محاولة إعادة جبران خليل جبران إلى نيويورك.. لماذا؟

الأمم المتحدة تحتفي بمرور 100 عام على صدور كتاب "النبي" لجبران خليل جبران.. ماذا في التفاصيل؟

  • لوحات لجبران في متحفه
    لوحات لجبران في متحفه

بمبادرة من جامعة "البلمند" اللبنانية، وبالتعاون مع لجنة "متحف جبران خليل جبران"، وبالتشارك مع الجامعة الثقافية اللبنانية في العالم، أُقيمت احتفالية في مبنى الأمم المتحدة في نيويورك لمناسبة مرور 100 عام على صدور كتاب "النبي" لجبران خليل جبران، تحت عنوان "جبران يعود إلى نيويورك بعد 100 عام".

والحقيقة أن الأعوام المئة لم تكن عودة لجبران، بل لمؤلَّفِه "النبي"، ذلك بأن جبران تُوفي عام 1931، وأصرّ، وفق وصيّةٍ له، على العودة إلى موطنه، فكان ذلك في عام الوفاة، من دون تأجيل.

سبق انتقال جبران إلى لبنان سعيه لأن يتحول إحدى محابس القدّيسين الموارنة في مدينته بشري إلى مقرّ دائم له لدى عودته النهائية إلى لبنان، وذلك قبل أن يصاب بالسلّ، الذي كان سبب رحيله المبكّر. وتلبية لتوصيته، تملّكت العائلة المحبسة، وجعلت منها مدفناً لجبران، حوّلها محبوّ جبران لاحقاً إلى متحف لمقتنياته، وإرثه الفكري وإرثه الفلسفي.

أمّا لماذا اختيار "النبي" كمناسبة لإقامة الاحتفالية، فليس من جواب عنه سوى توافق إصدار الكتاب مع العام المئة اليوم، أي عام 1923. وإعادة جبران إلى نيويورك، على غرابتها، كانت تفترض الانتظار حتى عام انتقاله إلى لبنان، أي عام 1931.

الاحتفالية لم تكن أمراً سهلاً، فلقد اختيرت لتكون معرضاً لرسوم جبرانيّة من المخصّصة لكتاب "النبي"، وبعض من رسوم أخرى، مع بعض مخطوطات، ووثائق، وأدوات الرسم التي كان يستخدمها. وهي عملية شاقّة، ومعقّدة إذا كان لعملية النقل ألّا تكون مؤذية باللوحات، والمقتنيات الجبرانيّة القيّمة، وخصوصاً مع فارق المناخ، واختلاف درجات الحرارة، بين موقعها التاريخي في متحف جبران ببشري، ونيويورك. 

النبي

  • لوحة أم جبران وشقيقتيه
    لوحة أم جبران وشقيقتيه

و"النبي" كتاب عدد صفحاته أقل من 100، ألّفه جبران بالانكليزية، وتمت ترجمته إلى أكثر من 110 لغات، ويُعَدّ من أكثر الكتب مبيعاً في العالم، واتّخذ كثيرون منه في أميركا، ومجتمعات أخرى، مرجعاً فكريّاً، وثقافيّاً، وروحيّاً، بسبب مضمونه الفلسفيّ الروحانيّ، المستلهم للشرق، وروحانيته المفقودة في خضم الحياة المادية في الغرب الأميركي.

كثيرون رأوا في "النبي" كتاباً لجبران، مُتمثّلاً دور النبي عبر نصائحه، وتعاليمه، ونظرته إلى الحياة، ونبرته التعليمية، وعودة المصطفى (جبران افتراضاً) من مدينته في جزيرة أورفليس (نيويورك افتراضاً) إلى موطنه الأصلي لبنان. 

اللغة الجبرانية مكتسَبة بالتجربة والخبرة الطويلتين في الحياة، وليس بالعلم، فلقد تلقّى جبران دراسة محدودة لأنه سافر في سن الثانية عشرة (1895) مع عائلته إلى بوسطن الأميركية، ثم عاد إلى لبنان، ومكث فيه ثلاثة أعوام، من أجل دراسة اللغتين العربية والفرنسية في مدرسة الحكمة، ثم ذهب مجدّداً إلى بوسطن من أجل الالتحاق بعائلته التي فقد نصفها بالمرض، ومنها أمه، وشقيقه، وواحدة من شقيقتيه. وعلى الرغم من المأساة، فإن جبران تابع إبداعاته، فأقام أول معرض فني له عام 1904.

إلهام المعرض فتح باباً واسعاً في حياته، أتاح له التعرف إلى ماري هاسكل، التي حلّت أماً، وشقيقة، وصديقة، وحبيبة، ناصرته في كثير من الاهتمامات، ورافقته حتى مماته، بحيث نُقِل إلى مدينته الأُمّ بشري، التي وصل إليها في 22 آب/أغسطس من العام نفسه.

روحيّة جبران

  • لوحة جبران شاباً
    لوحة جبران شاباً

كتب جبران مفعمة بروحيته، لكن من أراد تحسّس هذه الروحية من كثب، أمكنه ذلك بزيارة متحفه في بشري، في مغارة تتصدّر جبل الأرز، بين صخور ضخمة، وجرى تنظيمه على نحو يتوافق مع حاجاته، من ممرات، وصالات، وزوايا. وعند مدخل صالته، ارتفعت عبارة تتلألأ أضواءً مثالاً على ما يمكن أن يلمسه المرء من جبرانيّات: "ما زلتُ حيّاً مثلك، وواقفاً إلى جانبك".

كثيرون يتمنون أن يحضروا إلى المتحف لالتماس الروحية الجبرانية عبر كتابات له، ومقتنياته في المتحف، الذي ضم آثاره التي أرسلتها ماري هاسكل، ومجموعة من الشبان البشراويين، وضمّت أغراضه الشخصية، ومكتبته الخاصة، و441 من لوحاته الأصليّة، ومخطوطات من 550 كتاباً، من محترفه النيويوركي، إلى بشري، فاحتُفِظ بها في مدرسة المدينة، وهي تشكل ثلثي أعماله، بينما توزعت البقية عبر وسائل متعددة، ومنها 40 لوحة اشتراها المتموّل اللبناني كارلوس سليم.

أمّا المقتنيات، التي نُقلت إلى نيويورك للاحتفاء بمئوية "النبي"، فضمت 23 من لوحاته، وبعضاً من أثره، ومنها مخطوطتان لكتاب "النبي" بخطّ يده، واحدة منهما منقّحة بقلمه، وبذلك يتسنى لمن يصعب عليه زيارة المتحف البشرّاوي، الاطّلاع على ما بقي حياً من أثر جبراني.

اختيرت اللوحات مما نُشر في كتاب "النبي"، وبعض مما رسمه من وحي وادي القديسين، وبعض لوحات لصديقاته، بالإضافة إلى دفاتر، ومخطوطات ووثائق، وأدوات الرسم التي استخدمها.  

احتفالية نيويورك

  • أدوات رسم ومخطوطات
    أدوات رسم ومخطوطات

في منصة الأمم المتحدة، جرى الاحتفال بعد أن اكتملت عدّة الشغل، ووصول المقتنيات الجبرانية، وتركيبها، وتوزيعها. وحضرت المناسبة شخصيات لبنانية، وعدد من المغتربين، والمهتمين، والبعثات الدبلوماسية. وتحدّث مدير متحف جبران جوزف جعجع عن المتحف وأهمية اللقاء، وألقى رئيس جامعة البلمند الياس الوراق كلمة من وحي المناسبة، وقال: "في عصرنا، كم نحنُ في حاجةٍ إلى فلسفته، وعلمه، وتعاليمه، في زمن تطغى عليه مآسي الحروب، ويحكمه الظلم، ويتحكم فيه أشرار العالم".

وتابع الوراق قائلاً: "كم نحن في حاجة (إلى جبران) في زمن تطغى عليه حروب التدمير، والقتل، وحروب الاقتصاد والمال التي تجوِّع الناس، وتميتهم، وكلّها حروب عبثية تنتهي، كما قالَ جبران، "حيث يتصافحُ القادة، وتبقى تلك الأم تنتظرُ ولدها الشهيد"".

ومما جاء في كلمته: "بعدَ مئةِ عامٍ، بأيِّ حالٍ عدتَ يا جبران. في حالٍ نشهدُ فيها طبول الحربِ تدقُّ مضاجعَ الناسِ، وتُدمِّرَ بيوتهم وآمالهم. في حالٍ تتعاظمُ فيها أمراض البشرية، فبعضُها يأتي من تمادي الإنسان في إجرامه بإنهاكِ الطبيعةِ ومواردِها، وبعضها يأتي من فبركةِ علماء تنصّلوا من الأخلاق في علمهم، فابتدعوا أمراضاً تُهلِكُ ولا تُهلَك".

وقال أيضاً: "كم نحنُ في حاجةٍ، في زمن التطرّف الديني الأعمى، إلى من يحملُ شعاراً ما قاله جبران: "أنا مسيحي ولي فخرٌ بذلك، ولكنني أهوى النبي العربي، وأكبّر اسمه، وأحبّ مجدَ الإسلام، وأخشى زواله".

وتمنّى ختاماً أن تبقى "هذه المؤسسة صلةَ وصلٍ ووسيلةَ سلامٍ بين جميع الأمم".

تخلّلت الاحتفالَ قراءاتٌ من جبران خليل جبران بالّلغات الصينيّة، والروسيّة، والفرنسيّة، والإسبانيّة، والهنديّة، والإنكليزيّة، إلى لوحة راقصة قدّمها فادي خوري وإيليسا طورو فرانكي، وغناء مع ناجي وكريم يوسف، وعزف على العود من موريس شديد، وعرض فني من الممثلة سارة بيطار.