ما أجملها حرة

الثابت أن نظرة المجتمع إلى المرأة وطريقة تعامله معها تكشف لنا مدى تقدمه أو تخلفه، والأكيد أن ما من مجتمع يتقدم ما دام ينظر إلى نُون النسوة وكأنها حرف ناقص غافلاً عن كونها أولاً نُون الإنسان.

  • لقطة من مسلسل
    لقطة من مسلسل "ع أمل"

قليلة جداً هي المسلسلات التلفزيونية التي تتناول قضايا جوهرية شائكة وحساسة، إذ غالباً، وكما كتبنا أكثر من مرة، تدور معظم الأعمال في الفلك نفسه. فلك الجريمة والانتقام والحب والغرام، وهذه أمور من صلب الحياة، لكن الحياة لا تقتصر عليها وحدها. ولئن كانت الدراما التلفزيونية السورية والمصرية تناولت بعض القضايا الحساسة، تاركةً في بعض الأحيان أثراً جيداً (فيلم "أريد حلاً" الذي ساهم عرضه في تغيير قانون الأحوال الشخصية)، بيد أن صنّاع الدراما اللبنانية كانوا أقل حماسة للمواضيع الشائكة؛ تجنباً لِـ "وجع الرأس"، وسعياً لتسويق أعمالهم، بعيداً من الخطوط الحمر!

اللافت هذا العام من بين المسلسلات التلفزيونية اللبنانية التي تم بثّها خلال شهر رمضان، مسلسل "ع أمل" إنتاج شركة "إيغل فيلم" تأليف نادين جابر، إخراج رامي حنا، بطولة ماغي بو غصن، مهيار خضور، عمار شلق ونخبة من الممثلين اللبنانيين الذين قدموا جميعاً أداء ممتازاً. عمل تناول قضية حيوية حساسة هي قضية القمع والعنف اللذين تتعرض لهما المرأة في المجتمع الذكوري، ويتسببان في قتل أحلامها وطموحاتها، وصولاً إلى حد قتلها شخصياً.

بعيداً من المسلسل وما أثاره من جدل ونقاش، والمأخذ عليه بجعل التعنيف الذكوري وقفاً على بيئة معينة. فعلى أرض الواقع، لا يمر شهر إلا ونسمع عن جريمة قتلٍ اقترفها زوج بحقِّ زوجته وَأمّ أولاده ورفيقة دربه، أو عاشق بحق فتاة رفضت الارتباط به. غالباً ما نكتشف بعد وقوع الجريمة أن الزوج القاتل كان يمارس أشكالاً شتى من التعنيف تجاه زوجته، ومع ذلك فإن غالبية النسوة تختار الصمت والتستر على واقع الحال المرّ خشية الفضيحة في مجتمع ذكوري يلقي بأوزاره كافة على المرأة، وفقاً لمقولة "خليها في القلب تجرح ولا تطلع لَبَرا وتفضح".

تتحمل النساء في بلادنا ما لا يخاله عقل من ممارسات عنفية قاتلة بفعل عوامل متعددة ومركبة، منها ما له علاقة بالحالة النفسية للمُعنِّف وبالتربية والمستوى الثقافي ونزعات التسلط والسيطرة وسواها من أسباب لا تبرر الجريمة بأي حال. فالقمع الهرمي الذي يحكم معظم المجتمعات العربية غالباً ما يلقي بثقله على المرأة. فالرجل الضحية من السلطة المستبدة، يتحوّل جلاداً في بيته. 

وكي لا نُتهَم من بعض الغلاة في ذكوريتهم بالانحياز الى المرأة على حساب الرجل فإننا لا نبرئ بعض النساء من ممارسة التعنيف، ولا يفوتنا ما نسمعه أحياناً عن قيام زوجة ما بقتل زوجها لسبب أو لآخر، لكن مثل هذه الحالات هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.

نافلٌ القول إن العنف ضد المرأة لا يصدر فقط من الأزواج. فالمرتكب يمكن أن يكون أباً أو أخاً أو عمّاً أو قريباً، وأحياناً مديراً أو زميلاً. فالتعنيف لا يقتصر على شكل واحد، بل تتعدد أشكاله وتتنوع من العنف اللفظي والتحرش والتنمر وصولاً إلى القتل.

ولئن كنّا ندين العنف أياً كان مصدره، وفي معزل عن جنس مرتكبه، فإننا نلاحظ تلكؤاً في إنزال العقاب اللازم بحقّ الرجل الجاني بدعاوى عديدة أبرزها حجة الشرف الجاهزة دوماً لتبرير جريمة الزوج حتى لو كانت زوجته ملاكاً، والمؤسف أن القوانين المرعية الإجراء مشوبة بثغرات فادحة يستطيع المجرم النفاذ منها والإفلات من العقاب المُستحَق. 

من الثابت أن التهاون مع المجرمين هو ما يشجع سواهم على ارتكاب جرائمهم لكونهم يعرفون مسبقاً أن العقاب لن يكون شديداً، وأن الأحكام بحق الرجل أخفّ بكثير منها في حقّ المرأة في حال كانت هي المُعنِّفة أو القاتلة، وأنهم سيجدون أصواتاً مدافِعة عنهم مبرِّرة ارتكاباتهم غير المبرَّرة أصلاً، لا في الشرائع الدينية ولا في القوانين الوضعية.

التجارب المؤلمة المتتالية تفيد بأن السكوت عن التعنيف بدعوى تجنب الفضيحة وتلافي كلام الناس والقيل والقال لم يعد جائزاً، والبرهان أن مَن سكتن واخترن الصمت لم يشفع لهن سكوتهن فرحن ضحايا هذا الصمت، والواقع أن من واجبنا جميعاً المساهمة كلٌّ من موقعه ومنبره في التصدي لهذه الظاهرة المتمادية، عبر محاولة بثّ الوعي وتعريف النساء بحقوقهن، وتشجيع المشرِّعين على سنِّ قوانين تساهم في حماية النساء وتشكل رادعاً حقيقياً لذوي النزعة العنفية والإجرامية، ولعل جزءاً كبيراً من المسؤولية يقع على عاتق المشرّعين، دينياً ودنيوياً، الذين ترتبط بهم قوانين الأحوال الشخصية في كثير من بلداننا، ويقفون سداً منيعاً في وجه أي تعديل أو تغيير للقوانين المجحفة بحق النساء.

دائماً نطرح على أنفسنا أسئلة من نوع لماذا تأخرنا عن ركب الأمم ولم نستطع اللحاق بالشعوب الأخرى مع أننا كنّا يوماً، سقاه الله، في الطليعة، والحقيقة أن نظرتنا للمرأة وطريقة تعاملنا معها تمثل أحد الأسباب الموجبة لتخلفنا في كثير من الميادين والمجالات. إذ لا يعقل أن يتقدم مجتمعٌ نصفه معطل ومقموع، أو عاطل من العمل ومن الأمل!.

نقول أحد الأسباب لا كلها، لكن الثابت أن نظرة المجتمع إلى المرأة وطريقة تعامله معها تكشف لنا مدى تقدمه أو تخلفه، والأكيد أن ما من مجتمع يتقدم ما دام ينظر إلى نُون النسوة وكأنها حرف ناقص غافلاً عن كونها أولاً نُون الإنسان. الإنسان الذي نراه مثنى لا مفرداً، أنس+أنس= إنسان، والإنسان هو امرأة ورجل معاً، وأي بحث آخر هو خلاف للطبيعة، طبيعة الحياة التي لا تستقيم ولا تثمر بغير زوجين اثنين، فما أشبه هذه الدنيا بسفينة نوح، لن ينقذنا من الطوفان فيها سوى العدل في الميزان.

——-

الآن في الطريق،(*)

الآن في السرير،

في السِّر، في العلن

في هَبَّة العناق

في رجفة البدن

في زحمة الشوق إليها

اقرأ لها، اقرأ عليها

أسمِعها بصوتك لا بصوتي

قُلْ لها كم تحبها

تُحبُّ الماء الدائم في وجهها

تُحبُّ الجمرَ المتأهِّب في جلدها.

عانِقها،

شُدَّ عليها

حاصرها، خاصرها

خُفَّ إليها، خَفْ عليها

لكن دعْها حُرَّةً، ما أجملَها حُرَّة.

———

*) من قصيدة الشاعر "خُذْ هذه القصيدة"