ماريو فارغاس يوسا.. رحيل آخر أنبياء الواقعية السحرية

وبّخته زوجته قائلة: "ماريو، أنت لا تصلح لأي شيء، سوى للكتابة". من هو أديب نوبل، ماريو فارغاس يوسا، الذي رحل عن عالمنا أمس الأحد؟

انطفأ، أمس الأحد، في العاصمة البيروفية، ليما، الروائي، ماريو فارغاس يوسا (1936- 2025)، آخر حاملي راية الواقعية السحرية التي دشّنت نهجاً تخييلياً فريداً في الأدب العالمي، نظراً إلى قدرة هذا الأدب على فضح الديكتاتوريات بسرد بلاغي يتجاوز الدعاوى الأيديولوجية الضيّقة، وصوغ الروح المحليّة بأصالة وشاعرية، وإرساء قواعد تقنية صلبة، وإذا بها تشكّل فضاءً كونياً. كما كان لمحاضرة خورخي لويس بورخيس في باريس مطلع ستينيات القرن المنصرم دور في تلقّف هذا الأدب، خصوصاً في إثر الانفجار الذي أحدثته رواية "مئة عام من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز، بوصفها "إلياذة القارة المجهولة". 

لم يكن ماريو فارغاس يوسا حينها جزءاً من المشهد. غادر بيرو إلى باريس وهناك اكتشف أنه لن يكون كاتباً فرنسياً رغم تسمية أصدقائه له "سارتر الصغير الشجاع". روايته الأولى "المدينة والكلاب"، تعرّضت للحذف في طبعتها الإسبانية الأولى، وأُحرقت نسخها في ليما. وبعد انتهاء حكم فرانكو، نُشرت كاملة. هذه الرواية ستكون المشتل الأول لرواياته اللاحقة، فهو اشتغل على ثيمتين أساسيتين هما "العسف السياسي"، و"العسف الجسدي". كأنه في مناوشته ديكتاتورية السلطة وديكتاتورية الجسد، يختزل آلام الكائن البشري وهواجسه في الانعتاق مما يكوي روحه ويؤجّل حضوره الإنساني الخلّاق. 

ولطالما رأى قرّاء كثر أنّ رواية "حفلة التيس" روايتهم الشخصية، في كشفها المريع لفظاعة الطغيان وتجلياته العميقة، عبر فضح شخصية طاغية مثل رافائيل تروخيليو الذي حكم جمهورية الدومينيكان بين 1930و1960. شخصيات الرواية تدخل القارئ عنوة إلى جحيمها مثلما تقوده في اللاوعي إلى استحضار ديكتاتوريات محلية مشابهة، أصابت روحه بالعطب ذاته. 

تختزل هذه الرواية بحذق ومهارة، المدوّنات السابقة التي اشتغلت على موضوعة الديكتاتوريات مثل "خريف البطريرك" لماركيز، و"السيد الرئيس" لميغيل استورياس. هنا يمزج صاحب "من قتل بالومينو موليرو" مواصفات المأساة الإغريقية بروح الرواية البوليسية من دون إهمال السرد الفوكنري (نسبة إلى فوكنر)، في تفكيك البنى الزمنية ومزجها بشراسة في وعاء جمالي واحد. 

الأدب سلاح ضد الطغاة

  • رافائيل تروخيليو
    رافائيل تروخيليو الطاغية الاستعراضي الذي يخبئ عينيه الوحشيتين وراء نظارة سوداء

يؤكد فارغاس يوسا أنّ الواقع يتجاوز في هوله المتخيّل، على خلفيّة الفترة التي عاينها ثمانية شهور في الدومينيكان، وكانت حصيلتها شهادات مروّعة عن حياة تروخيليو، هذا الطاغية الاستعراضي الذي يخبّئ عينيه الوحشيتين وراء نظارة سوداء: "كان خلال جولاته في البلاد، يقدّم له البسطاء بناتهم العذراوات هدايا، كما لو أنهم يقدّمونها إلى إله وثني". 

ولعل هذا الإفراط في "مديح القمع" بلور نصاً أخّاذاً في فضح احتقار الديمقراطية وحقوق الإنسان، ليس في أميركا اللاتينية وحسب، بل في معظم أنحاء الكرة الأرضية. 

يقول: "إن الأدب خطير على الطغاة، لأنّ الواقع متواضع مقابل ما نتخيّله في الأدب، فهو يدعو إلى التمرّد، وهذا ما جعل الأنظمة القمعية تخلق رقابات متشدّدة على الإبداع". 

بالجرعة التخييلية نفسها سيتوغّل يوسا في متاهة اضطرام الجسد، واحتدام روح إيروسية حادة، لا تقلّ وطأة عما خبرناه في الضفاف الأخرى. حتى إن القارئ يصاب بالذهول وربما الصدمة، أمام مكاشفات الجسد وشهواته ومجونه، في إحالات إلى كتاب القرن الــ 18، ورسوم الانطباعيين. هؤلاء الذين سعوا إلى "تحطيم التعارض المفترض بين الجسد والروح". 

في "امتداح الخالة"، و"دفاتر دون ريغوبيرتو"، و"شيطنات الطفلة الخبيثة" يذهب بكامل أسلحته نحو المناطق المجهولة والمحرّمة بمقاربات فرويدية، وذلك لاستجلاء أقصى هبات الحرية، واستعادة كيان الغريزة بصفتها جملة ثقافية معتبرة في تاريخ البشرية. 

في زيارته اليتيمة إلى دمشق (2006) يعترف ماريو بارغاس يوسا بأن وليام فوكنر هو أبوه الروحي لجهة الحبكة الروائية الصارمة وعناصر الإثارة والغموض، إضافة إلى غوستاف فلوبير الذي علّمه أن "الكتابة تتطلّب شغفاً وعناداً وعبوراً كي تصبح مهنة للعيش". لكن شهرزاد "ألف ليلة وليلة" علّمته تقنية الحكي المتوالد الذي يشبه الدمية الروسية والقدرة على الذهاب في التخيّل إلى حدود لا متناهية. 

"الكتابة مهنتي".. يوسا في قلب الأدب العالمي

  • ارتحل صاحب
    ارتحل صاحب "حفلة التيس" بين محطات فكرية متناقضة

تتمازج في روايات فارغاس يوسا حبكات متباينة، لا تطمئن إلى سردية ثابتة. وهذا ما يمنح كل رواية على حدة ألقها الخاص وأسلوبيتها المبتكرة. في "الفردوس على الناصية الأخرى" نتتبّع حياة بول غوغان في فصول متناوبة مع حياة امرأة عاملة، وإذا بها جدة الرسام الفرنسي المشهور. وفي "امتداح الخالة" تتزاوج قصة حب غريبة بين طفل وزوجة أبيه، على خلفية لوحات إيروتيكية تؤرخ للفن الإيروتيكي. في حوار معه، يقول صاحب "حديث في الكاتدرائية": "الكتابة مهنتي لكني لا أحب أبداً فكرة الانغلاق داخل عالم الفنتازيات. أحب أن أضع إحدى قدميّ في الشارع".

هكذا وضعته جائزة نوبل للأدب (2010) في عمق الشارع العالمي بعد ترجمة أعماله إلى نحو 30 لغة عالمية، واكتساب ملايين القرّاء الذين وجدوا في رواياته جانباً خفياً من أحلامهم ومآسيهم وحيواتهم الموازية. سنشير هنا إلى تحفته الكبرى "حرب نهاية العالم"، هذه الرواية المزلزلة التي أهدته جائزة نوبل باعتبارها نصّاً تاريخياً متشعّباً يتأرجح بين المادة الخام لحرب حقيقية وتصديراً للأمل البشري من جهةٍ أخرى بطرائق ومهارات نوعية تنطوي على صراعات دموية، وإذا بهذا المتن الثقيل ينتهي إلى "إلياذة" ما بعد هوميروسية تخصّ كل أنحاء الكوكب!

هكذا ارتحل صاحب "حفلة التيس" بين محطات فكرية متناقضة. إذ هجر النزعة الماركسية التي ميّزت بداياته نحو الليبرالية متأثراً بأفكار اليمين، ما أدى إلى قطيعة معلنة مع مجايليه أمثال خوليو كورتاثار، وكارلوس فوينتس، وغابرييل غارسيا ماركيز، لكنّ سطوته الأدبية ازدادت إشعاعاً من عملٍ إلى آخر. 

الأدب كمكافح للشقاء

  • ماريو فارغاس يوسا.. رحيل آخر أنبياء الواقعية السحرية
    ماريو فارغاس يوسا: الأدب أفضل ما اخترع لمكافحة الشقاء

ربما علينا أن نلتفت إلى كتابه المهم "رسائل إلى روائي شاب". إذ يقترح نصائح للروائيين الشباب مؤكداً في إحدى الرسائل أنّ الأدب" خدعة كبيرة، ولكنّ الأدب العظيم يتمكّن من إخفاء ذلك، بينما الأدب الرديء يكشفه ويفضحه"، ويضيف في رسالة أخرى إلى أن الأدب "أفضل ما اخترع لمكافحة الشقاء". 

في خطبة نوبل اختزل يوسا صورة العالم قائلاً إن: "من الكهف إلى ناطحات السحاب، من الهراوة إلى أسلحة التدمير الشامل، من حياة القبيلة إلى عصر العولمة، ضاعف متخيّل الأدب التجارب الإنسانية مانعاً بذلك أن يسقط الرجال والنساء تحت وطأة الخمول والانكفاء على الذات والاستسلام. ما من شيء زرع القلق، هزّ الخيال بهذا القدر كما الرغبات مثل حياة الكذب هذه التي نضيفها إلى تلك الحياة التي نعرفها بفضل الأدب كي نتعرّف في النهاية إلى هذه المغامرة الكبرى وإلى هذا الشغف الكبير الذي لن تقدّمه إلينا هذه الحياة الحقيقية".

سنردّد أخيراً عبارة كانت زوجته باتريسيا تقولها له من باب التوبيخ "ماريو، أنت لا تصلح لأي شيء، سوى للكتابة".

اخترنا لك