محترف أناشار بصبوص: تاج مملكة راشانا للنحت

في بلدة راشانا الواقعة في جبل لبنان، ثمة عائلة احترفت فن النحت، وقام آخر فنانيها بافتتاح محترف خاص يعرض فيه المنحوتات المنجزة منذ عقود. إليكم قصة "محترف أناشار بصبوص".

  • يقع المحترف في نقطة مشرفة على البحر تجعله كأنّه في حوار دائم معه
    يقع المحترف في نقطة مشرفة على البحر تجعله كأنّه في حوار دائم معه

أبصر "محترف أناشار بصبوص" النور بعد جهودٍ استغرقت أكثر من سنتين، وذلك في بلدة راشانا، قرب بلدة البترون في جبل لبنان، التي شكّلت قبلة عشاق فن النحت في لبنان، منذ أن بدأ النحت فيها أحد أبنائها، وهو ميشال بصبوص، والد أناشار، وتلاه أخوته يوسف وألفرد، أواسط القرن الماضي، فاكتسبت بلدتهم شهرتها من أعمالهم التي ملأت أركانها، وتحوّلت إلى متحف دائم في الهواء الطلق، في نقطة وسطية مرتفعة عن البحر ومنكشفة عليه، كأنّها في حوار دائم معه. 

نُصُوب الحجر والحطب والخشب والحديد تملأ الأمكنة، ولا تنتهي عدّاً، ولم يكن ينقصها إلّا تاجاً يعلنها ملكة النحت في لبنان، فكان المحترف أقرب ما يشبه هذا التاج.

يكمل أناشار بصبوص مسيرة نحاتي عائلته، وقد أعطى أبعاداً جديدة للنحت بتفاعله مع بيئته، إذ يستخدم عناصرها البائدة، فيجدّدها ويجعلها متمّمة لنهج راشانا الفني، فكان "بيدر" وكانت "رجمة"، عنصران يعزّزان صفة راشانا كمتحف، وعلى الموقع المُحْدَث، بينما تعزّز المنحوتات، التي تناهز الـ50، طابع الاحتراف على الموقع. 

يقول أناشار لـ"الميادين الثقافية": "شئته محترَفَاً، وليس متحفاً، ذلك أنَّ المتحف هو للعرض الدائم، بينما يتمتّع المحترف بصيغة متحوّلة في حركة البيع فيه".

والمحترف المُحْدَث بناء من 3 طبقات، أبعاده في اتجاهات الشمال والشرق والغرب، وله إطلالة نحو البحر على أفقه. عناصره من حجر وحديد وخشب، واستخدم بصبوص فيه الحصى الصغيرة  لفلش "البيدر" وتغطية "الرجمة"، وجعل منحدراتها متماوجة تحاكي أمواج البحر البعيد.

خطرت فكرة المحترف في بال أناشار بعد أن ضاق الموقع بالمنحوتات، فاعتمد قطعة أرض مركزاً، وحوّله بالتعاون مع صديقه المهندس المعماري جودت عرنوق إلى فكرة بناء كتلة إسمنتية خام متراصّة، عرض فيه أولى منحوتاته، التي صنعها حين كان في الـ10 من عمره برعاية والده، مستلهِماً من روحه بداية انطلاقته في عالم النحت. وتكريماً لوالدَيه، تمَّ إنشاء مساحة في المحترف تحتوي على فتحة زجاجية في السقف، تعانق السماء وتسمح بفيضٍ من الضوء العلوي، وُضِعت فيها منحوتة برونزية، تعود إلى العام 1954، من صنع ميشال بصبوص. 

يروي أناشار لـ"الميادين الثقافية" قصة المحترف، بعد أن "ضاقت مساحة حديقة الوالد ميشال بصبوص بمحتوياتها، وكذلك الغرف الداخلية، تأمّنت الأرض والإرادة لتنفيذ المشروع، وتعاونت مع متخصصين أصدقاء، وبدأنا نضع الأفكار للمحترف، ورست الآراء على اعتماد فكرة الحجم الواحد كمكعب أو مستطيل، مغروز في الأرض لجهة الشرق، ومنفلت أو طائر لجهة الغرب نحو البحر ونحو الأفق، وهناك فتحاتٌ كبيرةٌ لجهة الشمال، لأنَّ الشمال يعطينا الإنارة الأفضل للأعمال".

هناك مميزات كانت موجودة على الأرض منذ زمن بعيد، وهي "الرجمة" و"البيدر"، ففي تحضيرهم لقطعة أرضٍ للزرع، كان الفلاحون القدماء يزيلون حجارتها الكثيرة، ويجمعونها في زاوية الحقل، فتتكدّس الحجارة فوق بعضها، وتشكّل تلّة صغيرة تُعرف باسم "الرجمة". 

أمّا البيدر فهو الفسحة المستديرة التي كانت تجري عليها عملية درس سنابل القمح والشوفان، وتقطيعها بواسطة "المورج"، في حركة دائرية تتولاها دواب كالحمير أو البغال أو الثيران، وبعد التقطيع والفصل، تجري عملية فرز القش عن الحب بالتذرية، وهي مشهديّة طبيعية ابنة الحقول، باتت من الماضي.

يفيدنا أناشار أنَّ "الرجمة كانت موجودة، ورأيت أن أجعل منها حديقة العرض (landscaping)، ففي حديقة المحترف يغيب كل ما هو أخضر، وكان عندنا إرادة أن تكون فقط من بحص وحجارة، مما كان موجودا في الأرض". 

ويشرح أنَّ "للمحترف 3 طبقات، ولكلِّ طابقٍ نكهته: الطابق السفلي تظهر منه بساتين الزيتون، والأول يطلُّ على الرجمة ويحاكيها، والسطح تكملة للمشوار الذي يبدأ من فوق، حيث يعبر الزائر في حديقة ميشال بصبوص ويتمتع بالأعمال المعروضة فيها".

وبحسب بصبوص، يدور الموضوع الأبرز للمحترف حول فكرة "آلة الزمن"، لأنَّ "الزائر سيستمتع بلا شك بالسفر عبر الزمن، واستكشاف عالم الفن الحديث، والعودة الى الماضي، بالفضول النَهِم نفسه، كذاك الذي يدفعه للسفر باستمرار إلى أماكن جديدة حول العالم".

ويضيف أنَّ "المبنى مصنوعٌ من الباطون، وأردت أن يكون البحص الرفيع هو الأساسي في المساحة العليا، والبيدر الذي يكون عادةً من التراب جعلته من بحص، والمحترف فيه تنوّع بين الليل والنهار، ولا تقلّ واحدة من طبقاته جمالاً عن الأخرى".

استخدم بصبوص في صنع نُصُوب محترفه فولاذ كورتن، والفولاذ المقاوم للصدأ، والرخام، والخشب، والألومنيوم، والبازلت، والإسمنت، وتعود هذه المجموعة المتنوعة إلى الفترة الممتدّة من العام 2017 حتى العام الحالي. 

تشمل أعماله المصمّمة بدقة عمل "Météorite"، الذي اختير للمشاركة في معرض "Artcurial" في موناكو، إلى جانب مجموعة من المنحوتات لفنانين معروفين.

كما تُعرض أعماله في "معهد العالم العربي" في باريس، ودار "كريستيز" للفنون الرائدة  في العالم. وتنتشر منحوتاته وسط المجموعات العامة والخاصة في لبنان وبلدان عديدة من العالم، مثل كندا، فرنسا، الأردن، الكويت، قطر، سنغافورة، إسبانيا، السويد، السعودية، الولايات المتحدة الأميركية، المملكة المتحدة، والإمارات. العربية المتحدة)، بما في ذلك المتاحف والفنادق والمنازل الخاصة والحدائق.