله" (فارس الحلو) الذي هجر بلدته ذات يوم من عام 1936 من أجل الدفاع عن فلسطين منضماً إلى ثورة القسام مثالاً عن النضال العفوي غير المنظَّم، والذي أدى إلى عودته منكسراً، مختنقاً، حافياً، جائعاً، لذلك جرَّب بعد زواجه من ابنة العشّي "وصال" (صباح الجزائري) العودة مجدداً إلى فلسطين مع جيش الإنقاذ، واعداً إياها بأن يحضر لها برتقالاً من يافا، لكنه يرجع خائباً مرة أخرى، ومن دون سلاحه هذه المرة، بعدما استولى عليه وعلى الحدود قوات فرنسا الحرة، وتُهان كرامته في السجن إثر عودته مباشرةً بعدما اتهمه العشّي (رياض شحرور) بسرقة ليراته الذهبية، ليخرج بعدها ويُكسّر دُكَّان حَميه، ويُكمِل حياته في القنيطرة بوعيٍ فريد وبنظرة ثاقبة لما آلت إليه الحياة السياسية من خداع وشعارات فارغة.

وكأن تجربته النضالية قادته لامتلاك نضج سياسي وحدس صائب، جعله يبصق على كل المظاهرات الزائفة، والتي أفقدتنا فلسطين وجعلت الجنود الإسرائيليين يُطلُّون على القنيطرة. رؤيته المغايرة لما يحصل كانت سبباً في سجنه وتلقيه الإهانة تلو الأخرى، ليموت مُكدَّراً ومهموماً في جامع الشركسي لنرى ابنه "على الله" الذي يحمل اسمه ذاته، يحاول صناعة موت أبيه المشتهى، بعدما ورث عنه الأحلام وبقايا الكرامة وحملاً ثقيلاً من ليل البلاد وسذاجة ثورية لا تفضي إلا إلى مزيد من الهزائم.

فيلم "الليل" مشبع بلقطات تعبيرية ذكية، مع بعض الملامح التسجيلية التي تبرز من خلال العناية بالتفاصيل، ومحاولة تثبيت الزمن، والأهم أنه مُعبَّأ بالأسئلة، ويدعو المشاهد إلى أن يكون شريكاً في تفكيك بعض رموز الصورة، واقتناصاتها الجمالية، من مثل النصب التذكاري لقرني الكبش الذي أزاح الديكتاتور الستار عنه وسط احتفالات ومفرقعات نارية، والمغزى من وراء تعدد الشخصيات للممثل الواحد كرياض شحرور في شخصيتي العشي ومرافق زعيم الكتلة الوطنية، وكأنه تصوير بليغ للانتهازي الذي تقوده مصلحته، فهو مع الفرنسيين يقدم لهم وجباته، وكذلك ملازم لعاصم بك مع الكتلة الوطنية ثم هو مع المخفر ودرك الجندرمة، وأيضاً رفيق سبيعي في دور صاحب حانوت تركي ثم ثائر مع المجاهدين 1936 وبعد ذلك في دور الرئيس شكري القوتلي، والتنوُّع الكبير في سكان القنيطرة بين العرب والشركس وشهدائهم الذين سقطوا في سبيل فلسطين، وبائع الأسطوانات اللبناني، والمرأة الفرنسية مع زوجها طبيب الاسنان، والأرمن والأتراك،...

وإذا أضفنا إلى مقولات الفيلم واستعادته لذواكر واقعية ومشتهاة ومحكية، جماليات أداء الممثلين وحركة الكاميرا واللعب الجميل بين الإظهار والإخفاء، التعتيم والإبهار في الصورة (تصوير يوسف بن يوسف)، وذكاء المونتاج الذي أنجزه قيس الزبيدي، يمكننا القول بأن فيلم الليل حقق مقولة ألكسندر أستروك صاحب تعبير "الفيلم- القلم" بأن الفيلم حرر نفسه بالتدرج من طغيان الحكاية المباشرة الواضحة متحولاً إلى أداة كتابة في طواعية الكلمة المكتوبة ووقتها.

وفي الجلسة الحوارية أوضح المخرج ملص أنه كان لديه رغبة بصناعة فيلم ينتمي إلى سينما المؤلف الذي تختلط فيه التجربة الذاتية مع التجربة الوطنية العامة، واسترجاع الزمن والتعبير عنه برؤية ذاتية وشخصية، للانطلاق منه نحو التعبير عن صوت الناس وآلامهم وأفراحهم وانكساراتهم وأهدافهم في مجتمعات أكثر عدالة وحرية، قائلاً: "السينما لا تعتَق وتصبح أكثر راهنية وإلحاحاً وضرورة وتعبيراً مع مرور الزمن. الفيلم يحكي وكأنه صُنِع اليوم، والسينما قادرة على التأثير إن صنعت بإخلاق وصدق وأخلاق".

كما تحدث عن 4 أنواع من الذاكرة شملها فيلم الليل و"هي الذاكرة التي لم أرها وأسميتها الذاكرة المعاشة، وكنت أمتلك الحق بأن أتخيلها أو أرسمها بواقعيتها التي تنتهي بالفيلم عندما قالت وصال بأن الإنسان وكأنه يعيش لحظة واحدة مديدة من العمر، يعيدها ويشمّها ويفكّر فيها كلحظة لا تنسى. وكي لا أبعثر الذاكرة وأدخل في سياقات الصح والخطأ بالمعنى البصري، وضعت إضافة إلى الذاكرة المروية المعاشة الذاكرة المرئية التي بدأت مع دخول الطفل إلى الشارع ودوران الناعورة الهوائية ورؤيته للسجين، ثم حتى الوصول إلى اللحظة التي كاد يُقتل بها الصبي ثمة ذاكرة متخيلة، وكل ما يخص الأب وموته اسمه الذاكرة المشتهاة. كان الابن يصنع لأبيه المجاهد الذي مات إثر انقلاب حسني الزعيم كمداً، موتاً مشتهى أمام الاحتلال الاسرائيلي لمدينة القنيطرة".

وإجابةً عن سؤال "الميادين الثقافية" حول كيف يبرر التغيرات الحاصلة على شخصيات الفيلم التي انحصرت بشخصية الأب "على الله" والتي جاءت نتيجة الانعطافات السياسية، قال ملص: "البطل هو الوحيد الذي بادر للدفاع عن فلسطين، وعاد وهو أكثر إدراكاً ووعياً لمرحلته، لكنه بالنتيجة يشبه الآخرين، إذ يتزوج ويعيش حياته من النجارة، لكن وعيه رغم أنه مختلف، إلا أنه لم يغادر بيئته، وبقي شخصية دينامية حية، لكنها بكاملها تنتمي إلى البيئة والحالة العامة".

وفي ردِّه عن الآلية التي استطاع من خلالها الوصول بالممثلين إلى مثل هذه العفوية الآسرة، أوضح بأن ذلك عائد إلى التفكير الدائم بخيار الخطأ والصواب، لأنه من الضروري على المخرج فهم الممثل ومعرفته ومعرفة مكامن عجزه، بحيث يصبح الموضوع إما قتل أو حياة، بناءً على درجة الصدق الموجودة، ولا يخفي ملص التصادف الذي كان حياةً دائماً بينه وبين ممثليه، قائلاً: "لا يمكن أن تحوِّل العلاقة مع الممثل إلى عناوين إدارة الممثل، فالإدارة تكون الأرضية، لكن العلاقة الشخصية والطموح لديّ هو ما يخرج من داخل الممثل شيئاً حتى هو لا يعرفه، وهذا لا يوصف لكنه يعاش من الممثل ومدى رغبته وقناعته بما يجسده".