مارتن راندل: أدب الإرهاب في الرواية والسينما
يستشهد مارتن بما قاله الكاتب والروائي البريطاني مارتن أميس صاحب راوية "المال" في الدعوة إلى أدب عقلاني يؤدي دور الحصن الثقافي والفكري ضد الأصولية.
-
"11 سبتمبر وأدب الإرهاب" لمارتن راندل
يبحث البروفيسور والأستاذ في تدريس الكتابة الإبداعية؛ الأميركي مارتن راندل في كتابه "11 سبتمبر وأدب الإرهاب" الصادر عن دار معنى، في الكيفيّة التي تلقّت عبرها وسائل الإعلام والصحافة "حادثة 11 سبتمبر" وتبعاتها التي أفضت إلى أعمال أدبية لاحقة. ذلك أنها حادثةٌ تستمر في العودة إلى الذاكرة الجماعية، ولأنّ الجحيم الكبير للمشهد المرئي المتمثّل في الحادثة نفسها سبّبَ صدمةً مفاجئةً للطائرة التي ارتطمت بالبرجين، كما لو أنه أريدَ من مشهد الهجمات أن يشير إلى لحظةٍ تاريخية واضحة وإلى انقلابٍ كبير في السياسة العالمية.
ولأنّ الإجابات حول أحداث سبتمبر عديدة ومختلفة، تعثّرَ البحث عن الحادثة بشكلٍ جذريّ كلما ابتعدت المدة التي تلتها. وهي على حدّ تعبير الباحث ملاحظة تؤكد حقيقة تاريخية بديهية؛ تتمثّل في أنّ الأفراد والمجتمعات يحتاجون بعض الوقت حتى يفهموا أهمية أيّ حدث عامّ. وهو في الوقت ذاته الأمر الذي جعل من ردود الفعل تجاه أحداث سبتمبر تختلف على نحو هائل في النبرة والشكل من النصوص المتأخّرة.
تلك النصوص التي كانت تميل في البداية لتكون تقارير ناجين (شهود عيان) زوّدت الباحثين والكتّاب بالأدلة لصياغة ما كان يحدث وقتها والآثار الهائلة للحدث. إلا أن اللافت وجود عدد من الروائيين الذين قدّموا تأملاتٍ يُعتقد أنها موضوعية حول معنى ما حدث؛ وهي قصصٌ خلطت بين أسلوب الصحافة وأسلوب كتابة المذكّرات تمّت صياغتها بصوت (تاريخي) بعيدٍ عن الموضوعية، وقد أسهم إلى درجةٍ ما في مساعدة تشكيل خطاب الهيمنة للمأساة وترسيخ الذكرى.
وعلى اعتبار أنّ الخسارة كانت كبيرة في الأرواح، والأثر العاطفي والنفسي للهجمات غير قابل للقياس، فإنّ الإلحاح على الحداد ربما يكون مفهوماً، ولكن ما يركّز عليه الباحث هنا هو أسباب ظهور ذلك السرد المعقّد ونشوء ما بات يسمّى "أدب الإرهاب" الآخذ بالتطوّر، والماضي بصيغٍ سياسيةٍ وفنيات عالية التمثيل.
يقول البروفيسور مارتن: "إنّ السياسة التي عرفت يوماً ما بأنها تجيبُ عن سؤال "ما الذي يحدث؟" ملأت الجو فجأة، بينما لا يكتب الروائيون عادة عما يحدث، بل عما لا يحدث. ومع ذلك تتوق العوالم الإبداعية إلى قولبة وتشكيل المؤشّر الأخلاقي". ويتخذ من تلك النظرة التقليدية للرواية رافعةً لقيمة الرواية بشكلٍ واضحٍ ليتمكّن من نقد اللاعقلاني المنتشر في ثنائية (الإيمان ـــــ الأدب) وعلى الرغم من كونها ثنائية اختزالية، إلا أنها تظهر خطاباً للأدب يبرز مشكلة ملحة.
ولا سيما بالنسبة للكتّاب الذين تعاملوا مع أحداث 11 سبتمبر، إذ لم يكن لها أي سابقة. لذا فإنّ دمجها في البناء القصصي الواقعي يمثّل تحدّياً لأيّ روائي. ولذلك أيضاً عدّ الباحث أنّ الصعوبات التي واجهت الكتّاب في تمثيل الأحداث جعلت المشهد نفسه للبقاء غائباً عن الوصف الصريح. بمعنى أنه من الممكن فهم الحدث "بالنظر بعيداً عنه" لأنّ هناك معرفة ضمنية بين الكتّاب أنّ الأحداث تتجاوز التمثيل الأدبي ورمزياته المرئية والمباشرة. إلا أنّ كلّ هذا (يُصيَّر) التمثيل الخيالي غير الضروري.
ومن الجدير بالذكر إن إدراك أولوية الصورة المرئية للهجمات لا تكفي، بل أيضاً يجب إضافة فهم كيف قدّمت شهادات الناجين وشهود العيان الكثير من المعلومات العاطفية والوجودية. أما من جهة السينما، فقد تعاطت مع موضوعات مشابهة عن كيفية تمثيل الهجمات وعانت أيضاً، كما هو الحال في الأدب، حتى تستوعب كيفية ملائمة وضع الهجمات في سردٍ فيلمي.
في المقابل يشير مارتن إلى أنّ ثمّة ردّاً يقلّل من احترام ما خلّفتهُ الهجمات، وهو ردٌّ يظهر فيه، فيما يعتقد، أنه نوعٌ بديل عن أدب الإرهاب؛ أيّ الانتشار الهائل لنظريات المؤامرة المضادة. إذ صار بالفعل بإمكان أحدهم أن يقول بدلاً من أن يكون هناك "تعطّش جماعي للأدب" أصبح هناك بشكل واضح "تعطّش للمؤامرة". وقد سيطرت نظرية المؤامرة على ثلاثة مجالات أساسية هي: أولاً: الهدم المفتعل المزعوم للأبراج. وثانياً: التناقضات المزعومة المتعلّقة بالهجوم إضافة إلى الثغرات المزعومة في حادثة اختطاف وتحطّم الطائرة.
ويكشف الباحث أنّ كثيراً من الكتّاب شعروا أنهم مجبرون على الكتابة عن الهجمات بإحساسٍ أخلاقي قوي، إلا أنّ صعوبة جمالية في تمثيل صدمة كالتي فعلتها الأحداث واجهتهم. وهنا يستشهد مارتن بما قاله الكاتب والروائي البريطاني مارتن أميس (1949-2023) صاحب راوية المال في الدعوة إلى أدب عقلاني يؤدي دور الحصن الثقافي والفكري ضد الأصولية.
إضافة إلى أنّ النمو السريع للمعنى الثقافي للإنترنت يشير إلى مكانٍ خصب لازدهار نظرية المؤامرة؛ إذ تمّ سلبُ التفوّق التقليدي للرواية، لذا فإن الجمهور المنعزل؛ جسّد ملايين الناس القادرين على الإدلاء بآراء غير مدروسة ومتشكّلة على عجالة عن أيّ موضوع محتمل. إلى جانب الإنترنت التي ساهمت بشكل كبير في الوصول العالمي لهذه التفسيرات لكي تهيمن على فهم كثير من الناس فيما يتعلّق بالهجمات. والمعنى أنّ "القصة البديلة" لشعبيتها وسهولة الوصول إليها أثّرت بشكل كبير على تمثيل أحداث سبتمبر أكثر مما تقدّمه القصة الأدبية.
ويُعيدُ مارتن راندل الإشارة إلى ما قدّمه مارتن أميس من جهد في البحث وكتابة المقالات عن موضوع الإرهاب؛ إذ كان من الروائيين الأوائل الذين كتبوا عن الهجمات. وقد كانت كتاباته غير خيالية ويمكن رصد تطوّر الأفكار فيها. فكانت أعماله "الطائرة الثانية" و"حيث تنتصر القيم الأخلاقية" أكثر الأعمال ثباتاً وبالتأكيد الأكثر إثارة للجدل. إضافة إلى أنّ كتاباته سواء في المقال أو القصة أسهمت في عرض وجهة نظر غير متسامحة ووجّهت أفكاره عن الإرهاب وطبيعة الحرب عليه.
يختم الباحث دراستهُ بعد استعراض دراسات نقدية لعدد من الروايات والقصص التي تناولت موضوع "أدب الإرهاب" في وقت خلقت فيه الهجمات للكتّاب وصانعي الأفلام مشكلات ليست صغيرة. هذا النوع من الدراسات التي قام بها مارتن، وعلى الرغم من كونها مبكرة نسبياً، فهي تعدّ مساهمة في وقت تكون فيه بمثابة حاجة ملحة.
وهي أيضاً تشير إلى ضرورة البعد عن خطاب التقديس، والأسطرة، وتخليد الذكرى التي سيطرت على نوعية الكتابة عن الإرهاب. آخذاً بعين الاعتبار، ملاحظة النقّاد التحوّلَ نحو ردود أقلّ احتراماً. الأمر الذي يشير إلى أنّ الهجمات ستستمرّ في الظهور في الخيال ولكن بطرق أكثر إشكالية. بينما إذا ما قورنت التمثيلات الأخرى غير الأميركية لعالم ما بعد الهجمات، فإنّ معظم الروايات عالجت بوعي ذاتي الحوادث ودمجتها بافتراضات عفا عليها الزمن من العزلة الوطنية، والاكتفاء الذاتي.
إضافة إلى أنّ المزاج السائد لإحياء ذكرى الأحداث أوقف الكتّاب عن مواجهة الحقائق السياسية والاقتصادية بشكل كامل. إذ لجأ الكتّاب الأميركيون في تعاطيهم مع أحداث سبتمبر نحو الذاتية والمحلية والإقليمية. إضافة إلى هيمنة القلق الذكوري والقوالب النمطية "للآخر" والموضوعات المألوفة في الأدب الأميركي على عدد من روايات الهجمات. ولا ينسى مارتن راندل في نهاية بحثه الإشارة إلى العنصرية والاستياء إزاء أولئك الذين اعتُبروا من "المشتبه بهم" بعد الهجمات. وكتب مشيراً إلى الطرق الممكنة التي قد يتطوّر إليها "أدب الإرهاب" نظراً لأنّ الذكرى الأخيرة أتاحت الفرصة لإلقاء نظرة تجسّد الحوادث في الرواية والفن والسينما.