مثير للجدل.. أو سولجينتسين الذي رفض إحلال بوش محل ماركس

رأى أن بوتين "أيقظ الدب الروسي ليزرع الرعب في قلب أميركا". في ذكرى رحيله الـ14.. إليكم قصة ألكسندر سولجينتسين.

لا يزال اسم الأديب الروسي ألكسندر سولجينتسين (1918 - 2008)، الذي تُصادف اليوم ذكرى وفاته الرابعة عشرة، يثير كثيراً من الجدل. إذ كان دائم البحث عن الحقيقة وتقديمها كقوَّة حيّة، مُحوِّلاً دراساته ومشاهداته ورؤاه وأفكاره إلى أعمال أدبية لا تستكين، بل تُحرِّض على إزاحة الحُجُب عن المسكوت عنه، وتسليط ضوء مكثَّف على كل أشكال العسف والظلم التي تمارس على الإنسان، إذ وقف مع المهمشين والمضطهدين راصداً تناقضات الحياة الروسية وخباياها.

ولم يكتفِ بذلك، بل كان شرساً في هجومه -حتى خارج أعماله الأدبية- على الستالينية وممارساتها، وعنيفاً في فضحها كمنحى ذهني وأخلاقي وطريق سياسي يؤدي إلى العدم، كما يقول، كما دان كثيراً الرقابة الفكرية والاعتداءات على حرية التعبير وكَمّ الأفواه، وانتقد بشدّة الحرب العالمية الثانية بجميع أطرافها، وعندما استماله الغرب بسبب معارضته لسياسة الاتحاد السوفياتي، فإن سولجينتسين لم يوفره هو الآخر من الانتقاد اللاذع، وخصوصاً ما يتعلّق بفكرة إحلال الديمقراطية التعددية الغربية في بلده، فقال لهم: "هل يراد منا إحلال جورج بوش محل كارل ماركس؟".

"دوستويفسكي مرآةُ ذاتي"

  • ألكسندر سولجينتسين
    ألكسندر سولجينتسين

مذ قرأ سولجينتسين رواية "الحرب والسلم" لتولستوي في سن العاشرة، أدرك أنه سيصبح كاتباً، وتعزز ذلك مع دوستويفسكي بعدما رأى في نشأته ورواياته مرآةً لذاته، فكلاهما من أسرة متدينة، وقضى كل منهما سنوات في معسكرات الاعتقال بسبب مواقفهما الأدبية والسياسية، ولم تتكشف موهبتهما الأدبية كلها إلا بعد السجن، إضافة إلى أنهما درسا في مجالات لا علاقة لها بالأدب.

ففي مقابل الهندسة لصاحب "الجريمة والعقاب" اتجه سولجينتسين لدراسة الرياضيات والفيزياء بجامعة ريستوف عام 1936، وشغف بالفلسفة بعد قراءته كتابات كيركغارد وبرديائيف، وكل ذلك سخَّره لخدمة استقصاءاته الفنية، وبحثه الأدبي، وهندسة سردياته بمحبة الحكمة، ما جعله يتمرَّد حتى على مذهب الواقعية الاشتراكية في الكتابة ويؤسس في ما بعد للرواية الوثائقية.

بينما درس دوستويفسكي الهندسة اتجه سولجينتسين لدراسة الرياضيات والفيزياء. شغف بالفلسفة بعد قراءته لكيركغارد وبرديائيف، وكل ذلك سخَّره لخدمة استقصاءاته الفنية، وبحثه الأدبي، وهندسة سردياته بمحبة الحكمة، ما جعله يتمرَّد حتى على مذهب الواقعية الاشتراكية ويؤسس في ما بعد للرواية الوثائقية.

واعتقد أن مسيرته الإبداعية عموماً أسّست واستمرت على ركيزتين هما: سؤال تولستوي "ما القوة التي تحرك الشعوب؟"، وثانياً إيمانه بما قاله دوستويفسكي من أن "الجمال سيحرّر العالم"، وهو ما استشهد به ضمن رسالة تسلّمه "جائزة نوبل للآداب" عام 1970.

وسَخَّر "آخر الأدباء الكلاسيكيين الروس"، كما يسمّيه النقاد، تاريخَه الشخصي لخدمة أدبه، منذ ولادته يتيماً لأبيه الذي توفي قبل ولادته بأشهر قليلة أثناء خدمته في الحرب العالمية الأولى، والصعوبات التي عاناها مع والدته بعدما أُمّم الاتحاد السوفياتي ثروة أسرتها، ثم نشأته المُتديِّنة وتفكيره بأن يصبح كاهناً، إلى التحاقه بالجيش عام 1941 وانتمائه إلى فرقة المدفعية لبراعته في الرياضيات، ثم سجنه في شباط/فبراير عام 1945 ضمن معسكر الاعتقال "الغولاغ" ثماني سنوات بسبب رسالة إلى أحد أصدقائه تضمّنت نقداً لسياسة ستالين، وبعد خروجه من السجن نفي إلى كازاخستان حيث عمل مدرساً.

بين الحرية والعبودية

كما أن إصابته بالسرطان عام 1953 ومعايشته الاقتراب من الموت دفعتاه إلى كتابة رواية "جناح السرطان" وقدم من خلالها صورة المجتمع الذي يعيش فيه بين الحرية والعبودية، الخير والشر، وبعد اكتشاف ورم آخر في جسده عام 1955 بدأ كتابة روايته القصيرة "يوم من حياة ايفان دينيسوفتش" التي أحدثت حين نشرها عام 1962 انقلاباً في الحياة السياسية والاجتماعية والأدبية داخل الاتحاد السوفياتي، حتى إن نيكيتا خروتشوف الذي أجازها قال بعد قراءته إياها: "هناك ستاليني في كل واحد منكم. حتى إن هناك ستاليني في داخلي. يجب أن نقتلع هذا الشر".

مع سقوط خروتشوف ارتفعت أصوات خصوم سولجينتسين، وباتت أشبه بحملة رسمية ضده بقيادة الـ"كي جي بي"، إذ تمت ملاحقته ومصادرة مخطوطاته ومحاولة منع كتبه والترويج لها، وبدأ التعاطي معه كعدو للبلاد.

نجاح تلك الرواية، أغراه بمتابعة هجائه الستالينية، فعمل في جمع الوثائق لعمله "أرخبيل غولاغ" واستغرقه ذلك 10 سنوات، لتأتي هذه الرواية المركزية في أدبه، أشبه ببحث تاريخي، وملحمة مشبعة بالأسى والنقمة على شرور المعتقلات، مع أحداث واقعية، وشهود حقيقيين، وجرى تجديل كل ذلك بتأملات نفسية وفلسفية لتفسير العنف، ما جعل أدب سولينجستين بمثابة مدفع أدبي في وجه خصومه السياسيين والأدبيين على حد سواء، وكان حُساماً ماضياً في الفصل بين الخير والشر، وبين الحقيقة والزيف، لدرجة استطاع معها أن يُعيد كتابة التاريخ عبر شخصيات مشبعة بالتحليل النفسي والاجتماعي، مع تأملات فلسفية، ووثائق وشهادات من الصعب دحضها، وكل ذلك مندغم مع ألم شخصي ورغبة متوقّدة في إحقاق الحق والدفاع عن القيم الأخلاقية باعتبارها مهمة الأدب، كما يقول.

لكن، بسقوط خروتشوف عام 1964 ارتفعت أصوات خصوم سولجينتسين، وباتت أشبه بحملة رسمية ضده بقيادة الـ"كي جي بي" (جهاز الاستخبارات الروسي)، إذ جرت ملاحقته ومصادرة مخطوطاته ومحاولة منع كتبه وترويجها، وبدأ التعاطي معه كعدو للبلاد، خصوصاً بعد طبعات سرية لرواية "الدائرة الأولى" عام 1968، حيث فصل من "اتحاد الكتاب السوفيات" بعدها بعام، وزادت شراسة الحملة ضده بعد حصوله على جائزة نوبل عام 1970، ما دفعه بعد ذلك بأربعة أعوام إلى إطلاق "نداء موسكو" داعياً فيه إلى السماح بحرية التعبير وإنشاء الأحزاب غير الماركسية، وعدم ملاحقة التيارات الدينية، وهو ما تسبّب بسجنه، وسحب جنسيته، قبل ترحيله، فاختار سويسرا ثم ألمانيا ومنها انتقل إلى فيرمونت الأميركية.

منفى آخر

  • سولجينتسين في مكتبة
    سولجينتسين في مكتبة "هوفر" عام 1976

 

في منفاه الجديد، واصل الكاتب الروسي هجومه على النظام الشيوعي، وأصدر في ذلك أعمالاً عدة منها "الترس الأحمر"، "لينين في زيورخ"، و"أشجار السرو والأمنية"، إلى جانب مجموعة قصصية تحمل عنوان "أصوات تحت الركام"، أعلن من خلال أعماله تلك إعجابه بماركس، ومعارضته التطبيق الثوري للماركسية.

إذ كان سولجينتسين يؤمن بإقامة مجتمع من دون عنف ثوري، وبلا إرهاب السلطة، واستبداد الأغلبية، وظلمها للإنسان المغاير لها. وفي الوقت نفسه بدأ دراسة الأرشيف الروسي في مكتبة "هوفر"، وحصل على شهادات ووثائق قلبت رؤيته للثورة البلشفية ودفعته إلى تعديل سلسلة رواياته المعنونة بـ"العجلة الحمراء" والمؤلفة من 4 أجزاء، وتعزيزها بمئات الصفحات الجديدة.

وقبل انهيار الاتحاد السوفياتي بقليل، وتحديداً منذ عام 1989 عادت مؤلفات سولجنتسين تنتشر مجدداً في وطنه، ونشرت مجلة "نوفي مير" فصولاً من روايته "أرخبيل غولاغ"، وبعد مرور عام أعيدت إليه الجنسية السوفياتية، ثمّ نشرت مقالته الشهيرة "كيف نعيد بناء روسيا" بـ27 مليون نسخة في الاتحاد السوفياتي.

آمن سولجينتسين بإقامة مجتمع من دون عنف ثوري وبلا إرهاب السلطة واستبداد الأغلبية وظلمها للإنسان المغاير لها. كما بدأ بدراسة الأرشيف الروسي وحصل على شهادات ووثائق قلبت رؤيته للثورة البلشفية ودفعته إلى تعديل سلسلة رواياته المعنونة بـ "العجلة الحمراء" والمؤلفة من 4 أجزاء، وتعزيزها بمئات الصفحات الجديدة.

في أيار/مايو 1994 عاد سولجينتسين إلى روسيا التي استقبلته كقديس، وكان يأمل أن يؤدي دور المرشد للنظام الجديد، لكنه أصيب بالخيبة البالغة التي دعته إلى شن هجوم على بوريس يلتسن، رافضاً أن يتسلم منه وسام الدولة الرفيع، قائلاً فيه وفي آخر رئيس للاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، إنهما فاقما الضرر، الذي ألحقته السلطة الشيوعية بالدولة الروسية على مدى 70 عاماً".

في عام 1997 استحدثت الجائزة الأدبية السنوية لألكسندر سولجنتسين ومنحت لمشاهير العلماء والكتاب والسينمائيين من أنصار الفكر السلافي والروسي، أو ممن سمّاهم "الأرضيين" الذين يكتبون عن القرية، ومن بين من فازوا بها الأكاديمي فلاديمير توبوروف والأديب فالنتين راسبوتين والكاتب ليونيد بورودين وغيره.

الأديب وبوتين

  • بوتين في زيارة لألكسندر سولجينتسين
    بوتين في زيارة لألكسندر سولجينتسين

استمر سولجنتسين في معارضته، ولم يستثنِ الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين الذي اتهمه بعدم فعل ما يكفي للقضاء على طبقة الأقلية الحاكمة. لكن أفكار الرجلين التقت تدريجاً. فقد رأى بوتين في سولجنتسين مرآة لانتقاداته الطويلة للغرب، وتأكيداً من أديب كبير لنظرة يحملها مفادها أن روسيا حضارة مختلفة لا تنطبق عليها معايير الديمقراطية الغربية، فمنحه جائزة الدولة التقديرية التي قبلها سولجنتسين، لأنه يرى أن بوتين "أيقظ الدب الروسي من سباته ليزرع الرعب في قلب أميركا"، كما قال.

لكن الجدل ظل يدور حول هذا الكاتب الروسي، فما إن صدر كتابه "مئتا عام معاً" سنة 2001، الذي تناول فيه العلاقة المعقدة بين الروس واليهود في المرحلة ما بين 1795 و1995، حتى تذكَّره اليهود الروس وذوو الهوى الغربي في روسيا، وشنوا عليه حملة مسعورة، ونقداً لاذعاً، ليؤكد سولجنتسين مرة أخرى أنه كما وصفه أحد النقاد "ضحية التوتاليتارية السوفياتية الذي تحوَّل إلى جلاد ذاكرتها".

رأى بوتين في سولجنتسين مرآة لانتقاداته الطويلة للغرب، وتأكيداً من أديب كبير لنظرة يحملها مفادها أن روسيا حضارة مختلفة لا تنطبق عليها معايير الديمقراطية الغربية، لأنه يرى أن بوتين "أيقظ الدب الروسي من سباته ليزرع الرعب في قلب أميركا".

توفي سولجنتسين نتيجة فشل في القلب قرب موسكو في 3 آب/أغسطس عام 2008 عن 89 عاماً، ودفن في السادس من الشهر نفسه في المكان الذي اختاره ضمن مقبرة دونسكوي.